فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وصيغة مَفْعَل وفُعَال في أسماء الأعداد من واحد إلى أربعة، وقيل إلى ستة وقيل إلى عشرة، وهو الأصح، وهو مذهب الكوفيّين، وصحّحه المعرّي في شرح ديوان المتنبيّ عند قول أبي الطّيب:
أُحَاد أم سُدَاسٌ في آحاد ** لُيَبْلَتُنَا المَنوطةُ بالتنادي

تدُلّ كلّها على معنى تكرير اسم العدد لقصد التوزيع كقوله تعالى: {أولي أجنحة مَثْنَى وثُلاث ورُباع} [فاطر: 1] أي لطائفة جناحان، ولطائفة ثلاثة، ولطائفة أربعة.
والتوزيع هنا باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطَّول، فمنهم فريق يستطيع أن يتزوّجوا اثنتين، فهؤلاء تكون أزواجهم اثنتين اثنتين، وهلمّ جرّا، كقولك لجماعة: اقتسِموا هذا المال درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، على حسب أكبركم سنًّا.
وقد دل على ذلك قوله بعد: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة}.
والظاهر أنّ تحريم الزيادة على الأربع مستفاد من غير هذه الآية لأنّ مجرّد الاقتصار غير كاف في الاستدلال ولكنّه يُستأنس به، وأنّ هذه الآية قرّرت ما ثبت من الاقتصار، على أربع زوجات كما دلّ على ذلك الحديث الصحيح: إنّ غيلان بن سلمة أسلم على عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعًا وفارق سائرهنّ».
ولعلّ الآية صدرت بذكر العدد المقرّر من قبل نزولها، تمهيدًا لشرع العدل بين النساء، فإنّ قوله: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} صريح في اعتبار العدل في التنازل في مراتب العدد ينزل بالمكلّف إلى الواحدة.
فلا جرم أن يكون خوفه في كلّ مرتبة من مراتب العدد ينزل به إلى التي دونها.
ومن العجيب ما حكاه ابن العربي في الأحكام عن قوم من الجهّال لم يعيّنهم أنّهم توهّموا أنّ هذه الآية تبيح للرجال تزوّج تسع نساء توهّما بأنّ مثنَى وثُلاث ورُباع مرادفة لاثنين وثلاثًا وأربعًا، وأنّ الواو للجمع، فحصلت تسعة وهي العدد الذي جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه، وهذا جهل شنيع في معرفة الكلام العربي.
وفي تفسير القرطبي نسبة هذا القول إلى الرافضة، وإلى بعض أهل الظاهر، ولم يعيّنه.
وليس ذلك قولًا لداوود الظاهري ولا لأصحابه، ونسبه ابن الفرس في أحكام القرآن إلى قوم لا يعبأ بخلافهم، وقال الفخر: هم قوم سُدى، ولم يذكر الجصّاص مخالفًا أصلًا.
ونسب ابن الفرس إلى قوم القول بأنّه لا حصر في عدد الزوجات وجعلوا الاقتصار في الآية بمعنى: إلى ما كان من العدد، وتمسّك هذان الفريقان بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع نسوة، وهو تمسّك واه، فإنّ تلك خصوصية له، كما دلّ على ذلك الإجماع، وتطلُّب الأدلّة القواطع في انتزاع الأحكام من القرآن تطلّب لما يقف بالمجتهدين في استنباطهم موقف الحيرة، فإنّ مبنى كلام العرب على أساس الفطنة.
ومسلكه هو مسلك اللمحة الدالّة. اهـ.

.قال الفخر:

قال أهل التحقيق: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} لا يتناول العبيد وذلك لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها، والعبد ليس كذلك بدليل أنه لا يتمكن من النكاح إلا باذن مولاه، ويدل عليه القرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} [النحل: 75] فقوله: {لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} ينفي كونه مستقلا بالنكاح، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» فثبت بما ذكرناه أن هذه الآية لا يندرج فيها العبد.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: ذهب أكثر الفقهاء إلى أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد، وقال مالك: يحل للعبد أن يتزوج بالأربع وتمسك بظاهر هذه الآية.
والجواب الذي يعتمد عليه: أن الشافعي احتج على أن هذه الآية مختصة بالأحرار بوجهين آخرين سوى ما ذكرناه: الأول: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} وهذا لا يكون إلا للأحرار، والثاني: أنه تعالى قال: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شيء مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء: 4] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر، بل يكون لسيده قال مالك: إذا ورد عمومان مستقلان، فدخول التقييد في الأخير لا يوجب دخوله في السابق.
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن هذه الخطابات في هذه الآيات وردت متوالية على نسق واحد فلما عرف في بعضها اختصاصها بالأحرار عرف أن الكل كذلك، ومن الفقهاء من علم أن ظاهر هذه الآية متناول للعبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس، قالوا: أجمعنا على أن للرق تأثيرًا في نقصان حقوق النكاح، كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر، والجواب الأول أولى وأقوى والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
ذهب قوم سدى إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد، واحتجوا بالقرآن والخبر، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه: الأول: أن قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا.
والثاني: أن قوله: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} لا يصلح تخصيصا لذلك العموم، لأن تخصيص بعض الاعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي، بل نقول: إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا، فإن الإنسان إذا قال لولده: افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقًا، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقًا، ولا يكون ذلك تخصيصًا للاذن بتلك الأشياء المذكورة، بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا ههنا، وأيضًا فذكر جميع الأعداد متعذر، فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد.
والثالث: أن الواو للجمع المطلق فقوله: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} يفيد حل هذا المجموع، وهو يفيد تسعة، بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر، لأن قوله: {مثنى} ليس عبارة عن اثنين فقط، بل عن اثنين اثنين وكذا القول في البقية.
وأما الخبر فمن وجهين: الأول: أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع، ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال: {فاتبعوه} وأقل مراتب الأمر الاباحة.
الثاني: أن سنة الرجل طريقته، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان ذلك سنة له، ثم إنه عليه السلام قال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني».
فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.
واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين: الأول: الخبر، وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أمسك أربعا وفارق باقيهن، وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام: «أمسك أربعا وفارق واحدة» واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين: الأول: أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز.
والثاني: وهو أن الخبر واقعة حال، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بامساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز، إما بسبب النسب، أو بسبب الرضاع، وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله.
الطريق الثاني: وهو إجماع فقهاء الامصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد، وفيه سؤالان: الأول: أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ، فكيف يقال: الإجماع نسخ هذه الآية.
الثاني: أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع، والإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد.
والجواب عن الأول: الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الثاني، أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته.
فإن قيل: فإذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال: مثنى أو ثلاث أو رباع، فلم جاء بواو العطف دون أو؟
قلنا: لو جاء بكلمة أو لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك إلا على أحد هذه الأقسام، وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية، والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام، ونظيره أن يقول الرجل للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف، درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين، ولبعض آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة، فكذا هاهنا الفائدة في ترك أو وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحصر الإجماع فإنه قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف، ولا يشترط في الإجماع اتفاق كل الأمة من لدن بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة كما يوهمه كلام الإمام الغزالي، وإلا لا يوجد إجماع أصلًا، وبهذا يستغنى عما ذكره الإمام الرازي وهو أحد مذاهب في المسألة من أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته، فالحق الذي لا محيص عنه أنه يحرم الزيادة على الأربع وبه قال الإمامية ورووا عن الصادق رضي الله تعالى عنه لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام، وشاع عنهم خلاف ذلك، ولعله قول شاذ عندهم.
ثم إن مشروعية نكاح الأربع خاصة بالأحرار، والعبيد غير داخلين في هذا الخطاب لأنه إنما يتناول إنسانًا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» ولأن في تنفيذ نكاحه تعيبًا له إذ النكاح عيب فيه فلا يملكه بدون إذن المولى، وأيضًا قوله تعالى بعد: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} لا يمكن أن يدخل فيه العبيد لعدم الملك فحيث لم يدخلوا في هذا الخطاب لم يدخلوا في الخطاب الأول لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فبعيد أن يدخل في الخطاب السابق ما لا يدخل في اللاحق وكذا لا يمكن دخولهم في قوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شيء مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء: 4] لأن العبد لا يأكل فيكون لسيده، وخالف في ذلك الإمام مالك فأدخل العبيد في الخطاب، وجوز لهم أن ينكحوا أربعًا كالأحرار ولا يتوقف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح، ومن الفقهاء من ادعى أن ظاهر الآية يتناولهم إلا أنه خصص هذا العموم بالقياس لأن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يجعل للعبد نصف ما للحر فيه أيضًا. اهـ.