فصل: مطلب: حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن حوريا وعمر بن الخطاب وقوة إيمانه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: حرص اليهود على الدنيا وعداوتهم لجبريل عليه السلام وابن حوريا وعمر بن الخطاب وقوة إيمانه:

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ} يا سيد الرسل: {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ} أي لا أحرص منهم عليها: {وَ} حتى أنهم أحرص: {مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} على الحياة مع أنهم لا كتاب لهم يعلمون منه أن هناك دارا أخرى ينعم بها المؤمن ويعذب فيها الكافر فلا لوم عليهم إذا حرصوا على البقاء في الدنيا، وفي هذه الآية زيادة توبيخ لليهود لأنهم يقرون بالمعاد ويتأهبون له، ويحرصون على الدنيا أكثر من المشركين الذين لا يعترفون به.
ثم بين شدة حرصهم بقوله جل قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} يا حسرهم وأسفهم لأنه لا ينفعهم تعميرهم مهما كان: {وَما هُوَ} تعميرهم تلك المدة لو كان واقعا فإنه ليس: {بِمُزَحْزِحِهِ} ومباعده أو محركه: {مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ} تلك المدة أو أكثر منها، لأن مرجعه الآخرة ليبصر نتيجة أعماله: {وَاللَّهُ بَصِير بِما يَعْمَلُونَ} [96] في دنياهم لا يخفى عليه شيء منه ومجازيهم عليها في الآخرة، ولما قال عبد اللّه بن صوريا أحد أحبار اليهود إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم أي ملك يأتيك من السماء؟ قال جبريل، قال هو عدونا فلو جاءك ميكائيل لآمنا بك، جبريل ينزل بالعذاب، ولأن اللّه تعالى أخبر نبينا أن بختنصر يخرب بيت المقدس ويهلكنا قتلا وتدميرا، وقد بعثنا رجلا ليقتله ببابل فدافع عنه جبريل قائلا له إن كان اللّه أمره بهلاككم فلن تسلطوا عليه، وإن لم يكن هو فعلى أي شيء تقتله، وكان بختنصر وهو الذي دافع عنه حتى بقي حيا وفعل ما فعل فينا، فأنزل اللّه تعالى: {قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} بسبب إتيانه بالقرآن لك وإنزاله من لدنا عليك يا سيد الرسل: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} أي القرآن كناية عن مذكور وإضمار ما لم يسبق ذكره يكون للتفخيم إذ يجعله لفرط شهرته دالا على نفسه.
وهذا شائع في كل مشهور متعارف، أي إن الذي يكره جبريل من أجل إنزال القرآن: {عَلى قَلْبِكَ} يا سيد الرسل: {بِإِذْنِ اللَّهِ} الذي أمره بذلك ولم يفعله من تلقاء نفسه، وكان ذلك القرآن: {مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب السماوية: {وَهُدىً وَبُشْرى} من اللّه: {لِلْمُؤْمِنِينَ} [97] بحسن العاقبة، قل لهم يا سيد الرسل: {مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ} كان عدوا للّه، ومن كان عدوا للّه فهو كافر، ولهذا قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوّ لِلْكافِرِينَ (98)} قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لما سمع قول عدو اللّه بن صوريا من كان عدوا لأحدهما أي جبريل وميكايل فهو عدو للآخر، ومن كان عدوا لهما كان عدوا للّه، فلما نزلت هذه الآية قال صلّى اللّه عليه وسلم لعمر قد وافقك ربك يا عمر، فقال واللّه لقد رأيتني في ديني بعد ذلك أصلب من الحجر.
أي أنه لم يغتر بذلك كما وقع لعبد اللّه بن أبي سرح المار ذكره في الآية 14 من المؤمنين، وذلك أن القرآن العظيم كما ذكرنا في الآية 44 من سورة فصلت نور لأناس ضلال لآخرين بآن واحد، لأن سيدنا عمر زادته إيمانا موافقته لربه في هذه الآية، وعبد اللّه بن أبي سرح لما رأى ما خطر بباله من إكمال الآية المذكورة وهي جملة: {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} ونزلت الآية بها ارتد والعياذ باللّه وقال ما قال فأنزل اللّه فيه: {وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية: 93: من الأنعام، ولما قال عدو اللّه المذكور ما جئتنا بشيء يا محمد ولم ينزل اللّه عليك آية أنزل اللّه تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ} لا تحتاج إلى نظر أو تدبر: {وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ} [99] الخارجون عن الطاعة، لأن آيات القرآن واضحة كافية لمن يريد الإيمان بها والاعتراف بمنزلها والتصديق لمن أنزلت عليه، ومن لم يرد لو ملأت له الدنيا آيات ينتفع بها أبدا.
ولما قال مالك بن الصيف واللّه ما عهد اللّه إلينا في محمد عهدا أي في لزوم الإيمان به أنزل اللّه تعالى: {أوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ} أي طرحه وقذفه: {فَرِيق مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [100] أن نقض الميثاق وجحود الحق ذنب يؤاخذ عليه وإلا لما فعلوه ولاعترفوا بعهد اللّه الذي أخذه عليهم بالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم.
{وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُول مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} هو محمد صلّى اللّه عليه وسلم بدليل قوله: {مُصَدِّق لِما مَعَهُمْ} من التوراة: {نَبَذَ فَرِيق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} التوراة: {كِتابَ اللَّهِ} الذي أنزل عليه وهو القرآن بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول.
وقال بعض المفسرين إن المراد بكتاب اللّه في هذه الآية هو الإنجيل، لأنه نزل بعد التوراة وليس بشيء، لعدم سبق ذكره، لأن المكالمة هذه كلها مع اليهود.
وقال أكثرهم إن المراد به التوراة، لأن المعرفة إذا أعيدت كانت عين الأولى، ولأن النبذ لا يكون إلا بعد التمسك، والأول الذي جرينا عليه الأولى، لأن الكلام مع حضرة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم لا مع عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أن الرسول محمد يصدق ما بأيديهم من التوراة وهم بالعكس يكذبون ما جاءهم به من القرآن، ويتركونه ولا يؤمنون به مع أنه مصدق لكتابهم، فكأنهم نبذوه: {وَراءَ ظُهُورِهِمْ} لعدم التقيد به والنظر إليه: {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [101] شيئا مما جاء فيه حسدا وعداوة بمحمد، مع أنهم مأمورون باتباعه في كتابهم.
قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ} من السحر والشعوذة: {عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ} في زمانه وعهده، وذلك أنه فشى في بني إسرائيل أن الشياطين يعلمون الغيب، فلما بعث سليمان عليه السلام جمع ما دونته الكهنة من أخبار الشياطين ودفنه تحت كرسيه، وقال لا أسمع بعد الآن أحدا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فانتهوا، فلما مات سليمان تمثل الشيطان بصورة إنسان.
وقال لبني إسرائيل هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا، قالوا نعم، قال احفروا تحت هذا الكرسي وأراهم مكانه وتباعد، فقالوا له أدن قال لا، وإنما قال لا لأن الشيطان إذا دنا من كرسيه احترق بأمر اللّه، وقال لهم إذا لم تجدوا ما ذكرته لكم فاقتلوني، فحفروا فرأوا تلك الكتب فأخرجوها، فقال لهم إن سليمان كان يحكم الجنّ والإنس والطير بهذه الكتب، فدونكم إياها واحرصوا عليها فهي الكنز الذي لا ينفد، ثم غاب عنهم، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، ولذلك فإن أكثر السحر يوجد عند اليهود، فأنزل اللّه تعالى براءته بقوله عز قوله: {وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} لأنهم: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} ويأمرونهم به، ولم يكن سليمان ساحرا وإنما كان نبيا، وصاروا يدونون السحر ويعلمونه للناس لإغوائهم، وَيعلمون الناس أيضا: {ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ} بلدة قديمة بأرض الكوفة من العراق، سميت بذلك على ما قيل، لأن تبلبل الألسن وقع فيها، ويفهم من قوله تعالى: {وَما كَفَرَ} أن تعلم السحر كفر، وقدمنا ما يتعلق به في الآية 52 من سورة الشعراء، وهذا ما يدل على وجود الشياطين واختلاطهم مع البشر وأنهم كانوا قبل خلق آدم يسكنون الأرض بصورة ظاهرة كما بيناه في [الآية 30] وما ترشدك إليه من المواقع.

.مطلب: في السحرة وهاروت وماروت والحكم الشرعي في السحر والساحر وتعلمه وتعليمه والعمل به:

هذا وسبب إنزال الملكين على ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره أن الحكمة من ذلك هو أن السحرة كانوا يسترقون السمع من الشياطين ويلقون ما يسمعون بين الخلق، فيشتبه بالوحي النازل على الأنبياء، فأنزلهما اللّه تعالى إلى الأرض ليعلما الناس السحر فيظهر بذلك الفرق بين كلام اللّه تعالى وكلام السحرة.
وقال ابن جرير الطبري إن اللّه عرّف عباده جميع ما أمرهم ونهاهم ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم بما أمروا به ونهوا عنه، ولو كان الأمر على غير ذلك لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم، والسحر مما نهى عباده عنه من بني آدم، فغير منكر أن يكون اللّه تعالى علّمه الملكين اللذين سماهما: {هارُوتَ وَمارُوتَ} اسمين أعجميين سريانيين وجعلهما فتنة لعباده كما أخبر عنهما بقوله: {وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَة} ابتلاء ومحنة: {فَلا تَكْفُرْ} أي لا تتعلم السحر فتكفر إذا عملت به عملا يخالف شريعتك التي أمرك اللّه بها على لسان رسله باتباعها، حذار حذار أيها الإنسان، ومقاربة ما يؤدي إلى الكفر، وإنما يقولان ذلك ليختبر اللّه عباده الذين نهاهم عن السحر وعن التفريق الملمع به إليهما بقولِه جل قولُه: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} فيمتحض المؤمن بتركه ويجترئ الكافر على تعلمه والعمل به، وعلى هذا فيكون الملكان في هذا التعليم مطيعين للّه تعالى إذ كان بإذنه، ولا يضرهما سحر من سحر بعد نهيهما إياه عنه، لأنهما أديا ما أمرا به، ومما يدل على أن السحر لا تأثير له بنفسه، قوله تعالى: {وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وهذا نص قاطع في عدم تأثيره، فلا عبرة بقول من يقول إن له تأثيرا ويخشى عليه الكفر إلا إذا تأول، وإلا فهو كافر بلا خلاف لمخالفته كلام اللّه تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ} هؤلاء السحرة: {ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا} أولئك اليهود، لأن الكلام مرتبط بقوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا} [الآية 24].
وقصة السحر مستطردة حتى لو حذفتها على سبيل الفرض إذ لا يجوز حذف حرف واحد من القرآن على القطع ويكفر فاعله، فوصلت ما بعدها بما قبلها لا ستقام المعنى مع استقامته معها، وهذا شأن جميع الآيات المعترضات في القرآن العظيم وهو من خصوصيات بلاغته، وقوة سبكه، وحسن نظمه، ومتانة معناه، وفصاحة مبناه، ومن جملة إعجازه، جل منزله والخيبة: {لَمَنِ اشْتَراهُ} استبدل ما تتلوا الشياطين بما في كتاب اللّه تعالى واختاره عليه، ومن كان هذا شأنه: {ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} حظ ولا نصيب فيها: {وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي الذين باعوها به: {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} أن السحر والكفر سبب حرمانهم من الجنة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} بمحمد وما جاءهم به: {وَاتَّقَوْا} الكفر والسحر: {لَمَثُوبَة} لهم: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْر} لهم مما يتقاضونه من الثمن البخس بغضب اللّه: {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} أن ثواب اللّه تعالى خير لهم من ذلك، وإن النجاة باتباع الدين الحق ليس بالشعوذة.
هذا، واعلم أن السحر له وجود وحقيقة، والعمل به كفر إذا اعتقد بتأثيره بنفسه، أما إذا اعتقد أن المؤثر الحقيقي هو اللّه تعالى، فلا، وهو قد يؤثر بتأثير اللّه تعالى في الأبدان بالأمراض والجنون، وربما أدى إلى الموت، لأن للكلام تأثيرا في الطباع، فقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمّ له، وقد مات رجال من كلام سمعوه بتقدير اللّه تعالى موتهم عليه، منهم عبد الواحد بن زيد وغيره كثيرون، وقال الأحنف بن قيس واللّه إني لأسمع الكلام أحمّ له ثلاثة أيام.
الحكم الشرعي:
السحر من الكبائر التي نهى اللّه عنها، وتعلمه للعمل به حرام، وقد عده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من السبع الموبقات في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وأخرجه الشيخان في الصحيحين، وقد أمرتا باجتنابه، ولا يسعنا إلا الامتثال، وهو من حيث تعلمه على قسمين الأول يكفر صاحبه إذا اعتقد أن القدرة الحاصلة من التأثير نفسه حينما يفعله وهو المؤثر فيه كما إذا اعتقد المنجم أن الكواكب هي المؤثرة للفعالة فيما يقع من العوارض الكونية، وفي هذه الحالة يجب قتله شرعا بدليل ما رواه جندب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: حد الساحر أي الذي هذه صفته ضربه بالسيف. أخرجه الترمذي.
والثاني التخييل والتمويه بما يشاكل النيرجيّات والشعبذة التي لا يعتقد صاحبها قدرة لنفسه فيها، كمثل من يعتقد تأثير الكواكب بقدرة اللّه تعالى، ففي هذه الحالة تكون معصيته من الكبائر التي يحرم فعلها ولا تستوجب القتل كفرا.
هذا، وما ذكروا من قصة هاروت وماروت من أن الملائكة قالت يا ربنا إن الذين اخترتهم لعمارة أرضك يعصونك، وإن اللّه قال لهم لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثلهم، وإنهم قالوا سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك، وانهم اختاروا من خيارهم عزا وعزاليا أي هاروت وماروت، فأهبطهما اللّه إلى الأرض وأمرهما أن يحكما فيها بالعدل، وبقيا شهرا على استقامتهما حتى اختصم إليهما امرأة تسمى الزهراء، وهنا حذف تاء التأنيث من فعل اختصم لوقوع الفعل بين الفعل والفاعل كقولهم جاء القاضي بنت الواقف، وهكذا كلما فعل بين الفعل الذي فاعله مؤنث وبعضهم أجازه مطلقا سواء كان الفاعل مؤنثا أم لا، واستدل بقول لبيد:
تمنّ ابنتاي أن يعيش أبوهما ** وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

فإن يأت يوم يموت أبوكما ** فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر

وقولا هو المرء الذي لا حليفه ** أضاع ولا خان الصديق ولا غدر

إلى الحول ثمّ امم السلام عليكما ** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

لكن ما جاء في الشعر لا يصلح غالبا للاستدلال، إذ يجوز فيه ما لا يجوز في النثر.
قالوا وكانت من أجمل الناس، فراوداها عن نفسها فأبت، إلا أن يقضيا لها على خصمها ففعلا، وبعد أن قضيا لها قالت لهما إلا أن تشربا الخمر، فأجاباها وشربا، فقالت لهما إلا أن تسجدا للصنم وتقتلا الرجل الذي قضيتما لي عليه، ففعلا ذلك أيضا، ثم قالت لهما إلا أن تعلماني الاسم الأعظم الذي به ترتفعان إلى السماء، فعلماها إياه فمكتبهما من نفسها، ثم طارت إلى السماء فمسخها اللّه كوكبا، فلما أفاقا من سكرهما، وأرادا الصعود إلى السماء كعادتهما فلم يقدرا وعلما ما حل بهما من غضب اللّه تعالى، فذهبا إلى إدريس عليه السلام إذ كانت هذه الحادثة المزعومة في زمنه عليه السلام ليستشفعاه بأمرهما، ففعل، فخيرهما اللّه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا لعلمها أنه فان كالدنيا، فخسف بهما، فهما يعذبان حتى الآن، قالوا وإن رجلا قصدهما ليتعلم منهما السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما، فقال لا إله إلا اللّه، فقالا مثله وسألاه، فقال أنا رجل من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم، قال ففرحا بقرب خلاص عذابهما، لأنهما يعلمان أنه نبي آخر الزمان.
فقصة باطلة لا أصل لها، وذلك لأن قولهم سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك ردّ على اللّه تعالى الذي قال لهم لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لعصيتموني، وهذا كفر لم اثبت لأنهم معصومون قبل ذلك، فلا يجوز التصديق بوقوع هذا منهم، وقد اجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلاء، واتفقت ائمة المسلمين على أن حكم الرسول من الملائكة حكم الأنبياء في البلاغ عن اللّه تعالى والعصمة من الذنوب، ولأن اللّه تعالى لا يخير المشرك فكيف يخيرهما بين عذاب الدنيا والآخرة، وما خلق عذاب الآخرة إلا للمشركين والعاصين، وعلى القول بتوبتهما فإن صح فلا عقوبة عليهما، لأن باب التوبة مفتوح ولم يكونا بحالة يأس أو بأس، أما المرأة فلا يعقل أن تصعد إلى السماء بعد أن فجرت، وكيف بصيرها اللّه كوكبا وقد عظم اللّه الكواكب وأقسم بها، تدبر هذا تعلم أنها قصة لا حقيقة لها، كما أن من قال إن الملكين هما رجلان صالحان وقرأ بكسر اللام فهي قراءة لا صحة لها ولا توجد في السبعة، وإن الذي أنزل على الملكين قد لا يكون سحرا، إذ لم يذكر في الآية حقيقة ما أنزل عليهما، وقد يكون واللّه أعلم شيء من الرقى والأدعية والتعاويذ التي يجوز تعليمها وتعلمها، والتي هي أشبه بالسحر لدى الناس، ولهذا فإن الملكين قالا ما يبرئ ساحتهما من السحر بلفظ فلا تكفر أيها الإنسان أي فتعلم الناس السحر بدل الرقيا، فإن تعليمه حرام قد بوصل إلى الكفر.
وما ذكرناه موافق لظاهر القرآن وكل ما جاء على خلافه مما ذكره الغير قول لا يعضده شيء من السنة فلا يركن إليه من له إلمام بفقه معاني التنزيل، واللّه أعلم.
وقدمنا ما يتعلق بالسحر والشعوذة آخر سورة الناس والآية 42 من سورة النجم والآية 45 من سورة الشعراء.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا} وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول اللّه، أي راقبنا وانظرنا حتى نحفظ عنك ونفهم قولك، ولا يعلمون أن هذه اللفظة بلغة اليهود بالسريانية كلمة سب بمعنى أحمق، فقالت اليهود كنا نسبّه سرا فالآن نسبه علانية، وصاروا يأتون رسول اللّه ويقولون راعنا يا محمد، وقد تفطن لها سعد بن معاذ رضي اللّه عنه وأرضاه، فقال لئن سمعتها من أحد لأضربن عنقه، فقالت اليهود ألستم تقولونها؟
فقال إنا نريد بها أمهلنا لا تعجل علينا، وأنتم تريدون غير ذلك قاتلكم اللّه ما ألعنكم وأخبثكم، فنهاهم اللّه تعالى عن قولها صيانة لكرامة حبيبه من الخبثاء.
{وَاسْمَعُوا} أيها الناس نهي اللّه تعالى عن هذه الكلمة لا تقولوها أبدا: {وَلِلْكافِرِينَ} الذين يقولونها قصدا ولا يمتثلون نهي اللّه: {عَذاب أَلِيم} في الآخرة وخزي عظيم في الدنيا، قال تعالى: {ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ} الذين لم يتقيدوا بكتابهم وكذبوا الرسل: {وَلَا الْمُشْرِكِينَ} من عبدة الأوثان: {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أيها المؤمنون لأنهم كرهوا نزول الوحي على الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم حسدا وبغيا، وذلك أن اليهود قالوا لحلفائهم المؤمنين حين كلفوهم الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن فيه، ولوددنا لو كان خيرا لاتبعناه، فأكذبهم اللّه تعالى في هذه الآية كما أكذب المشركين في الآية 125 من سورة الأنعام، وقطع قلوبهم بقوله عز قوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} من عباده، وهذه الجملة رد لقولهم إن النبوة فيهم وليست في العرب، وإن محمدا من العرب ليس منهم، أي لا تحديد لإرادة اللّه فإنه يختص نبوته من يريد تفضلا منه عليه: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ولهذا اختص بها محمدا صلّى اللّه عليه وسلم.