فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} الآية.
هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن وهي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} الآية.
والجواب عن هذا:
أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية، والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر، والمقصود من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية كما يدل عليه قوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} الآية.
وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك ابن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} نزلت في عائشة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها.
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تملني فيما تملك ولا أملك، يعني القلب، انتهى من ابن كثير. اهـ.

.قال الطبري:

وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: تأويلها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجورُوا فيه منهن، من واحدة إلى الأربع، فإن خفتم الجورَ في الواحدة أيضًا، فلا تنكحوها، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن.
وإنما قلنا إنّ ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخَلطها بغيرها من الأموال، فقال تعالى ذكره: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}. ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرّجوا فيه، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرّج في أمر النساء، مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن، كما عرّفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى، فقال: انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم، ما أبحت لكم منهن وحلّلته، مثنى وثُلاث ورباع، فإن خفتم أيضًا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة، بأن لا تقدروا على إنصافها، فلا تنكحوها، ولكن تسرَّوا من المماليك، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن، لأنهن أملاككم وأموالكم، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور.
ففي الكلام- إذ كان المعنى ما قلنا- متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره. وذلك أن معنى الكلام: وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم، فلا تتزوجوا منهنّ إلا ما أمنتم معه الجور مثنى وثلاث ورباع، وإن خفتم أيضًا في ذلك فواحدة. وإن خفتم في الواحدة، فما ملكت أيمانكم فترك ذكر قوله: فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء، بدلالة ما ظهر من قوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم}.
فإن قال قائل: فأين جواب قوله: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى}؟
قيل: قوله: {فانكحوا ما طاب لكم}، غير أن المعنى الذي يدل على أن المراد بذلك ما قلنا قوله: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا}.
وقد بينا فيما مضى قبلُ أن معنى الإقساط في كلام العرب: العدل والإنصاف وأن القسط: الجور والحيف، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأم االيتامى، فإنها جمع لذكران الأيتام وإناثهم في هذا الموضع.
وأما قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، فإنه يعني: فانكحوا ما حلَّ لكم منهن، دون ما حُرِّم عليكم منهنّ، فإن قال قائل: وكيف قيل: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، ولم يقل: فانكحوا مَنْ طاب لكم؟ وإنما يقال: ما في غير الناس.
قيل: معنى ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معناه: فانكحوا نكاحًا طيبًا، فالمعنيّ بقوله: {ما طاب لكم}، الفعل، دون أعيان النساء وأشخاصهنَّ، فلذلك قيل: {ما} ولم يقل من، كما يقال: خذ من رقيقي ما أردت، إذا عنيت: خذ منهم إرادتك. ولو أردت: خذ الذي تريد منهم، لقلت: خذ من رقيقي من أردت منهم. وكذلك قوله: {أو ما ملكت أيمانكم}، بمعنى: أو ملك أيمانكم.
وإنما معنى قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع}، فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع، كما قيل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [سورة النور: 4].
وأما قوله: {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة}، فإن نصب واحدة، بمعنى: فإن خفتم أن لا تعدلوا فيما يلزمكم من العدل ما زاد على الواحدة من النساء عندكم بنكاح، فيما أوجبه الله لهن عليكم فانكحوا واحدة منهن.
ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالرفع، كان جائزًا، بمعنى: فواحدة كافية، أو: فواحدة مجزئة، كما قال جل ثناؤه: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [سورة البقرة: 282].
وإن قال لنا قائل: قد علمت أن الحلال لكم من جميع النساء الحرائر، نكاحُ أربع، فكيف قيل: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع}، وذلك في العدد تسع؟
قيل: إن تأويل ذلك: فانكحوا ما طاب لكم من النساء، إما مثنى إن أمنتم الجور من أنفسكم فيما يجب لهما عليكم وإما ثلاث، إن لم تخافوا ذلك وإما أربع، إن أمنتم ذلك فيهن.
يدل على صحة ذلك قوله: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة}، لأن المعنى: فإن خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة. ثم قال: وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضًا في الواحدة، فما ملكت أيمانكم.
فإن قال قائل: فإن أمر الله ونهيه على الإيجاب والإلزام حتى تقوم حجة بأن ذلك على التأديب والإرشاد والإعلام، وقد قال تعالى ذكره: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، وذلك أمر، فهل من دليل على أنه من الأمر الذي هو على غير وجه الإلزام والإيجاب؟
قيل: نعم، والدليل على ذلك قوله: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة}. فكان معلومًا بذلك أن قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، وإن كان مخرجه مخرج الأمر، فإنه بمعنى الدلالة على النهي عن نكاح ما خاف الناكح الجورَ فيه من عدد النساء، لا بمعنى الأمر بالنكاح، فإن المعنيّ به: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى، فتحرجتم فيهن، فكذلك فتحرّجوا في النساء، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجورَ فيه منهن، ما أحللته لكم من الواحدة إلى الأربع.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن العرب تُخرِج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد، كما قال جل ثناؤه: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [سورة الكهف: 29]، وكما قال: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [سورة النحل: 55، سورة الروم: 34]، فخرج ذلك مخرج الأمر، والمقصود به التهديد والوعيدُ والزجر والنهي، فكذلك قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، بمعنى النهي: فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء.
قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا}.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره وإن خفتم أن لا تعدلوا في مثنى أو ثلاث أو رباعَ فنكحتم واحدة، أو خفتم أن لا تعدلوا في الواحدة فتسررتم ملك أيمانكم، فهو {أدنى} يعني: أقرب، {ألا تعولوا}، يقول: أن لا تجوروا ولا تميلوا. اهـ. بتصرف.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} شرط، وفي جوابه وجهان:
أحدهما: أنه قوله: {فانكحوا} وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ، والعشر، ولا يقومون بحقوقهن، فلمَّا نزلت {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ} أخذوا يَتحرّجونَ من ولاية اليتامى، فقيل لهم: إن خفتم من الجورِ في حقوق اليتامى فخافوا أيضًا من الجور في حقوق النساء، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع من الأجنبيات أي: اللاتي لسن تحت ولايتكم، فعلى هذا يحتاج إلى تقدير مضاف، أي: في نكاح يتامى النساء.
فإن قيل: {فواحدة} جواب لقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} فكيف يكون جوابًا للأول؛ فالجواب: أنَّهُ أَعَادَ الشرط الثاني لأنه كالأول في المعنى، لما طالَ الفصل بين الأول وجوابه وفيه نظر لا يخفى. والخوف هنا على بابه فالمراد به الحذر.
وقال أبو عبيدة إنه بمعنى اليقين وأنشد الشاعر: [الطويل]
فَقُلْتُ لهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ** سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِي الْمُسَرَّدِ

أي: أيقِنُوا، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيْقُ ذلك والردُّ عليه عند قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229].
قوله: {أَلاَّ تُقْسِطُواْ} إنْ قَدَّرَتْ أنها على حذف حرف الجر، أي: مِنْ أن لا ففيها الخلاف المشهور أي: في محل نصب أو جر، وإنْ لم تقدّر ذلك بل وصل الفعل إليها بنفسه، كأنك قلت: فَإنْ حَذَرْتم فهي في محل نصب فقط كما تَقَدَّمَ في البقرة.
وقرا الجمهور: {تقسطوا} بضم التاء، من أقْسَط: إذا عدل، فتكون لا على هذه القراءة نافيةُ، والتقديرُ: وإنْ خِفْتُمْ عدم الإقساط أي: العدل.
وقرأ إبراهيم النخعي: ويحيى بن وثَّاب بفتحها من قسط وفيها تأويلان:
أحدهما: أن قَسَطَ بمعنى جار، وهذا هو المشهور في اللغة، أعني أن الرباعي بمعنى عَدَلَ، والثلاثي بمعنى جار، وكأنَّ الهمزة فيه للسَّلْبِ بمعنى أقسط أي: أزال القسط وهو الجور، ولا على هذا القول زائدة ليس إلا، وإلا يفسد المعنى كهي في قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29].
والثاني: حكي الزجاج أن قسط الثلاثي يستعمل استعمال أقسط الرباعي، فعلى هذا تكون لا غير زائدة، كهي في القراءة الشهيرة؛ إلاَّ أنَّ التَّفْرِقَةَ هي المعروفةُ لغة.
قالوا: قاسطته إذَا غَلَبْتَهُ على قِسْطِهِ، فبنوا قسط على بناء ظلم وجار وغلب.