فصل: قال الصابوني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فاتفق النحويون على أن فيها عدلًا محققًا. وذلك أن فائدتها تقسيم أمر ذي أجزاء على عدد معين، ولفظ المقسوم عليه في غير العدد مكرر على الإطراد في كلام العرب نحو: قرأت الكتاب جزءًا جزءًا، وجاءني القوم رجلًا رجلًا وجماعة جماعة. وكان القياس في باب العدد أيضًا التكرير عملًا بالاستقراء وإلحاقًا للفرد المتنازع فيه بالأعم الأغلب، فلما وجد ثلاث مثلًا غير مكرر لفظًا حكم بأن أصله لفظ مكرر وليس إلأ ثلاثة ثلاثة.
فعند سيبويه منع صرف مثل هذا للعدل والوصف الأصلي، فإن هذا التركيب لم يستعمل إلا وصفًا بخلاف المعدول عنه. وقيل: إن فيه عدلًا مكررًا من حيث اللفظ لأن أصله كان ثلاثة ثلاثة مرتين فعدل إلى واحد ثم إلى لفظ ثلاث أو مثلث. وقيل: إن فيه العدل والتعريف إذ لا يدخله اللام خلافًا لما في الكشاف. وإذا جرى على النكرة فمحمول على البدل، وضعف بعدم جريانه على المعارف ولوقوعه حالًا. فمعنى الآية فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثًا وثلاثًا وأربعًا أربعًا، فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد فواحدة. فمن قرأ بالنصب أراد: فاختاروا أو انكحوا أو الزموا واحدة، ومن قرأ بالرفع أراد: فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة وذروا الجمع رأسًا فإن الأمر كله يدور مع العدل فأينما وجدتموه فعليكم به. ثم قال: {أو ما ملكت أيمانكم} فسوّى في السهولة بين الحرة الواحدة وبين ما شاء من الإماءة لأنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر لا على المرء أكثر منهن أو أقل، عدل بينهن في القسم أم لم يعدل، عزل عنهن أم لم يعزل، ولما كانت التسوية بينها وبينهن احتج بها الشافعي في بيان أن نوافل العبادات أفضل من النكاح وذلك للإجماع على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري، فوجب أن يكون أفضل من النكاح لأن الزائد على أحد المتساويين يكون زائدًا على المساوي الآخر، ولمانع أن يمنع التسوية فإن قول الطبيب مثلًا للمريض: كل التفاح أو الرمان يحتمل أن يكون للتسوية بينهما وقد يكون للمقاربة أي إن لم تجد التفاح فكل الرمان فإنه قريب منه في دفع الحاجة للضرورة، ومع وجود هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال على أن فضل الحرة على الأمة معلوم شرعًا وعقلًا. وههنا مسألتان: الأولى أكثر الفقهاء على أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد، لأن هذا الخطاب إنما يتناول إنسانًا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يمكن من النكاح إلا بإذن مولاه. وأيضًا إنه قال بعد ذلك {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} وهذا لا يكون إلا للأحرار، فكذا الخطاب الأوّل لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فيبعد أن يدخل التقييد في اللاحق دون السابق. وكذا قوله: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا} والعبد لا يأكل فيكون لسيده. وقال مالك: يحل للعبد أن يتزوج بالأربع تمسكًا بظاهر الآية. ومن الفقهاء من سلم أن ظاهر الآية يتناول العبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس.
قالوا: أجمعنا على أن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر. الثانية ذهب جماعة إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد لأن قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} إطلاق في جميع الأعداد لصحة استثناء كل عدد منه، وقوله: {مثنى وثلاث ورباع} لا يصلح مخصصًا لذلك العموم لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينافي ثبوت الحكم في الباقي، بل نقول: ذكرها يدل على نفي الحرج والحجر مطلقًا، فإن من قال لولده افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان تصريحًا في أن زمام الاختيار بيده ولا يكون تخصيصًا. وايضًا ذكر جميع الأعداد متعذر، فذكر بعضها تنبيه على حصول الإذن في جميعها. ولئن سلمنا لكن الواو للجمع المطلق فيفيد الإذن في جمع تسعة بل ثمانية عشر لتضعيف كل منها. وأما السنة فلما ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع وقد أمرنا باتباعه في قوله: {فاتبعوه} [الأنعام: 153] وأقل مراتب الأمر الإباحة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» والمعتمد عند الجمهور في جوابهم أمران: أحدهما الخبر كنحو ما روي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعًا وفارق واحدة» وزيف بأن القرآن دل على عدم الحصر، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز، وبأن الأمر بمفارقة الزائدة قد يكون لمانع النسب أو الرضاع. وأقول: إن القرآن لم يدل على عدم الحصر، غايته أنه لم يدل على الحصر فيكون مجملًا. وبيان المجمل بخبر الواحد جائز وأيضًا قوله «أمسك أربعًا» على الإطلاق وكذا «فارق واحدة» دليل على أن المانع هو الزيادة على الأربع لا غيرها، وكذا في نظائر هذا الحديث. وثانيهما إجماع فقهاء الأمصار. وضعف بأن الإجماع مع وجود المخالف لا ينعقد، وبتقدير التسليم فإن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به. والجواب أن المخالف إذا كان شاذًا فلا يعبأ به، والقرآن لم يدل على عدم الحصر حتى يلزم نسخ الإجماع إياه ولكن الإجماع دل على وجود مبين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم. ولئن سلم أن القرآن دل على عدم الحصر فالإجماع يكشف عن وجود ناسخ في عهده وذلك جائز بالاتفاق. لا يقال: فعلى تقدير الحصر كان ينبغي أن يقال مثنى أو ثلاث أو رباع بأو الفاصلة، لأنا نقول: يلزم حينئذٍ أن لا يجوز النكاح إلا على أحد هذه الأقسام، فلا يجوز لبعضهم أن يأتي بالتثنية، ولفريق ثان بالتثليث، والآخرين بالتربيع، فيذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو.
{ذلك أدنى أن لا تعولوا} أي اختيار الواحدة أو التسري أقرب من أن لا تميلوا أو لا تجوروا. وكلا اللفظين مروي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم: عال الميزان عولًا إذا مال. وعال الحاكم في حكمه إذا جار. ومنه عالت الفريضة إذا زادت سهامها. وفيه الميل عن الاعتدال. وقيل: معناه أن لا تفتقروا. ورجل عائل أي فقير وذلك أنه إذا قل عياله قلت نفقاته فلم يفتقر. ونقل عن الشافعي أنه قال: معناه أن لا تكثر عيالكم. وطعن فيه بعض القاصرين بأن هذا في اللغة معنى تعيلوا لا معنى تعولوا يقال: أعال الرجل إذا كثر عياله. ومنه قراءة طاوس {أن لا تعيلوا} وأيضًا إنه لا يناسب أول الآية {وإن خفتم أن لا تقسطوا} وأيضًا هب أنه يقل العيال في اختيار الحرة الواحدة، فكيف يقل عند اختيار التسري ولا حصر لهن؟ والجواب عن الأوّل أن الشافعي لم يذهب إلى تفسير اللغة وإنما زعم أنه تعالى أشار إلى الشيء بذكر لازمه أي جعل الميل والجور كناية عن كثرة العيال، لأن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور. وقرر الكناية في الكشاف على وجه آخر، وهو أنه جعل قوله تعالى: {أن لا تعولوا} من عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم. ولا شك أن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال. فالحاصل أنه ذكر اللازم وهو الإنفاق وأراد الملزوم وهو كثرة العيال. والحاصل على ما قلنا أنه ذكر اللازم وهو الميل والجور وأراد الملزوم وهو كثرة العيال. والجواب عن الثاني أن حمل الكلام على ما لا يلزم منه تكرار أولي وبتقدير التسليم فتفسير الشافعي أيضًا يؤل إلى تفسير الجمهور لكن بطريق الكناية كما قررنا. وعن الثالث أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضًا فكأنه لا عيال. وأيضًا إذا عجز المولى باعهن وتخلّص منهن بخلاف المهائر فإن الخلاص عنهن يفتقر إلى تسليم المهر إليهن. وقال في الكشاف: العزل عن السراري جائز بغير إذنهن فكن مظان قلة الولد بالإضافة إلى التزوج. {وآتوا النساء صدقاتهن} أي مهورهن. والخطاب للأزواج وهو قول علقمة وقتادة والنخعي واختيار الزجاج لأن ما قبله خطاب للناكحين. وقيل: خطاب للأولياء لأن العرب انت في الجاهلية لا تعطي البنات من مهورهن شيئًا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له ابنة: هينئًا لك النافجة- يعنون أنك تأخذ مهرها إبلًا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه. وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته. فنهى الله عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة.
قال القفال: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة فيكونوا قد أمروا بدفع المهور التي سموها لهن، ويحتمل أن يرا الالتزام كقوله: {حتى يعطوا الجزية عن يد} [التوبة: 29] أي حتى يضمنوها ويلتزموها. فيكون المعنى أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمي ذلك أو لم يسم إلا ما خص به الرسول صلى الله عليه وسلم من الموهوبة. قال: ويجوز أن يراد الوجهان جميعًا. أما قوله نحلة فقد قال ابن عباس وقتادة ابن جريج وابن زيد: أي شريعة وديانة. فيكون مفعولًا له، أو حالًا من الصدقات أي دينًا من الله شرعه وفرضه. وقال الكلبي: أي عطية وهبة فيكون نصبًا على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، أو الحال على من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء من غير مطالبة منهن، لأن ما يؤخذ بالمطالبة لا يسمى نحلة، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيب نفس، وإنما سميت عطية من الزوج لأن الزوج لا يملك بدله شيئًا، لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله. وإنما الذي استحقه الزوج هو الاستباحة لا الملك. والنحلة العطية من غير بدل. وقال قوم: إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركًا بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر وكان ذلك عطية من الله تعالى ابتداء. ثم لما أمرهم بإيتاء الصدقات أباح لهم جواز قبول إبرائها وهبتها. وانتصب {نفسًا} على التمييز وإنما وحد لأنه لا يلبس أن النفس لهن لأنهن أنفس ولو جمعت لجاز، والضمير في {منه} للصداق أو للمذكور في قوله: {طبن} وبناء الكلام على الإبهام ثم التمييز دون أن يقول سمحن أو وهبن. وفي قوله: {عن شيء منه} دون أن يقول عنه تنبيه على أن قبول ذلك إنما يحل إذا طابت نفوسهن بالهبة من غير اضطرار وسوء معاشرة من الزوج يحملهن على ذلك وبعث لهن على تقليل الموهوب، ولهذا ذكر الضمير في {منه} لينصرف إلى الصداق الواحد فيكون متناولًا بعضه، ولو أنث لتناول ظاهرة هبة الصداق كله لأن بعض الصدقات واحدة منها أو أكثر. ومن هذا التقرير يظهر أن من في قوله: {منه} للتبعيض إخراجًا للكلام مخرج الغالب مع فائدة البعث المذكور لأنه لا يجوز هبة كل الصداق إذا طابت نفسها عن المهر بالكلية، ومن غفل عن هذه الدقيقة زعم أن من للتبيين والمعنى عن شيء هو هذا الجنس يعني الصداق. {فكلوه هنيئًا مريئًا} صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغًا لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء ما يستلذه الآكل، والمريء ما تحمد عاقبته. وقيل: هو ما ينساغ في مجراه ومنه يقال: المريء لمجرى الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة.
وقيل: أصله من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران. فالهنيء شفاء من الجرب. وبالجملة فهو عبارة عن التحلل أو المبالغة في إزالة التبعة في الدنيا والآخرة. وهما صفتان للمصدر أي أكلًا هنيًا مريئًا، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء. وقد يوقف على قوله: {فكلوه} ويبتدأ {هنيئًا مريئًا} على الدعاء أو على أنهما قاما مقام مصدريهما أي هنأ مرأ. والمراد بالأكل التصرف الشامل للعين والدين. قال بعض العلماء: إن وهبت ثم طلبت علم أنها لم تطب عنه نفسًا. وعن عمر أنه كتب إلى قضاته أن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهه لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخكم الله به في الآخرة. اهـ.

.قال الصابوني:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}
[1] تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام:

.التحليل اللفظي:

{وَبَثَّ مِنْهُمَا}: معناه نشر وفرّق على سبيل التناسل والتوالد، ومنه {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 16] أي مبسوطة، أو مفرقة في المجالس، وأصل البث: التفريق وإثارة الشيء.