فصل: مطلب: مناظرة اليهود والنصارى، ولغز في ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: مناظرة اليهود والنصارى، ولغز في ذلك:

فقالت اليهود لا دين إلا دين اليهودية ولن يدخل الجنة إلا اليهود، وكفروا بعيسى عليه السلام، وقالت النصارى لا دين إلا دين النصرانية ولا يدخل الجنة إلا النصارى وكفروا بموسى عليه السلام وقد كذب بعضهم بعضا، فأكذبهم اللّه جميعا وبين لهم الدين الحق وأهل الجنة بقوله: {بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن} في عمله مع اللّه وخلقه فهم أهل الحق ومن كان كذلك: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} في الآخرة ويدخل الجنة: {وَلا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من الدنيا لأنهم وجدوا خيرا منها وهم في أمن من أهوال الآخرة.
{وَقالَتِ الْيَهُودُ} في مناظرتهم تلك: {لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ} من الدين: {وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ} منه أيضا، وقد صدقوا جميعا إذ لا دين بعد البعثة المحمدية إلا دين الإسلام، كما كذبوا في الآية السابقة.
وقد ألغز في هذا فقالوا: قوم صدقوا ودخلوا النار أي إذا ماتوا على ما عاشوا عليه من عقيدتهم الواهية كما يقال في اخوة يوسف عليهم السلام قوم كذبوا ودخلوا الجنة، لأن فعلتهم مع أخيهم أعقبتها التوبة منهم، والتشرف بالنبوة، قال تعالى مبكتا أولئك بأنهم يقولون هذا: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ} وليسوا بأميين وليس في كتابهم شيء من ذلك، لأن التوراة بشرت بعيسى ابن مريم، والإنجيل بشر بمحمد وحقق ما في التوراة من وصفه ونبوة موسى: {كَذلِكَ} مثل هذا القول الباطل: {قالَ} مشركو العرب عبدة الأوثان: {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} لأنهم أمّيّون ولا كتاب لهم: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} هذا من قبل بأن محمدا ليس على شيء وأن كتابه ليس بشيء: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيظهر المحق من المبطل ويجازى كلا بعمله.
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها} هذا ما نعاه اللّه عليهم بما أوقعوه في معالم الدين، كما نعى عليهم فيما تقدم الإيقاع في نفس الدين وهو عام في كل مسجد، أي لا أحد أظلم من هذا فعله.
نزلت هذه الآية في المشركين الذين منعوا رسول اللّه وأصحابه من الصلاة في المسجد الحرام حينما كان في مكة، وإنما قيل مساجد والمنع من مسجد واحد لأن الحكم ورد عاما وإن كان السبب خاصا، لقوله تعالى: {وَيْل لِكُلِّ هُمَزَةٍ} الآيات، وهي قد نزلت في الأخنس بن شريق.
وقال الحسن وقتادة إنها نزلت في بختنصر حينما خرب بيت المقدس، وهذا كان قبل المسيح، فلا محل لذكره هنا وقد أشرنا إليه أول سورة الإسراء.
وقال بعض المفسرين نقلا عن ابن عباس إنها نزلت في طيطوس الرومي الذي غزا بني إسرائيل فقتلهم وسباهم وخرب بيت المقدس وأحرق التوراة ومنع إقامة ذكر اللّه فيه، وبقي خرابا إلى أن عمره المسلمون زمن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وبقي في أيديهم إلى حرب الصليبيين إذ استحله النصارى أكثر من مائة سنة، ثم استخلصه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 585 من الهجرة، وعلى هذا تكون من قبيل عطف القصة على القصة قبلها، وأتى بها هنا تقريرا لقبائحم وجرأتهم على شعائر اللّه، ولهذا يقول اللّه تعالى: {أُولئِكَ} الذين تلك مثالبهم: {ما كانَ} ينبغي: {لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها} دخولا مطلقا: {إِلَّا خائِفِينَ} ربها بخشية وخضوع وإخبات، احتراما لربها فضلا عن الجرأة على تخريبها، وهؤلاء المتجاسرون: {لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْي} فظيع وذم قبيح كلما ذكروا بفعلهم المشين يتبعه سبي وضرب جزية وقتل وكل ما هو من أسباب الذل يقع عليهم في الدنيا: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذاب عَظِيم} لا تطيقه أجسامهم، وهذا ليس بسديد أيضا، لأن الآيات قبلها بحق اليهود، وكذلك لا يصح نزولها بحق المشركين، إذ لم يسبق لهم ذكر، ولم يسبق ذكر المسجد الحرام في هذه الآيات.
ومما يبعد صحة القول بأنها في حق المشركين هو أن القائل به قال إنها كانت عام الحديبية، وحادثتها وقعت في السنة السادسة من الهجرة، وهذه السورة من أول ما نزل في المدينة كما علمت فلا تنفق مع قوله، وهناك قول آخر بأنها نزلت في المشركين الذين ألجئوا حضرة الرسول وأصحابه إلى الهجرة ومنعوهم بسببها من أن يذكروا اللّه في المسجد من صلاة وغيرها، وكأنهم بذلك سعوا في خرابها، لأنها أنشئت لإقامة الصلاة والذكر، فإذا انقطعت عنها فكأنها خربت، وفي هذا التأويل صرف الحقيقة إلى المجاز، والعدول إلى خلاف الظاهر وهو وجيه، إلا أن سياق الآية ينافيه، وعدم سبق الذكر يبعده، لأن هذه الحادثة في مكة، ولم يقل أحد بمكية هذه الآية، على أن كلا من الحوادث الثلاث صالحة لسبب النزول لو كانت منطبقة عليها، وقد ذكرنا غير مرة أن تعدد الأسباب جائز، أي بأن تكون آية واحدة لعدة حوادث وأسباب كثيرة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ} إذ لا مانع من تعدد أسباب النزول، ولكن الأولى أن يكون في حق اليهود خاصة، وذلك لما حولت القبلة إلى الكعبة شق عليهم فصاروا يمنعون الناس من التوجه إليها ويحملونهم على تخريب الكعبة وسعوا في تخريب مسجد الرسول في المدينة، فعابهم اللّه تعالى وبين سوء طريقتهم التي سلكوها في ذلك، لأن الآيات السابقة جاء سياقها بالتشنيع على أفعالهم، والآية الآتية كذلك، فكونها فيهم أولى، لأن المشركين لا بحث فيهم قبلها ولا بعدها.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِع عَلِيم}.
نزلت هذه الآية في جماعة لم تتبين لهم القبلة فصلوا جهة تحريهم، ثم بان خطؤهم، فأخبروا حضرة الرسول فنزلت.
وهذه الآية كالإرهاص في تبدل القبلة، لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يسبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ وكان ابن عمر يفعله.
وفي رواية لمسلم كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم يصلي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت دابته فيه، وفيه نزلت الآية، وفيها إيماء أيضا إلى اليهود بأنهم مهما سعوا في خراب المسجد فلن يستطيعوا أن يسعوا في تعطيل عبادة اللّه تعالى، لأنها لا تتوقف على المسجد بل يمكن تأديتها في أي مكان كان، وإلى أي جهة كانت.
قال تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} وهذه نزلت في يهود المدينة أيضا لقولهم عزير بن اللّه، ويدخل فيها النصارى القائلون المسيح بن اللّه، والعرب القائلون الملائكة بنات اللّه، لأنها صالحة للكل، فنزه نفسه الكريمة بقوله-سُبْحانَهُ- عما يقولون: {بَلْ} هو إله الوالدين والمولودين، لم يتخذ منهم ولدا ولا صاحبة له: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ملكا وعبيدا فكيف أن يتخذ منهم ولدا وهم: {كُلّ لَهُ قانِتُونَ} خاشعون طائعون مخبتون منقادون، وكلمة كل تقتضي الشمول والإحاطة، لأنه كلي يعم كل من فيهما وما بينهما، وبعض المفسرين خص الآية بالطائعين ولا دليل على التخصيص إلا القول بنفي الشمول عنها أحيانا، بدليل قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ} الآية: 24: من سورة النمل، لأن بلقيس لم تؤت مثل ملك سليمان حتى يصح أن يقال إنها أوتيت من كل شيء بمعنى الشمول، وصاحب هذا القول يقول بأن من في الآية صلة أي زائدة وليس بشيء، إذ لا زائد في القرآن، ولا يوجد فيه حرف إلا وله معنى خاص أو عام.
واعلموا أيها الناس أن هذا الإله الذي يخضع الكون بما فيه لهيبة جلاله هو: {بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} على غير مثال سابق كما أبدع الإنسان والحيوان والطير والجماد كذلك، لأن الشيء إذا كان له مثال أو صورة وأنشئ على صورته أو مثله لا يسمى بديعا ولا فاعله مبدعا، لأن المبدع الذي يعمل الشيء أولا، والذي يعمل بعده يسمى مقلدا، والتقليد بشيء يحمد أو يمدح عليه، لأن كل من له إلمام يقدر على عمل مثله.
ولا يوجد في القرآن نظير هذه الآية إلا الآية 100 من سورة الأنعام: {وَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} حالا دون كلفة أو بمعونة شيء آخر فتراه موجودا بين الكاف والنون، كما أنك ترى الرمية تصيب الهدف بين سحب الزناد وصوتها، هذا تقريب للفهم، وإلا فهو غير ذلك: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} من جهلة قريش المشركين: {لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} مشافهة فيخبرنا بأنك رسوله: {أَوْ تَأْتِينا آيَة} على صدق ما تقوله لنا يا محمد لا تبعناك توا: {كَذلِكَ} مثل هذا القول الباطل: {قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم السابقة: {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} هذا، لأن اليهود سألوا رسولهم عما يجوز وعما لا يجوز، وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام اللّه، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا: {تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} هذا، لأن اليهود سألوا رسولهم عما يجوز وعما لا يجوز، وطلبوا أن يسمعهم نبيهم كلام اللّه، ولما أسمعهم طلبوا أن يريهم إياه فهلكوا: {تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} في الضلال، فوافق سؤالهم سؤالهم: {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ} الدالة على نبوتك وصدقك يا سيد الرسل بيانا شافيا كافيا: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بها، أما غير الموقنين فلو نزلنا عليهم ما طلبوه وأمثاله معه لم يؤمنوا، وأنت يا خاتم الرسل ما عليك أن لا يؤمنوا: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا} للمصدقين الموقنين: {وَنَذِيرًا} للمكذبين الشاكين: {وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ} الذين يموتون على كفرهم وتكذيبهم للّه ورسوله: {وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ} يا سيد الرسل: {الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} التي هم عليها، وليس فليس، وإذا كان كذلك: {قُلْ} لهم يا خاتم الرسل: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى} الموصل إلى المطلوب وهو الدين الحق دين الإسلام دين إبراهيم عليه السلام: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ} يا حبيبي وركنت لسلوك طريقتهم طلبا لرضائهم: {بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} بأنهم ليسوا على شيء من الدين، وأنك على الحق المبين، وهذا قسم من اللّه تعالى وجوابه قوله عز قوله: {ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} بدلالة اللام الموطئة للقسم في: {وَلَئِنِ} وقد ذكرنا في الآية 65 من سورة الزمر وفيما قبلها أن أمثال هذا الخطاب يراد به أمته عليه الصلاة والسلام، لأنه محال عليه أن يميل إلى أهوائهم.
قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} التوراة منهم: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} دون تحريف أو تبديل في معانيه أو مبانيه، وينقلونه للناس كذلك: {أُولئِكَ} الذين هذه صفتهم: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} حق إيمانه ويقودهم إيمانهم بكتابهم إلى الإيمان بك وبكتابك، لأن من جملة ما يؤمنون به في كتابهم نبوتك وكتابك.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن منهم من يؤمن كعبد اللّه بن سلام وأصحابه، أما المحرفون الجاحدون فهم المخصوصون بقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} فيسيء تلاوته ويغير كلمه وينقلونه على غير ما هو عليه بحسب أهوائهم ويغرون الناس بذلك: {فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} في الدارين، أما الدنيا فقد خسروها وزال عنهم نعيمها بالموت مهما كان نعيمهم وطال أجلهم، لأن مصيرها الفناء، وأما الآخرة فلم يعملوا لها شيئا يؤهلهم لنيل نعيمها الدائم، وذلك هو الخسران المبين.
قال تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} تقدم تفسيرها في نظيرتها الآيتين [40: 47] المارتين وكررت تأكيدا وتذكيرا لنعمه المتكررة عليهم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْس عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْل وَلا تَنْفَعُها شَفاعَة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} وما في هذه الآية بالنسبة للآيتين المارتين مثلهما إلا نوع تفنن في التعبير من نظم العليم الخبير، ولا يقال إن المعنى فيها واحد من حيث الاستفادة، بل فيها زيادة التذكير في المحافظة على وصايا الإله القدير ولزوم التقوى في كل حال والتيقظ ليوم القيامة والخشية مما يقع فيه من الأهوال، والتيقن بأن الإنسان لا ينفعه إلا عمله الحسن.
وأعلم أن مجيئها بعد الآية المتقدمة إيذان بتخويف المبدلين لكلام اللّه، وترهيب من نزول العذاب فيهم لعلهم يرجعون عن باطلهم، وأنى لهم أن يرجعوا وقد أعماهم حب الرياسة عن اتباع الحق، وأوردتهم أنفتهم إلى الهوان:
وإذا كانت النفوس كبارا ** تعبت في مرادها الأجسام

.مطلب: فيما ابتلى به إبراهيم ربه والكلمات التي علمها له وبناء الكعبة وغيرها:

قال تعالى: {وَ} اذكر يا أكمل الرسل لأمتك قصة أخرى: {إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ} اختبره فيها قبل نبوته، وهي ما قصه اللّه تعالى في الآيات 76 فما بعدها من سورة الأنعام من أمر الكوكب والقمر والشمس وإصراره على عبادة اللّه وتوحيده حتى أدى به الحال إلى أن ألقوه في النار، وبعد أن أنجاه اللّه منها على الصورة المبينة في الآية 50 فما بعدها من سورة الأنبياء أيضا هاجر إلى الشام وشرقي الأردن فالقدس، ثم ابتلاه بذبح ابنه على الصورة المارة في [الآية 100] فما بعدها من سورة الصافات أيضا وقيل إن الذي اختبره بها في مناسك الحج أو أوامره ونواهيه التي قام أو اختصر بها بإلهام من اللّه تعالى، وقال ابن عباس هي ثلاثون شيئا سماهن شرائع الإسلام وهي عشرة في سورة براءة في قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ} [الآية: 14]، وعشرة في سورة الأحزاب وهي: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ} [الآية: 36]، مثلها وعشرة في الآية الأولى فما بعدها من سورة المؤمنين، وعشرة في [الآية 22] فما بعدها من سورة المعارج، وفي رواية عشرة أشياء وهي من الفطرة خمسة في الرأس وخمسة في اليدين.
روى مسلم عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عشرة من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحى والسواك والاستنشاق بالماء والمضمض وغسل البراجم ما بين طبقات الأصابع ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء الاستنجاء وقص الأظفار، فهذه كانت فرضا على إبراهيم عليه السلام وهي علينا سنة، وقد أتى بها جميعها، ولذلك مدحه اللّه تعالى بقوله {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى} الآية 38 من سورة والنجم، وهو أول من قص شاربه وأول من اختتن وأول من ضيّف الضيف، وأول من رأى الشيب فقال يا رب ما هذا؟ قال وقار قال ربّ زدني وقارا، وسمي التكليف بلاء، لأنه يشق على الأبدان فعله وقيل إن آية: {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى} في قضية ذبح ابنه لا في هذه الكلمات وهو عليه السلام قد وفى بها وبغيرها من كل ما أراد منه ربه، تدبر قوله تعالى: {فَأَتَمَّهُنَّ} قام بهن كلهن قياما كاملا، ولهذا قالَ تعالى: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا} ليقتدوا بك بما تسنه لهم: {قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} يا ربّ اجعل إماما للناس ليستنوا بسنتهم أيضا: {قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} من ذريتك وغيرهم، أي لا يصل إليهم ولا يناط بهم ذلك، ولا يكون منهم، لأن الإمامة والنبوة لإرشاد الخلق، ولا تكون إلا للصالحين منهم، والظالمون ليسوا بأهل لنصح الناس: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً} مرجعا وملجأ ومأوى: {لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} لهم من تعدي الغير: {وَ} قلنا لهم: {اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} موقفا يصلّى فيه وقد اتخذ من ذلك اليوم وحتى الآن وإلى الأبد إن شاء اللّه تدوم صلاة الناس فيه وهي مقابل باب الكعبة في الحرم الشريف وهو حجر كان يقف عليه عند بناء الكعبة وكان فيه أثر أصابعه فاندرس من كثرة لمس الناس له وفوقه قبة بديعة وكان له عليه السلام بمثابة السلم المتحرك إذا أراد ارتفع وإذا أراد انخفض معجزة له عليه السلام كما هو الحال في سفينة نوح عليه السلام حيث كان إذا أراد سيرها قال بسم اللّه، وإذا أراد إيقافها قال بسم اللّه معجزة له: {وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ} عند ما أمرنا هما ببناء الكعبة: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} حوله بعد إكماله: {وَالْعاكِفِينَ} المقيمين فيه المجاورين له الدائبين على الطوف به: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فيه، وفي هذه الآية دلالة على وجوب المحافظة على طهارة المساجد كلها لأن المعنى المراد من المسجد الحرام مراد في غيره من حيث إقامة الشعائر الدينية، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم إن البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها.
وهذا إذا كانت أرضه ترابا فقد يخرج البازق من إثمها بدفنها كفأفا، أما إذا كانت أرضه مفروشه، كما هي الحال في مساجدنا الآن، فيتعين إزالتها بالمسح بمنديل ونحوه، وإن لم يزل أثرها به فيتعين غسلها بالماء وإلا فلا يخرج من الإثم، هذا إذا كان بزاقا خالصا، أما إذا كان مشوبا بدم فيتعين على سبيل الفرض إزالته حتما لما فيه من التلويث بالنجس الموجب لبطلان صلاة من يصلي عليه ولو بعد يبسه كيف وقد رغب الشارع في تنظيفها حتى قال: إن إخراج القمامة منها مهور الحور العين وقالوا إن ما يؤذي العين يؤذي المسجد وإن تعظيمها واجب وامتهانها حرام لأنها محل ذكر اللّه ولا يصح الاعتكاف إلا بها وإن حضرة الرسول حينما خرج للجبانة وقيل له إن هذا قبر فلانة قال التي كانت تقم المسجد؟ قالوا نعم فصف الناس وصلّى عليها وهي في قبرها، وذلك مما يدل على زيادة احترام المساجد ومحترميها، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 37 من سورة النور الآتية ولبعض ما يتعلق فيه في الآية 26 من سورة الحج الآتية إن شاء اللّه: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا} البلد المحتوي على الكعبة: {بَلَدًا آمِنًا} يأوي إليه الناس بسبب أمنهم فيه على مالهم وأنفسهم، لأنه لا زرع ولا ضرع فيه ولا شجر ولا كسب ليرغب الناس بسكناه فإذا لم يوجد فيه أمن لا يقصد ولا يجلب إليه شيء لتعذر المقام فيه: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ} على اختلاف أنواعها، وقد أبدل من أهله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ليخص بدعوته المؤمنين منهم فقط تأدبا مع اللّه عز وجل لأنه لما سأله أن يجعل النبوة في ذريته على الإطلاق قال له تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فكان بمثابة النهي له عن تعميم الدعاء ولذلك لم يجب دعوته لأن النبوة لا تكون إلا لخواص عباده، وهنا أجاب دعوته فيمن طلب ومن لم يطلب: {قالَ وَمَنْ كَفَرَ} أرزقه أيضا لأنهم من جملة خلقي الذي تكفلت بإرزاقهم إذ لا يليق بي أن أخلق ولم أرزق، لأن الرزق يستوي فيه المؤمن والكافر ولكن من أصر على كفره: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} في هذه الدنيا: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} ألجئه وأرجه كرها: {إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} النار في الآخرة لإهلها.
قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} أسس بنائه التي يرتكز عليها ودعائمه التي يقوم عليها: {وَإِسْماعِيلُ} معه يعاونه على بنائه، فلما أكملاه قالا: {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ} لدعائنا: {الْعَلِيمُ} بنيتنا: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} فيما نستقبله من أعمارنا كما مننت علينا من قبل: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} مؤمنة بك يا ربنا، منقادة لأوامرك.
وقد أدخلا في دعائهما من التبعيضية للحكمة المارة في الآية قبلها: {وَأَرِنا مَناسِكَنا} شرائع ديننا واعلام حجنا لهذا البيت: {وَتُبْ عَلَيْنا} عما هفا منا وزلت به ألسنتنا وأقدامنا: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ} كثير الرجوع بالمغفرة على عبادك: {الرَّحِيمُ} بهم، ولا حجة في هذه الآية لمن جوز صدور الذنب من الأنبياء، لأن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه لا ينفك عن التقصير أحيانا بسهو أو غفلة أو بترك ما هو خلاف الأولى والأفضل، ولهذا قالا {وَتُبْ عَلَيْنا} لا أنه من ذنب كذنوبنا، بل هو على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقدبينا في سورة طه في الآية 121 ما يتعلق في هذا البحث مفصلا.
قال تعالى: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ} في تلك الأمة المسلمة والجماعة المؤمنة المخلصة في إيمانها: {رَسُولًا مِنْهُمْ} الضمير يعود إلى قوله {أَهْلَهُ} في الآية المتقدمة، وقد أجيبت دعوتهما، إذ بعث اللّه من ذرية ابنه إسماعيل محمدا صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ} يبلغهم كلامك الذي توحيه إليه: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ} يبين لهم معانيه وحقائقه ودلائل التوحيد والنبوة والأحكام، وقد ذكر أولا التلاوة لأجل التلقي والدراسة والحفظ ليبقى مصونا عن التبديل والتحريف، ثم ذكر التعليم الموقوف على أسراره ومراميه: {وَالْحِكْمَةَ} الإصابة بالقول والعمل للوقوف على مغازيه، إذ لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا اجتمع له الأمران لأنه إذا قال ولم يصب كان جاهلا، وإذا عمل ولم يصب كان أحمق، وإذا أخطأ فيهما كان أخرق: {وَيُزَكِّيهِمْ} من أدران الذنوب بما يتلوه عليهم، ويعلمهم أحكام دينه وشرائع سنته مما وافق سنة وشرع من قبله أو خالفهما، لأنهما الموافقان لعصره بإرادة اللّه تعالى وتشريعه لهم في الأزل: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} الغالب القادر: {الْحَكِيمُ} فيما تشرع لعبادك من الأوامر والنواهي الموافقة لحكمتك.
وقد أجاب اللّه دعاءهما هذا كله، وأجمع المفسرون على أن المراد بهذا الرسول هو سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم، لأن هذا الدعاء وقع بمكة وإسماعيل عاش وتزوج ومات بمكة، وزوجته من عرب جرهم الذين أقاموا فيها كما مرت الإشارة لهذا في الآية 33 من سورة العنكبوت، ولم يبعث من ذرية إبراهيم في مكة نبي بعد إسماعيل إلا محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن العرباض بن سارية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «إني عند اللّه مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لجندل في طينته» مطروح فيها على وجه الأرض صورة لم تجر فيها الروح، وسأخبركم بأول أمري إنها دعوة ابراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور بصرى الشام قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} أعملها ولم يفكر في مصيرها وجهل ماهيّتها ولم يتدبر ما هي فأهلكها وخسرها وصدر هذه الآية يفيد التعجب أي كيف يرغب عنها ولاملّة تضاهيها، وهي مما يرغب فيها ويركن إليها لأن صاحبها خليل اللّه وخيرته من خلقه لقوله تعالى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا} على جميع أهلها الموجودين في زمنه وشرفناه بالرسالة لإرشادهم: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} وفي هذه الآية تعريض لكل من يرغب عن الإيمان بمحمد، لأنه من ولد إبراهيم الذي تعظمه الشرائع والأمم أجمع، فالذي لا يرغب بدينه فقد رغب عن ملة إبراهيم التي جهّل اللّه تعالى كل من يصد عنها، وجعله سفيلا لا يعرف كرامة نفسه، ذليلا حقيرا سائرا في هوانه، وترغيب لمن يدخل في دينه الذي اصطفاه اللّه على سائر الأديان وجاءت هذه الآية أيضا بسياق ذكره عليه السلام في هذه الآيات دالّة على أن المقصود هو لا غير، وما قاله بعض المفسرين من أنها نزلت في عبد اللّه بن سلام حين دعا ولدي أخيه مهاجرا وسلمة إلى الإسلام، وعرفهما ما جاء في حق محمد في التوراة من أن اللّه تعالى يقول إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه احمد من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون فآمن سلمة وأبى مهاجر، لا يصح لأن عبد اللّه نفسه لم يسلم بعد حتى يكلف ولدي أخيه، وهذه وقعت منه ولكن بعد إسلامه.
وبعد نزول هذه الآية، ولا علاقة لهذه الآية فيهم كما سيأتي في الآية 47 من النساء الآتية: {إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أثبت على إسلامك الذي نشأت عليه وذلك أن الأنبياء كلهم ولدوا مسلمين، وهذا كان في حال صغره حين خروجه من السرب واجتماعه بقومه واستدلاله عليهم بالكواكب، كما مرّ في الآية 75 فما بعدها من سورة الأنعام: {قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} وحده لا للكواكب والأصنام، إذ تبين لي أن الخالق لهم ولكل شيء هو اللّه الذي لا رب غيره وهو رب الكون أجمع.