فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أما إيناس الرشد فلابد فيه من تفسير الإيناس ومن تفسير الرشد، أما الايناس فقوله: {ءانَسْتُمْ} أي عرفتم وقيل: رأيتم، وأصل الإيناس في اللغة الإبصار، ومنه قوله: {ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطور نَارًا} [القصص: 29] وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله، بل لابد وأن يكون هذا مرادًا، وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته، ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين؟ فعند الشافعي رضي الله عنه لابد منه، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر، والأول أولى، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن أهل اللغة قالوا: الرشد هو إصابة الخير، والمفسد في دينه لا يكون مصيبًا للخير.
وثانيها: أن الرشد نقيض الغي قال تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256] والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى: {وعصى ءادَمَ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] فجعل العاصي غويا، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين، وثالثها: أنه تعالى قال: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين، والله أعلم.
إذا عرفت هذا فنقول: فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق، وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَإِنْ ءانَسْتُمْ} أي أحسستم قاله مجاهد وأصل معنى الاستئناس كما قال الشهاب النظر من بعد وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه ما يؤنس به، ثم عم في كلامهم قال الشاعر:
آنست نبأة وأفزعها الق ** ناص عصرًا وقد دنا الإمساء

ثم استعير للتبين أي علم الشيء بينا، وزعم بعضهم أن أصله الإبصار مطلقًا وأنه أخذ من إنسان العين وهو حدقتها التي يبصر بها، وهو هنا محتمل لأن يراد منه المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي، وقرأ ابن مسعود أحستم بحاء مفتوحة وسين ساكنة، وأصله أحسستم بسينين نقلت حركة الأولى إلى الحاء وحذفت لالتقاء الساكنين إحداهما على غير القياس، وقيل: إنها لغة سليم وإنها مطردة في عين كل فعل مضاعف اتصل بها تاء الضمير، أو نونه كما في قول أبي زيد الطائي:
خلا أن العتاق من المطايا ** أحسن به فهن إليه شوس

{مّنْهُمْ رُشْدًا} أي اهتداءًا إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها، وقيل: صلاحًا في دينهم وحفظًا لأموالهم، وتقديم الجار والمجرور لما مر غير مرة، وقرئ {رشدًا} بفتحتين، و{رشدًا} بضمتين، وهما بمعنى رشدًا، وقيل: الرشد بالضم في الأمور الدنيوية والأخروية، وبالفتح في الأخروية لا غير، والراشد والرشيد يقال فيهما {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} أي من غير تأخير عن حدّ البلوغ كما تدل عليه الفاء، وفي إيثار الدفع على الإيتاء في أول الأمر إيذان على ما ذهب إليه البعض بتفاوتهما بحسب المعنى، وقد تقدم الكلام في ذلك.
وظاهر الآية الكريمة أنه لا يدفع إليهم ولو بلغوا ما لم يؤنس منهم الرشد وهو مذهب الشافعي، وقول الإمامين وبه قال مجاهد، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عنه أنه قال: لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط ما لم يؤنس منه رشد، ونسب إلى الشعبي، وقال الإمام الأعظم.
إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة كما في الحديث يدفع إليه ماله، وإن لم يؤنس الرشد لأن المنع كان لرجاء التأديب فإذا بلغ ذلك السن ولم يتأدب انقطع عنه الرجاء غالبًا فلا معنى للحجر بعده وفي الكافي.
وللإمام الأعظم قوله تعالى: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} [النساء: 2]، والمراد بعد البلوغ فهو تنصيص على وجوب دفع المال بعد البلوغ إلا أنه منع عنه ماله قبل هذه المدة بالإجماع ولا إجماع هنا فيجب دفع المال بالنص والتعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم عندنا على أن الشرط رشد نكرة فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه، وأول أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه، وإذا امتد الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا وحدث ضرب من الرشد لا محالة لأنه حال كمال لبه فقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ينتهي لب الرجل إذا بلغ خمسًا وعشرين.
وقال أهل الطباع: من بلغ خمسًا وعشرين سنة فقد بلغ أشدّه ألا ترى أنه قد يصير جدًا صحيحًا في هذا السن لأن أدنى مدة البلوغ اثنا عشر حولًا وأدنى مدة الحمل ستة أشهر، ففي هذه المدة يمكن أن يولد له ابن ثم ضعف هذا المبلغ يولد لابنه ابن.
وأنت تعلم أن الاستدلال بما ذكر من الآية على الوجه الذي ذكر ظاهر بناءًا على أن المراد بالإيتاء فيها الدفع، وقد مر الكلام في ذلك، واعترض على قوله: على أن الشرط إلخ بأنه إذا كان ضرب من الرشد كافيًا كما يشعر به التنكير وكان ذلك حاصلًا لا محالة في ذلك السن كما هو صريح كلامه، واستدل عليه بما استدل كان الدفع حينئذ عند إيناس الرشد وهو مذهب الشافعي وقول الإمامين فلم يصح أن يقال: إن مذهب الإمام وجوب دفع مال اليتيم إليه إن أونس منه الرشد أو لم يؤنس، غاية ما في الباب أنه يبقى خلاف بين الإمام وغيره في أن الرشد المعتبر شرطًا للدفع في الآية ماذا وهو أمر آخر وراء ما شاع عن الإمام رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة وأيضًا إن أريد بهذا الضرب من الرشد الذي أشار إليه التنوين هو الرشد في مصلحة المال فكونه لابد وأن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو على فرض تسليم حصوله إذ ذاك لا يجدي نفعًا إذ الآية كالصريحة في اشتراط الضرب الأول.
فقد قال الفخر: لا شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا} فيجب أن يكون المراد فإن آنستم (منهم) رشدًا في حفظ المال وضبط مصالحه فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال (لا ضرب من الرشد كيف كان)، ثم قال: والقياس الجلي يقوي الاستدلال بالآية لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به؛ فإذا كان هذا المعنى حاصلًا في الشاب والشيخ كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليهما إن لم يؤنس منهما الرشد ومنه يعلم ما في التعليل السابق أعني قولهم لأن المنع كان لرجاء التأديب إلخ من النظر ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنع الضال ابن حزم كعادته مع سائر أئمة الدين على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وتابعه في ذلك سفهاء الشيعة كيوسف الأوالي وغيره ولا يخفى أن المسألة من الفروع، وكم لابن حزم وأتباعه فيها من المخالفات للكتاب والسنة ومتمسكهم في ذلك بما هو أوهى وأوهن من بيت العنكبوت.
ومن أمعن النظر فيما ذهب إليه الإمام علم أن نظره رضي الله تعالى عنه في ذلك دقيق لأن اليتيم بعد أن بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره وصار مورد الخطابات الالهاية والتكاليف الشرعية وسلم الله تعالى إليه نفسه يتصرف بها حسب اختياره المترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب كان منع ماله عنه وتصرف الغير به أشبه الأشياء بالظلم، ثم هذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ مطلقًا من غير تأخير إلى بلوغه سن خمس وعشرين فيمن بلغ غير رشيد إلا أنا أخرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب ورجاء الرشد والكف عن السفه وما فيه تبذير المال وإفساده، ونظير ذلك من وجه أخذ أموال البغاة وحبسها عنهم ليفيئوا، واعتبرت الزيادة سبع سنين لأنها كما تقدم مدة معتبرة في تغير الأحوال، والعشر مثلًا وإن كانت كذلك كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع» إلا أنا اعتبرنا الأقل لأنه كاف في الغرض غالبًا، ولا يرد أن المنع يدور مع السفه لأنا لا نسلم أنه يدور مع السفه مطلقًا بل مع سفه الصبا ولا نسلم بقاءه بعد تلك المدة على أن التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند عدمه عندنا فأصل الدوران حينئذ ممنوع، وعلى هذا لا معنى للتشنيع على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيما ذهب إليه.
ويؤيد مذهبه أيضًا قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ} فإنه مشير إلى أنه لا يمنع مال اليتيم عنه إذا كبر، إذ المعنى لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومبادرين كبرهم بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا إلا أنه قدر الكبر فيمن بلغ سفيها بما تقدم لما تقدم، فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فإن آنستم منهم رشدًا} شرط ثان مقيّد للشرط الأول المستفاد من {إذا بَلغوا}.
وهو وجوابه جواب (إذا)، ولذلك قرن بالفاء ليكون نصًّا في الجواب، وتكون (إذا) نصًّا في الشرط، فإنّ جواب (إذا) مستغن عن الربط بالفاء لولا قصد التنصيص على الشرطية.
وجاءت الآية على هذا التركيب لتدلّ على أنّ انتهاء الحجر إلى البلوغ بالأصالة، ولكن بشرط أن يُعرف من المحجور الرشد، وكلّ ذلك قطع لمعاذير الأوصياء من أن يمسكوا أموال محاجيرهم عندهم مدّة لزيادة التمتّع بها.
ويتحصّل من معنى اجتماع الشرطين في الكلام هنا، إذ كان بدون عطف ظاهر أو مقدّر بالقرينة، أنّ مجموعهما سبب لتسليم المال إلى المحجور، فلا يكفي حصول أحدهما ولا نظر إلى الذي يحصل منهما ابتداء، وهي القاعدة العامّة في كلّ جملة شرط بنيت على جملة شرط آخر، فلا دلالة لهما إلاّ على لزوم حصول الأمرين في مشروط واحد، وعلى هذا جرى قول المالكية، وإماممِ الحرمين.
ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين يفيد كون الثاني منهما في الذكر هو الأوّل في الحصول.
ونسبه الزجّاجي في كتاب [الأذكار] إلى ثعلب، واختاره ابن مالك وقال به من الشافعية: البغوي، والغزالي في الوسيط، ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين في الحصول يكون على نحو ترتيبهما في اللفظ، ونسبه الشافعية إلى القفّال، والقاضي الحسين، والغزالي في الوجيز، والإمام الرازي في النهاية، وبنوا على ذلك فروعًا في تعليق الشرط على الشرط في الإيمان، وتعليق الطلاق والعتاق، وقال إمام الحرمين: لا معنى لاعتبار الترتيب، وهو الحقّ، فإنّ المقصود حصولها بقطع النظر عن التقدّم والتأخّر، ولا يظهر أثر للخلاف في الإخبار وإنشاء الأحكام، كما هنا، وإنّما قد يظهر له أثر في إنشاء التعاليق في الأيمان، وأيمان الطلاق والعتاق، وقد علمت أنّ المالكية لا يرون لذلك تأثيرًا.
وهو الصواب.
واعلم أنّ هذا إذا قامت القرينة على أنّ المراد جعل الشرطين شرطًا في الجواب، وذلك إذا تجرّد عن العطف بالواو ولو تقديرًا، فلذلك يتعيّن جعل جملة الشرط الثاني وجوابه جوابًا للشرط الأول، سواء ارتبطت بالفاء كما في هذه الآية أم لم ترتبط، كما في قوله: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} [هود: 34].
وأمّا إذا كان الشرطان على اعتبار الترتيب فلكلّ منهما جواب مستقلّ نحو قوله تعالى: {يأيّها النبي إنا أحللنا لك أزواجك} إلى قوله: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها} [الأحزاب: 50].
فقوله: {إن وهبت} شرط في إحلال امرأة مؤمنة له، وقوله: {إنْ أرَادَ النَّبِىُّ} شرط في انعقاد النكاح، لئلاّ يتوهّم أنّ هبة المرأة نفسها للنبي تعيِّن عليه تزوّجها، فتقدير جوابه: إن أراد فله ذلك، وليسا شرطين للإحلال لظهور أنّ إحلال المرأة لا سبب له في هذه الحالة إلاّ أنّها وهبت نفسها.
وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط يجعل جواب أحدهما محذوفًا دلّ عليه المذكور، أو جواب أحدهما جوابًا للآخر: على الخلاف بين الجمهور والأخفش، إذ ليس ذلك من تعدّد الشروط وإنَّما يتأتَّى ذلك في نحو قولك: إن دخلت دار أبي سفيان، وإن دخلت المسجد الحرام، فأنت آمن وفي نحو قولك: إن صليت إن صمت أُثْبِت من كلّ تركيب لا تظهر فيه ملازمة بين الشرطين، حتَّى يصير أحدهما شرطًا في الآخر.
هذا تحقيق هذه المسألة الذي أطال فيه كثير وخصّها تقيّ الدين السبكي برسالة وهي مسألة سأل عنها القاضي ابنُ خلكان الشيخ ابن الحاجب كما أشار إليه في ترجمته من كتاب الوفيات، ولم يفصّلها، وفصّلها، الدماميني في حاشية مغني اللبيب.
وإيناس الرشد هنا علمه، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان، ثمّ أطلق على أوّل ما يتبادر من العلم، سواء في المبصرات، نحو: {آنس من جانب الطُّور نارًا} [القصص: 29] أم في المسموعات، نحو قول الحارث بن حلزة في بقرة وحشية:
ءانَسَتْ نَبْأةً وأفْزَعَهَا القُن ** اصُ عَصْرًا وقد دَنا الإمْساء

وكأنّ اختيار {آنستم} هنا دون علمتم للإشارة إلى أنّه إن حصل أوّل العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل. اهـ.