فصل: مطلب: وصية يعقوب وبقية قصة إسماعيل عليهما السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: وصية يعقوب وبقية قصة إسماعيل عليهما السلام:

قال تعالى: {وَوَصَّى بِها} بكلمة الإسلام هذه التي أمره بها ربه: {إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} أيضا وصّى بها بنيه، والوصية آكد من الأمر لأنها تكون عند الخوف من الموت فيحتاط بها الإنسان إلى ما هو أحوج، وقال كل منهما في وصيته لمن بعده: {يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ} الحق الذي هو عبادته وحده والاعتراف والعمل بما أمر به والاجتناب عما نهى عنه فتمسكوا به وأمروا به غيركم: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} للّه مخلصون له مصدقون بما آتاكم، واحذروا كل الحذر من المخالفة والتقصير بنصح الخلق فإنكم مسئولون عنهم كما أنكم مسئولون عن أنفسكم، ولما قال اليهود لحضرة الرسول إن يعقوب أوصى عند موته باليهودية فكذبهم اللّه تعالى بقوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} حتى تقولوا أوصى بذلك كلا لم تكونوا ولم يوص، ثم بيّن لهم لفظ وصيته بقوله: {إِذْ قالَ لِبَنِيهِ} الإثني عشر لما ذكرهم في الآية 7 من سورة يوسف عند وفاته على طريق الاستفهام والاستخبار: {ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} إذا أنا مت قبلكم: {قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهًا واحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآن وبعد وحتى نلقاه مخلصون له وحده، ثم توفي عليه السلام بعد أن أخذ عليهم هذا العهد بإقرارهم فمن أين تقولون أنه أوصى باليهودية يا أعداء اللّه وهو قد توفي على هذه الوصية، ولم تكن إذ ذاك يهودية، إذ كانت على عهد موسى، فأعرض عنهم يا سيد الرسل وقل لهم: {تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ} من الخير في أقوالها وأفعالها، ونواياها: {وَلَكُمْ} معشر أهل الكتاب: {ما كَسَبْتُمْ} من العمل والقول والنية أيضا: {وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} كما نحن لم نسأل عن عملهم لأن كلا يسأل عن عمله فقط، وقدمنا في الآية 26 من سورة العنكبوت مبدأ هجرة إبراهيم وإسكان ابنه إسماعيل في مكة شرفها اللّه، ونذكر الآن منها من آخر ما ذكرناه هناك كما وعدنا.
قال فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل عليه السلام ليطالع تركته فلم يجده، فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا، وفي رواية ذهب ليصيد لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئنهم، فقالت نحن بشرّ، نحن في ضيق وشدّة، وشكت إليه، فقال إذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، وذهب، فلمّا جاء إسماعيل ألقي في روعه أن يسأل أهله كأنه آنس شيئا، فقال جاءكم أحد؟
قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، فقال هل أوصاك بشيء؟ قالت نعم، أمرني أن أقرئك السلام وأنه يقول لك غير عتبة بابك، قال ذلك أبي، وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى وكان الطلاق عندهم متعارفا، إلا أنه لم يحدد كما هو الآن، وسنأتي على ذكره في الآية 222 الآتية إن شاء اللّه، فلبث ما شاء اللّه أن يلبث ثمّ أتاهم فلم يجده، فدخل على امرأته، فسأل عنه فقالت خرج يبتغي لنا، قال كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على اللّه بما هو أهله، فقال وما طعامكم؟ قالت اللحم، قال وما شرابكم؟ قالت الماء، قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه، قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، وفي رواية فجاء فقال أين إسماعيل، فقالت امرأته قد ذهب يصيد ألا تنزل عندنا فتطعم وتشرب؟ قال ما طعامكم وشرابكم؟
قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قالوا فقال أبو القاسم بركة دعوة إبراهيم قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه أن يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال أتاكم من أحد؟ قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا بخير، قال فأوصاك بشيء؟ قالت نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، فقال ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء اللّه، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت درجته قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بولده والولد بالوالد من المصافحة والتقبيل.

.مطلب: بناء البيت وحدوده من جهاته وتحريمه واحترام ما فيه وبدء بنائه:

ثم قال يا إسماعيل إن اللّه أمرني بأمر، قال فأسمع ما أمرك به ربك، قال وتعينني؟ قال وأعينك، قال فإن اللّه أمرني أن أبني بيتا هاهنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة أي على ما حولها، فتحزبا على ذلك بكل حزم وعزم، وحضرا الأساس وطمخاه، وباشرا برفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله وهما يقولان {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفي رواية حتى إذا ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان: {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وقيل إن امرأة إسماعيل قالت لإبراهيم انزل اغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولته إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدميه عليه.
وأخرج الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس اللّه نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب.
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: «قال عمر وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى}» الحديث.
ورويا عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة اللّه تعالى إلى يوم القيامة، وانه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمته تعالى إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاه، فقال العباس يا رسول اللّه إلا الأذفر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال إلا الأذفر.
ومن حرمة هذا البيت أنه لم يأته جبار يقصد خرابه إلا قصمه اللّه مثل صاحب القيل ومن قبله، أما الحجاج فإنه لم يأت بقصد خرابه بل لخلع ابن الزبير، ولم يتمكن من ذلك إلا برمي البيت بالمنجنيق، ولما حصل قصده أعاد بناءه وشيده وعظم حرمته وأحسن إلى أهله.
ومكة هذه محرمة قبل إبراهيم عليه السلام بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض.
وقوله تعالى: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله قبل إبراهيم عليه السلام، وكان اللّه تعالى ولم يزل يمنعها ممن أرادها بسوء ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات حتى بوأها إبراهيم وأسكن بها أهله، وسأل ربه ما سأل من إظهار تحريمها لعباده وفرض على الخلق ذلك.
وحدود الحرم فيها من جهة طيبة طيب اللّه ثرى ساكنها ثلاثة أميال، ومن جهة الطائف سبعة أميال، ومن العراق عشرة، ومن جدة تسعة من قبل الجعرانة، وسبعة من اليمن، وسيأتي ما يتلعق بالحرم وما على المحرم إذا دخله في الآية 26 من سورة الحج الآتية وما على غير المحرم أيضا، وتفصيله على ما ينبغى في كتب الفقه فليرجع إليها من أراد الاستقصاء في ذلك.
ومبدأ قصة بنائه على ما قالوا هو أن اللّه تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام، فكانت زبدة بيضاء وعلى وجه الماء، فدحيت الأرض من تحتها، فلما أهبط اللّه آدم عليه السلام استوحش فشكا إلى اللّه تعالى فأنزل البيت المعمور، وهو من ياقوتة من بواقيت الجنة له بابان من زبرجد، ويقال زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي، فوضعه على موضع البيت، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول العرش، ويصلّى عنده كما يصلّى عند عرشي، وأنزل اللّه عليه الحجر الأسود وكان أبيض واسود من مس الحيّض في الجاهلية، فتوجه آدم من الهند ماشيا إلى مكة، وأرسل اللّه إليه ملكا يدله على البيت، فحج آدم البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له يرحمك اللّه يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
وقيل إن آدم عليه السلام هو الذي بناه على طراز البيت المعمور، وقد نظم الشيخ أحمد الكمسخاني أسماء من بنى الكعبة بقوله:
بنى الكعبة الغراء عشر ذكرتهم ** ورتبتهم حسب الذي أخبر الثقة

ملائكة الرحمن ثم آدم وابنه ** كذاك خليل اللّه ثم العمالقة

وجرهم يتلو قصي قريشهم ** كذا ابن زبير ثم حجاج لاحقه

وخاتمهم من آل عثمان بدرهم ** مراد المعالي أسعد اللّه شارقه

وقال ابن عباس حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه اللّه إلى السماء الرابعة.
وهذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه.
وبعث اللّه جبريل عليه السلام حتى خبّأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام فبناه على الصورة المار ذكرها.
وقيل إن الريح كنست له ما حول الكعبة حتى ظهر له أساس البيت الأول، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ} الآية: 27: من سورة الحج.
قال ابن عباس بناه من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودي، وقواعده من حراء، فلما بلغ موضع الحجر أراد حجرة تكون علما فيه فصاح جبل أبي قبيس إن لك عندي وديعة يا إبراهيم، وقذف بالحجر الأسود فوضعه بمكانه الآن.
وسيبقى إن شاء اللّه معظما محترما يتبرك به الناس إلى اليوم الذي قدره اللّه لخراب الكون، لما ورد أنه يسلط عليه قوما من الحبشة ينقضونه حجرا حجرا ويطرحونه في البحر، وهذا أيضا من جملة حرمته حتى لا تمسه أيدي الكفرة النجسة.
هذا، ويوجد سبع عشرة آية في القرآن مبدوءة بلفظ تِلْكَ أي بمثل هذه الآية قال تعالى: {وَقالُوا} اليهود والنصارى يا أيها الناس: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصارى} أي قالت اليهود كونوا أيها الناس يهودا، وقالت النصارى كونوا أيها الناس نصارى: {تَهْتَدُوا} لأن كلا منهم يزعم أن دينه الحق وما سواه باطل ولم يعلموا أن دين اليهود عدل بما أنزل على النصارى ودين النصارى أبطل بما أنزل على المسلمين، ولم يبق على وجه الأرض دين حق إلا دين الإسلام، كما كان الحال في زمن إبراهيم، لهذا يقول اللّه لنبيه: {قُلْ} لا تكونوا أيها الناس هودا ولا نصارى: {بَلْ} تعالوا كلنا نتبع: {مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} المرضية عند كل الأمم التي جددها حفيده محمد عليه الصلاة والسلام وإن إبراهيم كان: {حَنِيفًا} مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا كما يزعم اليهود والنصارى: {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} كما يزعم بعض كفرة العرب، وهذا هو الذي يرتضيه اللّه تعالى لا غيره، ومعنى حنيفا مائلا عن كل الأديان إلى دين الإسلام وعليه قوله:
ولكنا خلقنا إذ خلقنا ** حنيفا ديننا عن كل دين

.مطلب: كيفية الإيمان والإسلام والمعمودية ومن سنها وتحويل القبلة وأن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة ومنها شهادة خزيمة:

قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين: {قُولُوا آمَنَّا} كلنا أنا وأنتم ومن على وجه الأرض: {بِاللَّهِ} وحده: {وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا} من القرآن: {وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ} من الصحف: {وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ} الإثني عشر من الأحكام: {وَما أُوتِيَ مُوسى} من التوراة: {وَعِيسى} من الإنجيل: {وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} قبلهم من الوصايا: {مِنْ رَبِّهِمْ} كزبور داود عليه السلام لأنهم كلهم على هدى منه يأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه، وقولوا أيضا: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} كاليهود والنصارى وغيرهم بل نؤمن بهم كلهم ونصدق بما جاءوا به كله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} له بالعبودية مذعنون مخبتون خاضعون له بالعبادة: {فَإِنْ آمَنُوا} هؤلاء المخاطبون: {بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ} يا محمد أي بجميع الرسل والكتب: {فَقَدِ اهْتَدَوْا} إلى الدين الحق مثلكم: {وَإِنْ تَوَلَّوْا} عن هذا الإيمان وأعرضوا عنه أو عن شيء منه: {فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ} خلاف عظيم وجدال كبير عداء بكم، وعنادا لكم، وحسدا بما أوتيتم، ومحاربة للّه ورسوله، ونزاعا مع المؤمنين، وإذا تولوا ورضوا بما عندهم ولم يصغوا لإرشادكم، فاتركهم: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} بالقهر والغلبة عليهم والعزة والظفر لكم: {وَهُوَ السَّمِيعُ} لما تريدونه منهم من الخير: {الْعَلِيمُ} بمن يقبله منكم أو يرده عليكم.
وهذه الآية ضمان من اللّه تعالى لرسوله بالنصر، وإظهار لكلمته عليهم، وهي من الإخبار بالغيب لتحققه بعد نزول هذه الآية بثلاث سنين، إذ غزا بني النضير بالسنة الرابعة من الهجرة.
ونزول هذه السورة كان في السنة الأولى منها، وأجلاهم عن بلادهم، ثم غزا بني قريظة وسباهم وضرب الجزية عليهم.
واعلم أيها القارئ أن الإيمان على الوجه المذكور الجامع هو: {صِبْغَةَ اللَّهِ} يظهره ويلبسه من يشاء من عباده فيعرف به كما يظهر أثر الصبغ على الثياب لأنه يتداخل في قلوبهم ويتغلغل فيها فيسطع نوره على وجوههم، قال تعالى: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} الأخيرة من سورة الفتح الآتية، وتلك السيما {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} لعظمة اللّه تعالى نصبغته هي الصبغة المثلى، وقد جاء في الحديث الصحيح إن الإيمان نور يقذفه اللّه تعالى في القلب فيظهر على الوجه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} لا أحد البتة: {وَنَحْنُ لَهُ} لذاته المقدسة وحضرته الكريمة مع الإيمان والإسلام على الصفة المارة الذكر: {عابِدُونَ} طائعون مخلصون.
وجاء الإيمان المحقق في صاحبه بلفظ الصبغة للمشاكلة، لأن النصارى كانوا ولا يزالون يعمدون أولادهم أي يغسلونهم بماء يسمونه ماء المعمودية يضعون فيه شيئا من الصفرة يزعمون أن عيسى عليه السلام تعمد بمثله، أو مطلق ماء يقدسونه بما يتلون عليه من آي الإنجيل الشريف، وقد يأمرون الحامل فتغتسل فيه ويعتقدون أنه طهرة المولود كالختان، ولا يغتسلون من الجنابة بعد ذلك ولا يختتنون أيضا، لزعمهم أن الاغتسال بماء المعمودية كافيهم عنها والحال أن الأمر ليس كذلك، فإن المعمودية أول من سنتها سيدنا يحيى عليه السلام، ولذلك يسمونه في كتبهم يوحنا المعمدان الذي ألمعنا لذكره في الآية 7 من سورة الإسراء والآية 7 من سورة مريم، وهي عبارة عن أنه عليه السلام كان يدعو الناس إلى توحيد اللّه، وكلما دخل أحد في دينه أمره بالغسل ويأمره أن يأمر أهله وأولاده به، وهو الذي عمّد عيسى عليهما السلام لأنه قام بالدعوة إلى اللّه قبله وهو أكبر منه بستة أشهر، وابن خالته، وهذا الغسل هو سنة من سنن الإسلام، لأن كل من يدخل فيه ينبغي له أن يغتسل إشعارا بطهارته عما كان عليه من الرجس، لأن الإسلام يجب ما قبله من الذنوب مهما كانت، فإذا دخل فيه كان كيوم ولدته أمه، فهذا هو معنى المعمودية لا غير، وليس الذنب على المعمّدين بفتح الميم بل على المعمّدين بكسرها الذين يبينون لهم الأمر على خلاف ما هو عليه في الأصل، قال:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ** والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

قال تعالى: {قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء الذين يريدون أن يهوّدوا الناس أو ينصروهم زاعمين أن ما هم عليه من الدين بعد بعثتك هو الحق: {أتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ} وتجادلوننا فيه وتخاصموننا من أجله: {وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ} فنحن وأنتم فيه سواء، لأننا كلنا مربوبون له: {لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ} لا أحد يستفيد من الآخر شيئا، ولا يثاب على عمله، ولا يعاقب، بل كل مسئول عما يفعل، فله ثوابه وعليه عقابه: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} بالقول والعمل إسلاما وإيمانا، وقد نسبتم إليه يا أهل الكتاب الولد، وأنتم أيها المشركون عبدتم غيره، ومنكم من جعل الملائكة بناته، تعالى عن ذلك وتقدس، وقد علمتم أن الدين المرضي هو الذي يأمركم به أنبياؤكم قبلا، الذي منه متابعة محمد عند بعثته.
نزلت هذه الآية عند ما قال أهل الكتاب لحضرة الرسول إن ديننا أقدم من دينكم والأنبياء كلهم منا ونحن أولى باللّه منكم، قال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُودًا أَوْ نَصارى} في زعمكم كلا لم يكونوا كذلك، وزعمكم هذا باطل لا يستند إلى كتاب أو كلام رسول، فإن لم يذعنوا لقولك: {قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أعلم بما كانوا يدينون به كيف وقد أخبر بأنهم كانوا مسلمين، فلما قال لهم ذلك وعلموا أنه الحق لما عرفوه من كتابيهم سكتوا وخرسوا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} وذلك أنهم يعلمون مما في كتبهم أن إبراهيم وولده كانوا مسلمين، وأن محمدا من ذريته، وأنهم وإن عملوا ما عملوا من الكتم والإخفاء، فإنه لا يؤثر في الحقيقة الواقعة: {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} إن أنتم أغفلتم هذا وكتمتموه، فاللّه تعالى مطلع رقيب ناظر على جميع أعمالنا وأعمالكم، وهي محصية عنده وسيجازينا عليها الخير بأحسن منه والشر بمثله.
قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّة} أمة إبراهيم وولده: {قَدْ خَلَتْ} ومضت وقد أحصي عملها: {لَها ما كَسَبَتْ} من الثواب: {وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ} من العقاب: {وَلا تُسْئَلُونَ} أنتم: {عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} تقدم مثلها حرفيا وكررت لاختلاف مواطن المجادلة التي يحسن فيها التكرار للتذكير والتأكيد.
قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ} الجهلة خفيفو العقول قليلو الروية: {مِنَ النَّاسِ} بعد نزول آية تحويل القبلة: {ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها} عند مجيئهم إلى المدينة، وأي شيء صرفهم عنها وهي قبلة جميع الأنبياء؟
{قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء المعترضين: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وما بينهما فما كان منها قبلة كان بجعل اللّه تعالى، وهو الذي: {يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} ومن هذه الهداية التوجه إلى الكعبة بعد البيت المقدس لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام.
وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} إلى آخر الآيات.
وفي رواية أبي اسحق وعبد بن حميد وأبي حاتم عنه بزيادة، فأنزل الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ} إلخ الآيات، وهذا أليق بالمقام، وفيه ردّ لقول القائل إن قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ} متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن قوله: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} إلخ، على أنه لا مانع من القول بنزولها قبلها لأنها جاءت بلفظ الاستقبال، فهي من قبيل الإخبار بالشيء قبل وقوعه كسائر المغيبات التي أخبر اللّه تعالى بها رسوله قبل نزولها، وإنما غاظ اليهود تحويل القبلة وأزعجهم جدا لأنهم يرون ذلك قصدا لمخالفتهم، حتى أنهم عمدوا إلى تخريب مسجد الرسول وحرضوا بعض الناس على تخريب الكعبة الشريفة، كما ألمعنا إليه في [الآية 114]، إذ كان نزولها وقت الأمر بتحويل الكعبة، وقد أخبر اللّه تعالى في هذه الآية عما صاروا يقولونه بينهم من أجل ذلك، وقد ذكرنا بعض هذا في الآية [115]، لأن حضرة الرسول منذ دخل المدينة كان يحب التوجه إلى الكعبة، ولكنه لم يستبد بشيء يريده، إلا أن يقترن بأمر اللّه وإرادته، وكان في استقباله لبيت المقدس قرب لاستمالة اليهود إلى الإيمان به وتصديقه، لأن وصفه مذكور في كتابهم وعضّده التوجه لقبلتهم، ولكنه لم يزدهم ذلك إلا إنكارا وتعنّتا وحسدا وعنادا، فلما أمره اللّه بالتوجه للكعبة صاروا يتقولون بما تسوّله لهم أنفسهم الخبيثة من أن محمدا ما ترك قبلتهم إلا حسدا لعلمه أنهم على الحق وأن دينهم أعدل الأديان.
قال تعالى: {وَكَذلِكَ} كما جعلنا شريعتكم وسطا بين شريعة موسى وعيسى، لأن الأولى في غاية من الشدة والثانية في نهاية اليسر، فكانت بين الصعوبة والسهولة جعلنا قبلتكم وسطا بين المشرق والمغرب أي بين قبلتي اليهود والنصارى، لهذا: {جَعَلْناكُمْ} يا أمة محمد: {أُمَّةً وَسَطًا} لأنكم خير الأمم.
وجاء في الخبر: خير الأمور أوساطها.
قال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وإنما جعلناكم أمة وسطا يا أمة محمد: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ} يوم القيامة في المشهد العظيم بأن الرسل بلغوا أممهم ما أرسلهم اللّه به: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} بأنكم آمنتم به وصدقتموه.
ونظير هذه الآية الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية.
قال بعض المفسرين شهيدا بمعنى رضيّا، إذ لو كان القصد الشهادة لقال لكم، لأن الشهادة لهم لا عليهم والشهادة للنفع تتعدى بإلى وبالضر بعلى، وهو وجيه من حيث اللغة، ولكن الأول أولى لمناسبة المقام، فإن الرسل تشهد على أممها بالخير والشر لا بالخير فقط ليحسن القول بذلك فضلا عن أن حروف الجر تخلف بعضها، تدبر.
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟
فيقول نعم أي وربي، فيسأل أمته هل بلّغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ الآية، زاد الترمذي وسطا عدولا.
واعلم أن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الوقف والموت وغيرهما مما هو مبين في كتب الفقه، ولما كانت هذه الأمة سمعت من رسولها الصادق ما قصه عليها من أخبار الأمم وهو حقّ لا مرية فيه جاز لهم أن يشهدوا على الأمم بالتبليغ من قبل رسلهم، وهذا أقوى من المشاهدة لأن البصر قد يخطئ، وحضرة الرسول لا يخطئ وهو منزه عن الخطأ بالتبليغ، ومن هذا شهادة خزيمة رضي اللّه عنه التي عدها الرسول بشهادتين، لأنه كان جازما أن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم لا يقول إلا الحق، فشهد على ما أخبره به وسمي ذا الشهادتين.
{وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها} وهي صخرة بيت المقدس متروكة وأمرناك باستقبال الكعبة: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} اتباعا جازما سالما من الشك والشبهة، فيراه الناس ويميزونه عن الغير، وإلا فهو عالم بذلك قبل وقوعه مما هو موافق لما عنده في الأزل لا عبثا ولا لعبا، أي ليعلمه الناس كما هو معلوم لدينا: {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} ويظهر مخالفته لنا ولك علنا ويجاهر بمخالفتك: {وَإِنْ كانَتْ} تولية القبلة: {لَكَبِيرَةً} ثقيلة شاقة على الناس، لأن كل شيء خالف المألوف تستصعبه النفوس: {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} فإنهم لا يرون فيها كافة بل يرونها يسرة سهلة لما فيها من اتباع رسولهم وأمر ربهم، فيتلقون كل ما كان كذلك بطيب نفس ورغادة بال ورغبة واشتياق وسرور.
وهذه الجملة نظير الجملة المارة في الآية [45] بشأن الأوامر المارة فيها لقوله فيها: {وَإِنَّها لَكَبِيرَة إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} ولما قال حبي بن أخطب وأصحابه من اليهود إلى المؤمنين إن كانت صلاتكم إلى بيت المقدس هدى فقد تحولنم عنها وإن كانت ضلالة فكيف بمن مات منكم عليها، فأنزل اللّه: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} صلاتكم باستقبالكم القبلة السابقة لأنكم إنما استقبلتموها بأمر اللّه طاعة له ولرسوله، فإن صلاتكم إليها مقبولة مأجور عليها، كما أن استقبالكم البيت الحرام بأمر اللّه طاعة له ولرسوله مقبولة ومأجور عليها، وإنما سميت الصلاة إيمانا لاشتمالها عليه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُف رَحِيم} كثير الرحمة والرأفة بهم، لا يضيع عملا عملوه بأمره وإرادته، ولا يهدر ثوابه، كما أن من كان يتعبد على شريعة موسى، ولما بعث عيسى تبعه، ومن كان يتعبد على شريعة موسى وعيسى وعند بعثة محمد تبعه فتعبد على شريعته، فهو مأجور بكل منهما يثاب على الأخيرة كما يثاب على الأولى، فكل ما كان الإقدام عليه بأمر اللّه تعالى والانصراف عنه بأمره مثاب عليه، لأن القصد الامتثال.
واعلم أن الفرق بين الرأفة والرحمة هو أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، ولذلك حسن ورودها هنا، لأن الكلام فيمن مات وهو يستقبل في صلاته بيت المقدس، والرحمة اسم جامع لذلك المعنى وغيره في جميع الأقوال والأفعال من الإنسان والأنعام وغيرها.
ثم بين جل شأنه العلة في إنزال الأمر بتحويل القبلة كما هو ثابت في سابق علمه، فقال: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها} تحبّها يا سيد الرسل وتميل إليها لأنها قبلة أبيك إبراهيم، وكان صلّى اللّه عليه وسلم يتشوق إليها ويقول لجبريل وددت لو أن اللّه حولني إلى الكعبة، فيرد عليه بأني عبد مثلك وأنت كريم على ربك، فاسأله ذلك، ولكنه لا يسأله تأدبا، لأن علمه بما في قلبه كاف.
عن سؤاله، وكان صلّى اللّه عليه وسلم يتأذى من قول اليهود أن محمدا يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، وهذه الجملة حكاية حال حضرة الرسول قبل تحويل القبلة، إذ كان يود بقلبه ويرمق بطرفه إلى السماء رجاء نزول الوحي إليه بذلك، وقد كان في مكة يستقبلها، ولهذا خاطبه ربه بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} جهته في مكة المكرمة: {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ} أيها المؤمنون: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} نحوه وتجاهه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} من هؤلاء الذين يعترضون وينتقدون: {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} التوجه إلى الكعبة هو: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} لما هو مدون في كتبهم من أنه صلّى اللّه عليه وسلم يصلي إلى القبلتين، ولعلهم أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم عليه السلام، ثم هددهم بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} من إنكاركم فيما يتعلق بأمر القبلة ومعارضتكم إلى محمد وأصحابه فيما هو حق ثابت عندكم، وانه لابد مجازيكم على عنادكم وتعنتكم.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يسقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
وأخرج الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة، ثم قالت اليهود يا محمد ما هذا إلا شيء ابتدعته من نفسك، فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة، فلو ثبت على قبلتك لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي تنتظره، فأنزل اللّه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} كعبة البيت الحرام ولا طريقتك التي أنت عليها: {وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} مهما قالوا لك ومنّوك به من اتباع وسلوك طريقتك، لأنهم يكذبون في قولهم كله سواء باتباعك القبلة وغيره، لأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق، فضلا عن الكلام: {وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} فلا اليهود تتبع النصارى في قبلتهم، ولا النصارى تتبع اليهود في قبلتهم أبدا، كما أن كلا منهم لا يتبع قبلتك هذه ما داموا على يهوديتهم ونصرانيتهم: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ} الفاسدة، وهذا على طريق الإرهاب والتهيج ليزداد تثبيتا في حقه وتحذير للسامعين من متابعة الهوى كما أشرنا إليه أواخر سورة القصص والآية 64 من سورة الزمر: {مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} في بطلان أهرئهم: {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} وهذا محال عليه صلّى اللّه عليه وسلم، لأنه مقطوع له بأنه لا يتبع أهواءهم وهو معصوم من كل مخالفة، ولكن هذا مراد به غيره على حد إياك أعني واسمعي يا جاره كما أشرنا إليه في الآيات من القصص والزمر وغيرها.
قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} تقدم تفسيرها في الآية 20 من سورة الأنعام، وأوردنا عليه ما قاله عمر ابن الخطاب إلى عبد اللّه بن سلام وما رد عليه، وأشرنا إلى عبد اللّه هذا في الآية 10 من سورة الأحقاف: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه حق لا جهلا بل عنادا وحسدا.
واعلم يا محمد أن الذي أنت عليه وأصحابك هو: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فاثبت عليه وامر من اتبعك بالثبات عليه، فإنه هو الثابت عند اللّه: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} فيه أبدا وهذه أيضا من قبيل تلك الآيات لأنه لا يمتري ولا يشك في شيء جاء من ربه.
قال تعالى لِكُلٍّ من عباده ومخلوقاتهِ جْهَة هُوَ مُوَلِّيها لهم وموجههم إليهاَ: {فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} أيها المؤمنون وبادروا بفعلها. واعلموا أنكمَ: {أيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أنتم وأهل الكتاب والمشركون والمجوس والصابئون مؤمنكم وكافركمِ: {إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} لا يصعب عليه شيء وأهون عليه جمع ما تفتت من أجزائكم واضمحل من أسلافكم في البرّ والبحر أو الهواء.
وفي هذه حث على التسابق لأعمال الخير والأولوية والأفضلية في الطاعات، وتحذير لمنكري البعث والمعترضين على أعمال اللّه تعالى القائل: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ} التوجه إليه: {لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} كرر هذه الجملة تأكيدا للتهديد وتشديدا للتحذير ليكفوا عما يقولون في شأن القبلة وغيرها مما أنزله على محمد صلّى اللّه عليه وسلم: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} سواء كنتم في بر أو بحر بعيدا أو قريبا.
واعلم أن قائدة هذا التكرار هو أن الحادثة جاءت على خلاف ما يعهده أهل الكتاب في الرسول بعد مجيئه إلى المدينة وهو أول أمر وقع في تبديل القبلة لئلا يخطر بمال أحد أن الأمر بالتوجه هو لأهل المدينة خاصة أو لأهل مكة خاصة فاحتاج الأمر للتأكيد بالتكرار تقريرا له وإيضاحا لبيانه وإزالة لكل شبهة فيه وردا لاعتراض كل معترض وهو في الواقع رجوع إلى ما كان يستقبله حضرة الرسول من بداية أمره إلى وصوله إلى المدينة، لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، وأن قريشا مع كفرهم وإشراكهم يستقبلونها عند ما يدعون اللّه ويتضرعون له في النوازل، وكان استقباله بيت المقدس عند وصوله المدينة بأمر اللّه تعالى اتباعا لأمره الأزلي في لوحه المحفوظ بأن نبي آخر الزمان يستقبل إليه بعد استقباله الكعبة ثم يعود إليها ليكون أقرب إلى تصديق اليهود وأجلب لميلهم، كما أشرنا إليه آنفا.
واعلم أن هذا التحويل لا يسمى نسخا بالمعنى المراد بالنسخ، إذ لا يوجد في القرآن ما يدل على أن النبي وأصحابه كلفوا أن يستقبلوا الكعبة.
والنسخ الذي يريدونه هو رفع حكم ثابت في القرآن مقدم بنص لا حق ضده متأخر عنه، ولا يوجد في القرآن نص مقدم باستقبال الكعبة فلا معنى إدا للقول بالنسخ ولا قيمة لقول من قال إن تغير القبلة أول واقعة ظهر النسخ فيها في شرعنا، تأمل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة} يحتجون بها بأن هذا مخالف لما في التوراة على ما يزعمه اليهود، لأنك صليت إلى قبلتهم، ولئلا تحتج قريش بأنك كيف تدعي دين إبراهيم وتصلي إلى غير قبلته، أما ما تقوله قريش بأن محمدا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا لما علم أنها الحق، لأنها قبلة أبيه إسماعيل عليه السلام، فذلك قولهم بأفواههم، ولا يقوله إلا ذو العناد منهم.
وقد أطلق على قول المعاندين الجاهلين لفظ حجة لأنهم يسوقونها مساق الحجة اشتقاقا من حجه إذا غلبه، ولا يعلمون أن الحجة كما تكون صحيحة تكون فاسدة، وقد تسمى حجة وهي باطلة.
{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} استثناء متصل، أي لا حجة لأحد عليكم في استقبال الكعبة إلا حجة المتوغلين في اليهودية لكونها مخالفة لما في التوراة مع أنها موافقة لها وهم يكتمون ما فيها من الحق، وقد نص فيها على تحويل القبلة كما نص فيها على صفات الرسول.
وحجة قريش من الرجوع إلى قبلتهم واهية لأنها قبلة حضرة الرسول بطريق الإرث لا قبلتهم، فظهر أن كلا منهم مبطل في دعواه ويحاول بالباطل ظلما وعدوانا: {فَلا تَخْشَوْهُمْ} فيما يطعنون بكم من الأكاذيب المختلفة: {وَاخْشَوْنِي} وحدي أنا اللّه الذي أحق بأن يخشى منه لأظهركم عليهم: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} بهدايتكم لما فيه خيركم وصلاحكم: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكل ما فيه نفعكم وإكمال نعمكم.
نزل أمر تحويل القبلة يوم الإثنين في منصف شهر رجب الحرام السنة الثانية من الهجرة.
أو النبي صلّى اللّه عليه وسلم يصلي الظهر في مسجد بني سلمة وكان قد صلّى ركعتين فتحول في الثالثة إلى جهة الكعبة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.
وقبل كان التحويل بعد الصلاة إذ يفهم من هذا الحديث أن الوحي نزل عليه بتبديل القبلة وهو في الصلاة، تدبر.
ووصل الخبر إلى أعل قباء في صلاة الصبح، وقدمنا نص الحديث فيه في الآية 147 ونوهنا بالآية 115 المارتين ما يتعلق بهذا البحث.
الحكم لشرعي:
وجوب استقبال عين القبلة لتمسكي الشاهد، لها ولجهتها لغيره، ورخص المراكب النقل على ظهر دابته متجها تلقاء سمته، وتقدم الحديث في هذا أيضا في الآية 115 المرة أيضا، ويسنّ استقبالها في الوضوء والدعاء والقعود، ويكره حال لأخبثين وعند كشف العورة، ويكره لولي الصغير أن يقبله نحوها حال التغوط أو البول كما يحرم إلباسه الحرير وتحليه بالذهب والفضة.
هذا، ولما كان هذا من إتمام نعم اللّه على المؤمنين أردفها بكاف التشبيه فقال: {كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}.
كما أتممت عليكم النعمة بالإسلام والقبلة أتممتها عليكم بأن جعلت رسولكم منكم لأن خير الأمم من كان أميرها منها لأنها لا تذل بحكمه بخلاف المتسلط عليها من غيرها فقيه الهوان والصغار: {فَاذْكُرُونِي} أيها الناس: {أَذْكُرْكُمْ} عند مهماتكم وإفزاعكم ولا تغقلوا عن ذكري ومجدّوني دائما وعظموني لذاتي أحفظكم وأزدكم.