فصل: مطلب: آيات الصفات والشكر على النعم والذكر مفرد أو جماعة وثواب الشهيد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: آيات الصفات والشكر على النعم والذكر مفرد أو جماعة وثواب الشهيد:

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: يقول اللّه عز وجل: «أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».
وهذا من أحاديث الصفات التي جعل السلف الصالح تأويلها ظاهر لفظها، وأوله الخلف بأن المراد بالقرب القرب من رحمته وألطافه وبره وكرمه بإحسانه ومواهبه، وكلما ازداد العبد بما يقربه منه من أعمال الخير زاده اللّه تعالى من ذلك، لأن القصد من الشبر والباع والذراع والهرولة والمشي والقرب استعارة ومجاز، إذ يستحيل إرادة ظاهرها على اللّه تعالى، لأنه منزه عما هو من شأن خلقه.
وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 30 من سورة ق والآية 4 من سورة طه والآية 178 من سورة الأنعام والآية 65 من سورة الزمر.
ورويا عنه: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه.
ورويا عن أبي موسى الأشعري: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر، كمثل الحي والميت.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: سبق المفردون، قالوا وما المفردون يا رسول اللّه؟ قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات.
أي الذين ذهب القرن الذي كانوا فيه وبقوا فيه وحدهم، أو الهرمى الذين ذهب أقرانهم من الناس وبقوا وحدهم يذكرون اللّه تعالى.
ولهذا جاء في تأويل المفرّدين بأنهم هم الذين اهتزّوا في ذكر اللّه والذين تفقهوا واعتزلوا الناس والذين اختلوا بمراعاة الأمر والنهي.
ثم أردف الذكر بطلب الشكر فقال جل قوله: {وَاشْكُرُوا لِي} أيها الناس على ما غمرتكم به من النعم: {وَلا تَكْفُرُونِ} بجحود شيء من نعمي عليكم فتحرموها.
قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيد} الآية: 7 من سورة إبراهيم، وقال صلّى اللّه عليه وسلم: اشكروا النعم لا تكفروها فإنها إن زالت فهيهات أن تعود.
فاحفظوها عباد اللّه بدوام شكرها لئلا تسلب منكم وتقطع عنكم ولا أشد على المرء من زوال النعم بعد أن اعتادها، حفظنا اللّه ووقانا وإلى شكره هدانا، ومن زوال نعمه حمانا.
واعلم أيها العاقل أنه كما يجب شكر اللّه على نعمه يجب شكر خلقه على نعمهم عليك، قال صلّى اللّه عليه وسلم: أشكركم للناس أشكركم للّه.
وأن تخص بالشكر والديك على نعمة التربية، قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} الآية: 13 من سورة لقمان وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا} الآية: 23 من سورة الإسراء، وقد أسهبنا البحث في هاتين الآيتين في بحث الشكر.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالمعونة والثبات والنصر والأعمال والمطالب والنيّات وكل ما تعذرت به الحقيقة من آيات الصفات وأحاديثها وشبهها يصار فيها حتما إلى المجاز لأن هذه المعية لا يعلمها غيره تعالى، ونؤوّلها بالمعونة منه على عباده ومساعدتهم على أمورهم والقيام بحقوقهم، ولما صارت واقعة بدر في 27 رمضان السنة الثانية من الهجرة واستشهد فيها ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار قال المنافقون ماتوا وذهب عنهم نعيم الدنيا ولذّتها، فأنزل اللّه جل جلاله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوات بَلْ} قولوا: {أَحْياء} حياة طيبة أحسن من حياتكم أيها الناس، لأنهم لا يزالون وإلى الأبد يذكرون بأنهم استشهدوا في طاعة اللّه ورسوله لإعلاء كلمة اللّه والذب عن أوطانهم وأعراضهم وإظهارا لأمر رسولهم على أعدائهم، وإنما نهى اللّه تعالى عن القول بأنهم أموات لئلا يتساووا في هذا الاسم مع غيرهم الذين قتلوا في سبيل الشيطان وعداوة أهل الإيمان، لأنهم لا يذكرون إلا بالشر، فهؤلاء أموات مادة ومعنى وإن كانوا أحياء، وأولئك أحياء مادة ومعنى وإن كانوا أمواتا، وحياتهم بعد الاستشهاد كناية عن بقاء ذكرهم الحسن عند الناس وتنعم أرواحهم في الخير عند اللّه، ويطلق على من لم يزل ذكره جاريا بين الناس أنه حيّ مجازا، فهم أحياء عند اللّه بالمعنى الذي يريده: {وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ} أيها الناس بكيفية حياتهم عنده، وإنما هو وحده يعلمها.
قال الحسن إن الشهداء أحياء عند اللّه تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليها الروح والفرح كما تعرض النار على آل فرعون فيصل إليها الوجع والجزع.
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أيها الناس: {بِشَيْءٍ} نكره تعظيما لعظمه على حصول القوت خلقه ثم بينه بقوله: {مِنَ الْخَوْفِ} من العدو وقلة الأمن: {وَالْجُوعِ} بتعذر: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ} بخسران التجارة وهلاك قسم من رؤس الأموال والزروع والضروع: {وَالْأَنْفُسِ} بالموت أو القتل أو الغرق والحرق والتردي: {وَالثَّمَراتِ} بعدم بلوغ الزروع وإدراك نضج الفواكه وتسليط الآفات الأرضية والسمائية عليها، فيحصل النقص في جميع الحبوب والخضر والفواكه والأموال والأولاد والحيوان.
وتطلق الثمرات على الأولاد أيضا كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا مات ولد العبد قال تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي، قالوا نعم، قال أقبضتم ثمرة فؤاده، قالوا نعم، قال فماذا قال عبدي، قالوا حمدك واسترجع، قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد.
ويدخلون في معنى الكسب أيضا لما ورد وولد المرء من كسبه.

.مطلب: في الصبر وثوابه وما يقوله المصاب عند المصيبة:

ثم ذكر جل شأنه ما من شأنه أن يتسلى به المصاب فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} على تلك البلايا الموصوفين بقوله عز قوله: {الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَة} من تلك المصائب أو غيرها: {قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} فلم يجزعوا منها ولم يفزعوا لغيره لأنهم عرفوا أنهم وما يملكون بتصرف الإله المتصرف بهم وبما يملكونه بما شاء، وليس لأحد أن يعارض المالك إذا تصرف بملكه: {أُولئِكَ} الذين هذه صفتهم: {عَلَيْهِمْ صَلَوات مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} يهدي اللّه، المسترشدون برشده.
قال عمر الفاروق رضي اللّه عنه: نعم العدلان الصلاة والرحمة، ونعمت العلاوة الهداية.
ويفيد عطف الرحمة على الصلوات أن الصلاة من اللّه رحمة وزيادة، ولذلك عطف عليها من عطف العام على الخاص.
وروى مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا للّه وإنا إليه راجعون الآية اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا آجره اللّه في مصيبته وأخلف له خيرا منها. وقيل ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة.
يعني الاسترجاع عند المصيبة، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام، ولم يقل يا أسفا على يوسف.
والحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء أن العبد إذا علم أنه مبتلى وظنّ نفسه على الصبر فإذا نزل به البلاء لم يجزع ويكون أشد إخلاصا منه في حال الرخاء، فيداوم العبد على التضرع والابتهال إلى اللّه لينجيه ممّا يترقب نزوله.
روى البخاري عن أبي هريرة قال:
قال صلّى اللّه عليه وسلم من يرد اللّه به خيرا يصب منه أي يبتليه بالمصائب ليثيبه.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم ما يصبب المؤمن من نصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر اللّه عنه بها خطاياه.
ورويا عن عبد اللّه: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط اللّه عنه به من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.
ورويا عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مثل المؤمن كمثل لزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصببه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجر الأرز لا تهتزّ حتى تحصد.
وفي لفظ آخر حتى تنقعر.
وهو شجر معروف في لبنان يعمّر كثيرا حتى قيل إنه يوجد منه من زمن المسيح عليه السلام، أما الرز المعروف فهو داخل في الزرع.
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا إلا الجنة.
فهذا كله وأمثاله عند اللّه تعالى للصابرين، وليس للجازع إلا الخيبة إذ تصير مصيبته اثنين هي وضياع أجرها، وليعلم العبد أن اللّه تعالى إذا أراد به خيرا عجل عقوبته في الدنيا بإحدى المصائب، وإذا أراد به شرا استدرجه فأملى له في الدنيا ليشدد عذابه في العقبى.
قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ} الآية: 35 من سورة الأنعام فيظنون أن ما هم عليه حسن فيستزيدون منه حفظنا اللّه من غضب اللّه.
وليعلم العبد أن عظيم الجزاء مع عظيم البلاء، وإذا أحب اللّه قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى وذلك الثواب، ومن سخط فله السخط والعذاب والعقاب، وحينما يرى الرجل يوم القيامة ما للمبتلين عند اللّه من الكرامة، يود لو قرضت أعضاؤه في الدنيا بالمقاريض رغبة فيما أعده اللّه لهم.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى اللّه وما عليه خطيئة.
وقال سعد بن أبي وقاص: يا رسول اللّه أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل أي الأولياء والعلماء والصالحين يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة- أخرجه الترمذي-.
فهذه هي التسلية الشرعية الشريفة، وهذا هو العزاء الحسن، وبهذه الطريقة ينسى الحبيب حبيبه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
والصبر هو حبس النفس على احتمال المكاره في ذات اللّه تعالى، وعلى تحمل المشاق في العبادات وسائر الطاعات، وتجنب الجزع والمحظورات عند المصيبة، وقدمنا في الآية 34 فما بعدها من سورة المؤمن والآية 35 من سورة فصلت ما يتعلق في هذا البحث، وقد جاء في الخبر عن سيد البشر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش- أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود-.
وأخرج عبد الرزاق عن عبد اللّه بن كعب بن مالك وأخرج مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه أيضا عنه ما بمعناه.
وإذا علمت هذا وأيقنت به فاعلم أن الشهداء أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتا من جهة مفارقة الروح البدن، أو أنهم أحياء عند اللّه تعالى في عالم الغيب لأنهم صاروا إليه، وقد أشرنا إلى ما يتعلق بهذا في الآية 89 من سورة الإسراء بصورة مفصلة.
ومن عرف قدرة اللّه لا يشك في ظاهر هذه الآية، لأنه تعالى قادر على أن يصير روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكل ويشرب في الجنة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 170 من سورة آل عمران الآتية إن شاء اللّه.
هذا، ولما أشار اللّه تعالى في الآية المتقدمة إلى الجهاد أعقبها ببيان بعض معالم الحج لما بينهما من المناسبة في مشقة النفس وتلف المال ولاسيما ذكر الصبر لأن كلّا من الجهاد والحج محتاج إليه لعلاقتهما في ذكر المناسك المتقدمة في دعوة إبراهيم عليه السلام.

.مطلب: في السعي وأدلة السمعية والحكم الشرعي فيه وكتم العلم:

قال تعالى: {إِنَّ الصَّفا} الحجر الأملس: {وَالْمَرْوَةَ} الحجر الأبيض اللين وهما علمان لموضعين معروفين بمكة، وقيل إن صفي اللّه آدم عليه السلام جلس على الأول فسمي الصفا، وجلست امرأته على الثاني فسمي المروة وهما: {مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} وإعلام دينه وكل شيء معلم لقربان يتقرب به إلى اللّه من صلاة ودعاء وذبيحة، فهو شعيرة من شعائر اللّه ومشاعر الحج معالمه الظاهرة، فكل من المطاف والمنحر والموقف والمرمى من شعائر اللّه تعالى أي مناسكه في الحج، وقد جعلها اللّه أعلاما لطاعته: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} بالعمرة وهي الزيارة إلى الكعبة في غير موسم الحج أو فيه معه أو دونه: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} بسعى بين الصفا والمروة أي الجبلين الواقعين في طرفي المسعى تجاه البيت الحرام: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} فعل فعلا زائدا على ما أوجبه اللّه عليه من الصلاة والصدقة والصيام والحج والعمرة والطواف وسائر أنواع الطاعات والقربات: {فَإِنَّ اللَّهَ شاكِر} لطاعته مثيبه عليها: {عَلِيم} بحقيقة نيته فيها وإنما قال تعالى: {من شعائر اللّه} لأن للحج شعائر أخرى سنأتي على ذكرها عند قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُر مَعْلُومات} في الآية 196 الآتية إن شاء اللّه.
وسبب نزول هذه الآية على ما رواه البخاري ومسلم عن عاصم بن سليمان الأحول قال: قلت لأنس أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل اللّه هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة، زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما اللّه حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون اللّه، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنيين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل اللّه هذه الآية.
وهذا هو سبب الكراهة الواردة في الحديث، وعلى هذا وما جاء في سبب نزول الآية الأولى يفهم أن هاتين الآيتين نزلنا قبل فرض الجهاد وفرض الحج، لأن غزوة بدر بعد الأمر بالقتال وتكسير الأصنام بعد فتح مكة، وكلاهما لم يقع بعد.
الحكم الشرعي:
وجوب الطواف بين الصفا والمروة، ويجب بتركه دم، وهو ليس من أركان الحج، وإن قوله تعالى: {لا جناح عليه} وإن كان يصدق على أن لا إثم على فعله فيدخل تحته الواجب والمباح والمندوب، وظاهر الآية لا يدل على الوجوب وعدمه، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين هذه الأقسام الثلاثة لا يدل على خصوصية أحدها، بل لابد من دليل خارج بدل على النص هل هو واجب أم لا.
وهاك الأدلة على وجوبه، فقد روى الشافعي بسنده عن صفية بنت شبية قالت: أخبرتني حبيبة بنت أبي نخراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى ومئرزه ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبته، أي أنها لم تر ركبته، وإنما أرادت المبالغة من شدة سعيه ودوران إزاره بسببه، قالت وسمعته يقول اسعوا فإن اللّه كتب عليكم السعي، وصححه الدار قطني وإذا صح فهو المذهب الحق.
وروى مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع من حديث طويل قال: ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} أبدا بما بدأ اللّه به، فبدأ بالصفا الحديث.
وروى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم أرأيت قول اللّه: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ} فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة كلا لو كان كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة، وكان مناة اسم صنم حذو قديد موضع معروف على طريق المدينة مر به صلّى اللّه عليه وسلم عند هجرته ورأى فيه أم معبد وأظهر على يده معجزة حلب النعجة التي لا حليب فيها وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة للسبب المتقدم وهو وجود الصنمين عليهما فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه هذه الآية، فثبت من هذا كله وجوب السعي بينهما في قول الرسول وفعله وأمره.
وقد قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} الآية: 158 من سورة الأعراف، وقال تعالى: {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية: 8 من سورة الحشر الآتية، وقال صلّى اللّه عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم».
والأمر للوجوب ولقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} الآية: 113 من سورة التغابن، وما بعد هذه الأدلة القاطعة من دليل، وليعلم أن التمسك بقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} ضعيف لعدم اقتضاء المراد من هذا التطوع أنه هو الطواف كما تقدم.
ولما سئل علماء اليهود وأحبارهم عن آية الرحيم كتموها وأنكروا وجودها في التوراة كما أنكروا نعت الرسول أنزل اللّه تعالى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ} المنزل قبل القرآن على اليهود وهو التوراة المقدسة: {أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} من جميع خلقه ويستمروا على لعنهم ما داموا كاتمين لذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا} وطهّروا أنفسهم بالصدق والتصديق: {وَبَيَّنُوا} ما كتموه واعترفوا به: {فَأُولئِكَ} القائمون بهذه الشروط الثلاث: {أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وأقبلهم وأغفر لهم ذنوبهم السابقة وأكفر خطاياهم كلها: {وَأَنَا التَّوَّابُ} لمن رجع إليّ كثير الرأفة به: {الرَّحِيمُ} به فلا أعاقبه على ما سلف منه مهما كان، وهذه الآية وإن كان نزولها بمن ذكر فهي عامة في كل من يحذو حذوهم إذ لا مانع من شمول معناها لكل من يكتم شيئا مما أنزل اللّه سواء في التوراة أو إنجيل أو القرآن من أمر الدين والدنيا من مبدأ الكون إلى نهايته.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: لو لا آيتان أنزلهما اللّه في كتابه ما حدثت شيئا أبدا: هذه الآية وآية: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} الآية: 188 من آل عمران.
الحكم الشرعي:
يجب على العالم بشيء من أمور الدين الإجابة عند السؤال عنه وهو وجوب عيني، ويجب عليه وجوبا كفائيا إظهار علوم الدين للعامة والخاصة بأن يتصدر لها ويبثها بينهم إذا كان لا يوجد في المحل الذي هو فيه عالم غيره وإذا وجد فعلى أحدهم، فإن قام بذلك سقط الإثم عن الكل، وإلا فكلهم آثم.
وهكذا حكم كل وجوب كفائي كغسل الميت والصلاة عليه ودفنه.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّار أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى: {خالِدِينَ فِيها} أي النار المستفادة من اللعن الذي هو طرد من رحمة اللّه: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ} فيها: {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} يمهلون ليعتذروا ولا يؤجلون لوقت آخر.
الحكم الشرعي:
أجمعت العلماء على عدم جواز لعن كافر بعينه، وكذلك العاصي المعين والفاسق لعدم علم حاله عند الوفاة، فلعله يموت على الإيمان بسبب توبة يحدثها، وقدمنا في الآية 39 من سورة الأعراف أن العبرة لآخر العمر وخاتمته لا لأوله ووسطه، ويجوز لعن الكفار والظلمة والفسقة والعصاة على العموم.
قال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الآية: 44 من سورة الأعراف، وقال صلّى اللّه عليه وسلم لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها، إذ كان مطلقا لم يخصّ به أحدا معينا، فتقع على من يستحقها.
هذا وما جاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال: لعن اللّه السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده ولعن اللّه الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ومن غير منار الأرض ومن انتسب لغير أبيه، فكله مطلق، لأن المحلى والمضاف لا يتقيد بل يعم الأفراد كافة، فمن هذا الوجه جاز لعنهم، لأن كلا منهم يدخل في عموم الآية المارة والحديث، تأمل.
{وَإِلهُكُمْ إِله واحِد} أيها الناس هذه الجملة معطوفة على جملة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} من عطف القصة على القصة، لأن الأولى مسوقة لإثبات النبوة وهذه لإثبات الوحدانية، وفيها انتقال عن زجرهم عما يعاملون به رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم، إذ يكتمون وحدانيته ويقولون عزيز والمسيح ابنا اللّه كما يقول فريق من العرب الملائكة بنات اللّه، تعالى اللّه عن ذلك: {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ} قال ابن عباس: قال المشركون يا محمد صف لنا ربك وانسبه وذلك لتوغلهم في شرف الأنساب ظنوا أن الرب له نسب مع أنه تعالى ذم المفاخرة بالنسب كما مر في الآية 101 من سورة المؤمنين، وقيل في هذا المعنى:
وليس بنافع نسب زكي ** تدنسه صنايعك القباح

وقيل: لا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهله فأنزل اللّه هذه الآية.
وعنه أيضا: قالوا ليأتنا محمد بآية تدل على ما يدعيه، فأنزل اللّه تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ} من ركوب وحمل وبلوغ بلد بعيد أو محل نزهة: {وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} بالنبات لحاجة الإنسان والحيوان والطير والحوت: {وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} لمنافع الخلق أيضا من ركوب وحمل ورزق ومنها ما هو رزق لبعضها لأن الحيوان والحيتان والطير منها يأكل بعضه بعضا، ومنها ما يأكل جنسه بحسب التغلب، قال في المعنى:
ظلم القوي للضعيف جاري ** في الأرض والهواء والبحار

{وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ} في مهابها يمينا وشمالا وشرقا وغربا وجنوبا قبولا ودبورا، ونكباء وهي التي لا يعرف مهبها، وما فيها من المنافع لأناس ومضارّ لآخرين: {وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} للنزول على من يشاء من عباده للشرب والسقي: {لَآياتٍ} عظيمات كافية عن كل آية: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أن جميع ذلك جعله اللّه للنفع والاعتبار فيستدلون بها على الخالق القادر المدبر لها ويتفكرون في تكوينها وتقلباتها ويقفون على عجائبها وغرائبها وبدائع صنعها وإتقان تكوينها، وأن كلا منها بقدر ومحور خاص لا يتغير ولا يتبدل ولا ينضب، وأن كلا منها دال على الفاعل المختار ومنوه على وجوب التفكر والتذكر بآلاء اللّه وعظمته ورأفته بعباده.