فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويورثون أيضًا بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلّة بينهما فيتعاقدا على أنّ دمهما واحد ويتوارثا، فلمّا جاء الإسلام لم يقع في مكّة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذّر تنفيذ ما يُخالف أحكام سكّانها، ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكّة صار التوريث: بالهجرة، فالمهاجر يرث المهاجر، وبالحلف، وبالمعاقدة، وبالأخوّة التي آخاها الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، ونزل في ذلك قوله تعالى: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء: 33] الآية من هاته السورة.
وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين، فشرع الله الميراث بالقرابة، وجعل للنساء حظوظًا في ذلك فأتمّ الكلمة، وأسبغ النعمة، وأومأ إلى أنّ حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها.
وقد كان قوله تعالى: {وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} أوّل إعطاء لحقّ الإرث للنساء في العرب.
ولكون هذه الآية كالمقدّمة جاءت بإجمال الحقّ والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله، لقصد تهيئة النفوس، وحكمة هذا الإجمال حكمةُ ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقلَ لتسكن النفوس إليها بالتدريج. اهـ.

.قال الفخر:

في سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس: إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة، فجاء رجلان من بني عمه وهما وصيان له يقال لهما: سويد، وعرفجة وأخذا ماله.
فجاءت امرأة أوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت القصة، وذكرت أن الوصيين ما دفعا إلي شيئا، وما دفعا إلى بناته شيئا من المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجعي إلى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله في أمرك» فنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، ودلت على أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا، ولكنه تعالى لم يبين المقدار في هذه الآية، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الوصيين وقال: لا تقربا من مال أوس شيئا ثم نزل بعد: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم} [النساء: 11] ونزل فرض الزوج وفرض المرأة، فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الوصيين أن يدفعا إلى المرأة الثمن ويمسكا نصيب البنات، وبعد ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام اليهما أن ادفعا نصيب بناتها اليها فدفعاه إليها، فهذا هو الكلام في سبب النزول. اهـ.

.قال القرطبي:

قال علماؤنا: في هذه الآية فوائد ثلاث: إحداها بيان علة الميراث وهي القرابة.
الثانية عموم القرابة كيفما تصرّفت من قريب أو بعيد.
الثالثة إجمال النصيب المفروض.
وذلك مبين في آية المواريث؛ فكان في هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي. اهـ.

.قال الفخر:

كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال، ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة، فبين تعالى أن الارث غير مختص بالرجال، بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء، فذكر في هذه الآية هذا القدر، ثم ذكر التفصيل بعد ذلك ولا يمتنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء، أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلا قليلًا على التدريج، لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع، فإذا كان دفعة عظم وقعه على القلب، وإذا كان على التدريج سهل، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا، ثم أردفه بالتفصيل. اهـ.
قال الفخر:
احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قال: لأن العمات والخالات والأخوال وأولاد البنات من الأقربين، فوجب دخولهم تحت قوله: {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} أقصى ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية، إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية، وأما المقدار فنستفيده من سائر الدلائل.
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين:
أحدهما: أنه تعالى قال في آخر الآية {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} أي نصيبا مقدرا، وبالاجماع ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر، فثبت أنهم ليسوا داخلين في هذه الآية، وثانيهما: أن هذه الآية مختصة بالأقربين، فلم قلتم إن ذوي الأرحام من الأقربين؟ وتحقيقه أنه إما أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب من شيء آخر، أو المراد منه من كان أقرب من جميع الأشياء، والأول باطل؛ لأنه يقتضي دخول أكثر الخلق فيه، لأن كل إنسان له نسب مع غيره إما بوجه قريب أو بوجه بعيد، وهو الانتساب إلى آدم عليه السلام، ولابد وأن يكون هو أقرب إليه من ولده، فيلزم دخول كل الخلق في هذا النص وهو باطل، ولما بطل هذا الاحتمال وجب حمل النص على الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب الناس إليه، وما ذاك إلا الوالدان والأولاد، فثبت أن هذا النص لا يدخل فيه ذو الأرحام، لا يقال: لو حملنا الأقربين على الوالدين لزم التكرار، لأنا نقول: الأقرب جنس يندرج تحته نوعان: الوالد والولد، فثبت أنه تعالى ذكر الوالد، ثم ذكر الأقربين، فيكون المعنى أنه ذكر النوع، ثم ذكر الجنس فلم يلزم التكرار. اهـ.

.قال القرطبي:

أثبت الله تعالى للبنات نصيبًا في الميراث ولم يبين كم هو؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُوَيد وعَرْفَجة ألاّ يفرّقا من مال أَوسٍ شيئًا؛ فإن الله جعل لبناته نصيبًا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا.
فنزلت {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] إلى قوله تعالى: {الفوز العظيم} [النساء: 13] فأرسل إليهما أن أعطيا أم كُجَّة الثُّمن مما ترك أَوسٌ ولبناته الثلثين، ولكما بقية المال. اهـ.

.قال الفخر:

أصل الفرض الحز، ولذلك سمي الحز الذي في سية القوس فرضًا، والحز الذي في القداح يسمى أيضا فرضًا، وهو علامة لها تميز بينها وبين غيرها، والفرضة العلامة في مقسم الماء، يعرف بها كل ذي حق حقه من الشرب، فهذا هو أصل الفرض في اللغة، ثم إن أصحاب أبي حنيفة خصصوا لفظ الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع، واسم الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون، قالوا: لأن الفرض عبارة عن الحز والقطع، وأما الوجوب فإنه عبارة عن السقوط، يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط، وسمعت وجبة يعني سقطة قال الله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] يعني سقطت، فثبت أن الفرض عبارة عن الحز والقطع، وأن الوجوب عبارة عن السقوط، ولا شك أن تأثير الحز والقطع أقوى وأكمل من تأثير السقوط.
فلهذا السبب خصص أصحاب أبي حنيفة لفظة الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع، ولفظ الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا الذي قرروه يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل قاطع باجماع الأمة، فلم يكن توريثهم فرضًا، والآية إنما تناولت التوريث المفروض، فلزم القطع بأن هذه الآية ما تناولت ذوي الأرحام، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

استدل علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله، كالحمام والبيت وبَيْدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها.
فقال مالك: يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به؛ لقوله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}.
وهو قول ابن كنانة، وبه قال الشافعي، ونحوه قول أبي حنيفة.
قال أبو حنيفة: في الدار الصغيرة.
بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبي صاحبه قُسمتْ له.
وقال ابن أبي ليلى: إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم.
وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الآخر فإنه لا يقسم، وهو قول أبي ثَوْر.
قال ابن المنذر: وهو أصح القولين.
ورواه ابن القاسم عن مالك فيما ذكر ابن العربي.
قال ابن القاسم؛ وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمّامات، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم، أن يباع ولا شفعة فيه؛ لقوله عليه السلام: «الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» فجعل عليه السلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاعُ الحدود، وعلقّ الشفعة فيما لم يُقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه. هذا دليل الحديث.
قلت: ومن الحجة لهذا القول ما خرّجه الدارقطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق بن موسى عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تَعْضِيَة على أهل الميراث إلا ما حمل القَسْم» قال أبو عبيد: هو أن يموت الرجل ويدع شيئًا إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم أو على بعضهم.
يقول: فلا يقسم: وذلك مثل الجَوْهَرة والحمّام والطّيْلسَان وما أشبه ذلك.
والتعِضيَةُ التفريق؛ يقال: عضيت الشيء إذا فرقته.
ومنه قوله تعالى؛ {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} [الحجر: 91] وقال تعالى: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} [النساء: 12] فنفى المضارة.
وكذلك قال عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار» وأيضًا فإن الآية ليس فيها تعرّض للقسمة، وإنما اقتضت الآية وجوب الحَظِّ والنصيب للصغير والكبير قليلًا كان أو كثيرًا، ردًا على الجاهلية فقال: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ} {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} وهذا ظاهر جدًا.
فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر؛ وذلك بأن يقول الوارث: قد وجب لي نصيب بقول الله عز وجل فمكِّنوني منه؛ فيقول له شريكه: أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن؛ لأنه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال، وتغيير الهيئة، وتنقيص القيمة؛ فيقع الترجيح.
والأظهر سقوط القسمة فيما يبطل المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من الدّليل. والله الموفق. اهـ.

.قال الألوسي:

قال رحمه الله:
{لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الولدان والأقربون} شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان (أحكام) أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث، والمراد من الرجال الأولاد الذكور، أو الذكور أعم من أن يكون كبارًا أو صغارًا، ومن الأقربين الموروثون، ومن الوالدين ما لم يكن بواسطة، والجد والجدة داخلان تحت الأقربين، وذكر الولدان مع دخولهما أيضًا اعتناءًا بشأنهما، وجوز أن يراد من الوالدين ما هو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فيشمل الجد والجدة، واعترض بأنه يلزم توريث أولاد الأولاد مع وجود الأولاد.
وأجيب بأن عدم التوريث في هذه الصورة معلوم من أمر آخر لا يخفى، والنصيب الحظ كالنصب بالكسر ويجمع على أنصباء وأنصبة، ومن في مما متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله أي نصيب كائن مما ترك وجوز تعلقه بنصيب.
{وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الولدان والأقربون} المراد من النساء البنات مطلقًا أو الإناث كذلك، وإيراد حكمهن على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام السالفين بأن يقال للرجال والنساء نصيب إلخ للاعتناء كما قال شيخ الإسلام بأمرهن والإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون: إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة، وللرد عليهم نزلت هذه الآية كما قال ابن جبير وغيره وروي أن أوس بن ثابت وقيل: أوس بن مالك، وقيل: ثابت بن قيس، وقيل: أوس بن الصامت وهو خطأ لأنه توفي في زمن خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه مات وترك ابنتين وابنًا صغيرًا وزوجته أم كحة، وقيل: بنت كحة، وقيل: أم كحلة، وقيل: أم كلثوم فجاء أبناء عمه خالد أو سويد وعرفطة أو قتادة، وعرفجة فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما: تزوجا بالابنتين وكانت بهما دمامة فأبيا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أدري ما أقول؟ فنزلت: {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ} الآية فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى ابني العم فقال: لا تحركا من الميراث شيئًا فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيبًا ثم نزل بعد ذلك: {وَيَسْتَفْتُونَكَ في النساء} إلى قوله: {عَلِيمًا} [النساء: 127] ثم نزل: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم} إلى قوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 11، 12] فدعى صلى الله عليه وسلم بالميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يعط ابني العم شيئًا»، وفي بعض طرقه أن الميت خلف زوجة وبنتين وابني عم فأعطى صلى الله عليه وسلم الزوجة الثمن والبنتين الثلثين وابني العم الباقي.