فصل: مطلب: الدلائل العشر المحتوية عليها الآية 164 من هذه السورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: الدلائل العشر المحتوية عليها الآية 164 من هذه السورة:

واعلم أن في هذه الآية عشرة أنواع من البراهين النيرة القاطعة الدالة على الإلهية والوحدانية: النوع الأول آية السماء وهو سمكها وإتقانها وارتفاعها بغير عمد أو بعمد لا ترى لقوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} الآية: 10 من سورة لقمان، ومثلها في الآية الثانية من سورة الرعد الآتية، لأنهما يحتملان المعنيين لأن السماء بناء والبناء الذي على هيأتها قد يكون بعمد ويكون بلا عمد، قال تعالى: {وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدادًا} الآية: 12 من سورة عم، وقال تعالى: {أَمِ السَّماءُ بَناها} الآية: 27 من سورة النازعات، وقوله تعالى: {وَالسَّماءِ وَما بَناها} الآية: 5 من سورة والشمس، وقال تعالى: {وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ} الآية: 27 من سورة الذاريات، وقال تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ} الآية: 3 من سورة تبارك الملك.
النوع الثاني آية الأرض وهو مدها وبسطها وتمهيدها وتثقيلها بالجبال لئلا تضطرب ولم تجمع الأرض لثقل جمعها ومخالفته للقياس، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه كالأرض، وجمع لم يوجد في القرآن مفرده كالألباب للقلة أيضا، وفي هذين النوعين من المبدعات ما لا يدخل تحت حصر.
والأرضين سبعة كالسماء بلا شبهة لقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} الآية: الأخيرة من سورة الطلاق الآتية فهي دليل قاطع على أن الأرضين سبع كالسموات، فلا حجة لمن ادعى أنها واحدة لعدم جمعها بالقرآن العظيم.
النوع الثالث: آية الليل والنهار وهي اختلافهما وتعاقبهما بانتظام بديع لا يختلف ولا يدرك أحدهما الآخر، وقدمنا ما يتعلق بهما في الآية 12 من سورة الإسراء.
والنوع الرابع آية الفلك وهو تسخيرها وجريانها على ظهر الماء موقرة بالأثقال وتسيرها الريح مقبلة ومدبرة.
النوع الخامس: آية نفع الناس وهو ركوبهم لنزهة والتجارة ووضع القوة في القلب على ركوبها وإلا لم يتم الغرض من نفعها وكذلك الدواب.
السادس: آية تسخير البحر وهو حمل تلك الأفلاك العظيمة مع قوة سلطانه وهيجانه واستخراج اللآلئ منه للزينة والحيتان للأكل مع أنه مالح لا يستفاد منه ولكن كلمة اللّه أبت أن تبقي شيئا بلا فائدة.
السابع: آية المطر وإحياء الأرض الميتة به وإخراج أنواع النبات منها مما ينفع جميع الحيوانات وإنزاله بمكان دون مكان وبقدر الحاجة وتزيين الأرض به، قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} الآية: 6 من سورة الحج، وجاءت بلفظ خاشعة في الآية 40 من سورة فصلت.
الثامن: آية الرياح وهي آية عظيمة في القوة والنفع مع كونها جسم لطيف يحس به ولا يمسك ولا يرى وفيه حياة الوجود فلو أمسكه اللّه تعالى برهة عن خلقه لمات كل حي وانتهت الأرض.
التاسع: آية السحاب وهو كونه معلقا بين السماء والأرض مثقلا بالمياه تسوقه الرياح إلى حيث شاء اللّه فتارة تذهب ما فيه وتفرقه، ومرة تجمعه بعد الشتات، وطورا تسرع بإنزال الماء منه، وأخرى تؤخره إلى أجل مقدور وقد تسوقه إلى مكان آخر، كل ذلك بتقدير العزيز العليم القدير الحكيم.
العاشر: آية بثّ الدواب وهي آية كبرى لاجتماعها بعد تكونها من الماء في أصل واحد وهو الدم كما سيأتي في الآية 46 من سورة النور والآية 4 من سورة الرعد الآتيتين كيفية اتفاقها في ذلك الأصل وتفرقها في اللون والشكل والصورة واللغة والأخلاق والآداب وغيرها، فسبحان الإله الواحد الذي أحسن كل شيء خلقه.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدادًا} أمثالا وأشكالا وأشباها من الأصنام مع ما ظهر لهم من آيات اللّه الدالة على وحدانيته فيشركون به جل شأنه ما ليس بأهل للعبادة من صنع أيديهم وتصوير عقولهم مما هو محتاج للحراسة ويموهون بعضهم على بعض بأنها أنداد وليس في الوجود ندّ للّه، تعالى عن ذلك، ولقلة عقولهم بل لكثرة جهلهم: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} بلا حياء ولا خجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} من حبهم لأوثانهم وأدوم وأثبت: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بنتيجة أعمالهم هذه ما هو مرتب عليها من العذاب: {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ} يوم القيامة على أفعالهم هذه ويعاينون بأم أعينهم: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ليس لأندادهم منها شيء ويتحققون أنها لم تغن عنهم شيئا من الله لهوانها عليه وظهور ضعفها لديهم: {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ} لعرفوا مضرة شركهم وأيقنوا عدم نفع أندادهم، ولو أنهم شاهدوا: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} عند نزوله بهم جميعا فلم يبق بينهم تواصل: {وَرَأَوُا الْعَذابَ} قد حاق بهم وخاب أملهم في متبوعيهم وندموا ولات حين مندم: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ} التي كانت بينهم في الدنيا من صحبة وخلة وقرابة ومحسوبية ومنسوبية، لأن اللّه تعالى نفى ذلك كله وأذن بالشفاعة لخواص خلقه لمن ارتضى منهم، كما مرّ في الآية 19 من الأنبياء: {وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً} عودة أخرى إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا} في هذا اليوم الذي كنا نزعم نفعهم فيه: {كَذلِكَ} كما أراهم مقاطعة رؤسائهم وقادتهم الذين كانوا يؤملونهم في الدنيا: {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ} السيئة التي اقترفوها في الدنيا التابعون والمتبوعون لأن كلّا منهم يندم على ما وقع منه وتظهر الندامة: {حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ} يتحسرون المرة تلو الأخرى ندما وأسفا على عملها: {وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ} إذ لا يفيدهم تحسرهم شيئا لوقوعه بغير محله وتفريطهم في الدنيا فلو كان ندمهم فيها لنفعهم أما وقد فات محله، فلا فائدة فيه إلا زيادة الأسف والأسى والتحسر.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} نزلت هذه الآية في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيا والحام الآتي بيانها في الآية 4 من المائدة الآتية، وقيل إن عبد اللّه بن سلام وأصحابه الذين حرموا على أنفسهم أكل لحوم الإبل لأنه محرم عند اليهود، وقيل في قوم من ثقيف وبني عامر وخزاعة وبني مدلج إذ حرموا على أنفسهم التمر والأقط، وكلها صالحة لأن تكون سببا للنزول ولا مانع من تعداد أسبابه إلا في عبد اللّه لأنه لم يسلم بعد: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} طرقه وزلاته ووساوسه وإغراءه وإغواءه وآثاره، جمع خطوة وهي ما بين قدمي الخاطر: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِين} عداوته من زمن أبيكم آدم لم يخفها قط ولذلك في كل فرصة يريد تأثمكم انتقاما، وإنه: {إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} من تحليل وتحريم واتخاذ الأنداد واتباع الشبه والتشكيك بالحق قصدا لإظهار عداوته والتجاهر بها لإيقاعكم بالإثم ويمنّي لكم أقوال المذاهب الفاسدة التي لم تستند لكتاب أو سنة صحيحة للغاية نفسها وإن أمره إليكم أيها الناس هو عبارة عن وسوسة يدسّها ويلقيها في قلوبكم فتكون خواطر تجدونها تحوك في صدوركم بحروف وأصوات منتظمة خفيفة تشبه الكلا في الخارج ليجركم لما يسيئكم ويشوش عليكم، وليس له سلطة يقسركم بها على الأخر بتسويلاته، كما اعترف بذلك في الآية 22 من سورة إبراهيم.
واعلموا أيها الناس أن الذي قدر إبليس وأعوانه على إيقاع الوسوسة في قلوبكم هو اللّه تعالى.
ومما يؤيد هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإنما أقدره اللّه تعالى على إيصال هذه الخواطر إلى قلوب البشر ليميزوا ويعلموا بعقولهم التي منحها اللّه تعالى إليهم الخير من الشر ويزنوا بميزان الشرع تلك الوساوس، فما كان موافقا أخذوه، وما كان مخالفا نبذوه، لأن اللّه تعالى إنما أعطاهم العقل ليفرقوا به بين الحق والباطل، والحسن والقبيح، والطيب والرديء، إذ قد يلقي الخبيث في الصدور ما هو حسن أيضا ليستجر به العبد إلى ضده، على أن الخاطر الحسن قد يكون من الملك الموكل بالقلب، فعلى الرشيد أن يتذكر ويعلم هل هو من الملك أم من الشيطان، وطريق معرفة هذا الميزان هو التمسك بالشرع، وطريق التمسك بالشرع هو التقوى المار تفصيلها في الآية 48 وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ} [الآية: 212].
{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ} وذلك أن حضرة الرسول دعا اليهود وأمرهم باتباع دين الإسلام ونصحهم وأرشدهم، فقال بعض رؤسائهم رافع بن خارجة ومالك بن النصيص ما قاله المشركون وهو ما قصه اللّه: {قالُوا} لا نتبع ما جئتنا به: {بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا} من دين اليهودية كما قال المشركون، بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأوثان، قال تعالى مؤنبا لهم كما قال لأولئك: {وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} من أمور دين الحق: {شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} إلى طريقه الذي يوصلهم إليه ولا يحكمون عقولهم فيما هو أرجح، أيتبعونهم على ضلالهم؟
فقالوا له مثل قول المشركين أيضا هم أعلم منا بذلك، ثم ضرب اللّه مثلا لهم فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من المشركين وأهل الكتاب القائلين باتخاذ الولد: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} النعيق صوت الراعي الذي ينادي غنمه: {بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً} لأنها لا تعي منه إلا هذا، وهؤلاء كذلك لا يعون من النصح والإرشاد إلا الصوت، وذلك لأنهم: {صُمّ} عن سماع الحق سماع قبول: {بُكْم} عن النطق به بعد أن عرفوه: {عُمْي} عن رؤيته، لأنهم لا ينظرون إليه نظر اعتبار فلا يألفونه عمه قلوبهم أيضا، لأنهم لا يفقهونه ولا يريدون أن يتدبروه: {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} شيئا ينفعهم من أمر الدين وقد شبه اللّه تعالى في هذه الآية الداعي إلى ربه وسلوك طريقه بالراعي، والكفرة بالغنم، ووجه الشبه هو أنه كما أن الغنم لا تعي من الراعي إلا الصوت ولا تفهم المراد منه لأنه قد يؤدي اتباعها صوته إلى الذبح كما هو الواقع عند أخذها إلى المذبح، فكذلك الكفار لا يسمعون من مرشدهم إلا صوته، فلا ينتفعون به ولا يهتدون لهديه، وقد يؤدي إعراضهم عنه إلى ضلالهم المؤدي إلى قذفهم في النار بجامع عدم الفطنة في كل منهما.

.مطلب: في الأكل وأحكامه وأكل الميتة والدم وغيرهما من المحرمات:

قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} ولا تلتفتوا إلى هؤلاء فيما يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} لنعمته عليكم في الأكل منها ومن غيرها، لأن به قوام أبدانكم، وملاك قوتكم على طاعة اللّه: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} بإخلاص لا تقصدون وجه غيره بها، وهذا الأمر بالأكل واجب لحفظ النفس ودفع ضرر الجوع عنها لأنه داء دواءه الأكل، ومندوب للأكل مع الضيف لئلا يستحي فلا يشبع، ومباح في سائر الأوقات، وحرام بعد الشبع، ومكروه الشبع نفسه، إذ ينبغي أن يرفع يده ونفسه تشتهي الطعام ليجد له لذة وينتفع به، لأن من الشبع ما يؤدي إلى التخمة وإلى نفرة النفس من الطعام وإلى توسع المعدة ويسبب أمراضا كثيرة قد تؤدي إلى الموت.
قال تعالى: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} حتف أنفها عدا السمك والجراد لاستثنائهما بالحديث، والدابة الفارة التي لم يقدر على مسكها وأمكن إراقة شيء من دمها من أي موضع كان جاز أكلها ولا تدخل في حكم الميتة لإخراج دمها يفعل فاعل قصدا، والسمك لا دم له، إذ من شأن الدم أن يسودّ إذا يبس، ودم السمك إذا يبس ابيض، والجراد لا دم له أصلا: {وَالدَّمَ} الجاري من الحيوان بحياته وعند ذبحه الذي يتجمد في الإناء والمصارين ويشوى، والدم الذي يمصّ من الحيوان الطيب يحرم تناوله أيضا وأكله بعد تجميده حرام، وكذلك الدم الخارج من الآدمي بقصد عرقه أو غيره كما كانت العرب تفعله في الجاهلية، فتشربه أو تجمده لتأكله، لأن المفصول من الحي كالميتة، اما الذي يبقى في العروق واللحم والقلب بعد الذبح فجائز أكله، لأنه غير جار، وكذلك الكبد والطحال لأنهما متجمدان خلقه، فضلا عن استثنائهما بالحديث كما سيأتي في آية المائدة إن شاء اللّه بصورة واضحة: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} المعروف، وحرمة هذه الأشياء الثلاثة لأمر طبي علمه تعالى قبل أن يطلع البشر عليه، وقد أظهر أخيرا بعض الأطباء الحاذقين بعض ما فيها من الضرر للإنسان وسيظهر الباقي إن شاء اللّه، لأن الكون لم يكمل بعد ولو كمل لخرب، إذ ما بعد التمام إلا النقصان، وقد يكون هذا التحريم لأمر آخر في علم اللّه ليس لنا أن نسأل عن علته، لأن أفعال اللّه لا تعلل، وسواء كان التحريم من اللّه أو من حضرة الرسول فهو على حد سواء، قال تعالى: {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية: 8 من سورة الحشر الآتية: {وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} بأن ذبح للصنم أو على اسمه، وحرمة هذا والمعنى الآخر في حرمة الثلاث الأول تعبدي تعبدنا الشارع به فما علينا إلا الامتثال والاعتقاد بأنه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا، لأنه أحل لنا خيرا منها، وليست هذه المحرمات بعزيزة عليه بل هي خبيثة أراد تعالى تطهرنا منها إلا عند الضرورة لحفظ قوام هذا الوجود، فقد أباح لنا تناول ما يسد الرمق منها، لأن الضرورات تبيح المحظورات، هذا قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} في غير حالتين الأولى أن يكون: {غَيْرَ باغٍ} هو الذي يجد غير هذه المحرمات فيعدل عنها إليها شهوة وتلذذا، الثانية بينها بقوله: {وَلا عادٍ} متعد بأكله منها زيادة على قدر الحاجة لسد الرمق أو يتزود منه لأن الضرورة تقدر بقدرها: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} إذا أخذ بقدر ما يسد رمقه عند عدم شيء من الحلال فهو مسموح له فيه: {إِنَّ اللَّهَ غَفُور} للمضطرين: {رَحِيم} بهم إذا لم يبغوا أو يعتدوا، وإنما عتبر عن الرخصة بالمغفرة إيماء إلى لزوم التحري في ذلك، بحيث لا يأكل إلا بعد تحقق الضرورة، وبعد التحقق يأكل بقدرها كما مرّ، وهذا من الرخص التي من اللّه بها على عباده، ولا يجوز للمؤمن تركها تأثما والأخذ بالعزيمة، لأنها من حقه الخالص، بخلاف الزنى والقتل لما فيهما من حق الغير واللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وحقوق اللّه مبنية على التسامح، وحقوق خلقه مبنية على التشاحح، وهذا ما اتفق عليه الأئمة من الحكم الشرعي في هذه الأشياء.
ومما جاء من الأدلة على هذه المستثنيات ما قاله ابن أبي أوفى: غزونا مع رسول صلّى اللّه عليه وسلم سبع غزوات أو ستا، وكنا نأكل الجراد ونحن معه، وقد سأل الرسول جماعة من ركاب البحر فقال لهم هو الطهور ماؤه، الحل ميتته.
وروى الدار قطني عن عبد الرحمن بن زيد بن الحم عن أبيه عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: أحل لنا من الدم دمان ومن الميتة ميتتان الحوت والجراد والكبد والطحال.
واتفقت الأئمة على حل الدم الذي بين اللحم والعروق، وقال صلّى اللّه عليه وسلم: إذا سمعتم النصارى واليهود يهلّون لغير اللّه فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن اللّه قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون، واتفقت على حل ذبائح أهل الكتاب الأئمة، فلا عبرة بمن خالف إجماعهم.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ} {ولا يبينونه للناس} {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي الكتمان: {ثَمَنًا قَلِيلًا} من حطام الدنيا ليتمتعوا به للمحافظة على مناصبهم: {أُولئِكَ} الذين هذا شأنهم، وقد تقدم بأن المراد بهم علماء اليهود وأحبارهم: {ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} لأن الرشوة تؤدي إليها إذا كانت في ضياع حقوق الناس فلئن تكون موصلة إليها، ومدخلة فيها إذا كانت في ضياع حقوق اللّه ورسله من باب أولى: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} لاشتداد غضبه عليهم، أما السؤال فيتولاه ملائكته، وقيل لا يكلمهم كلاما يسرّون به، بل بما يوبخهم ويقرعهم، وهو خلاف الظاهر: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} من دنس الذنوب ودرن العيوب: {وَلَهُمْ عَذاب أَلِيم} جزاء جرأتهم تلك: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ} أي بطوعهم واختيارهم: {فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي شيء صبّرهم عليها، وهي لا يصبر عليها أحد برضائه، وإذا كان كذلك فلم يجرءون على عمل يؤدي إليها والصبر على عذابها؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ والتعجب من اتباعهم الباطل وتركهم الحق من غير مبالات منهم بما يترتب عليهم من العقاب، فكانت ملابستهم هذه الحالة الهائلة عين النار لأنها توجب العذاب فيها قطعا، ثم بين سبب إيجابه لهم بقوله عز قوله: {ذلِكَ} العذاب المساق إليهم: {بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ} ليؤمنوا به وهم على العكس كفروا به واختلفوا فيه: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} عن الحق يؤدي بهم إلى عذاب سحيق في أعماق جهنم يتسرون على الصبر عليه فيها.