فصل: فوائد بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



نَارًا أَيْ مَا هُوَ سَبَبٌ لِعَذَابِ النَّارِ أَوْ مَا يُشْبِهُ النَّارَ فِي ضَرَرِهَا، وَرُوِيَ أَنَّ أَفْوَاهَهُمْ تُمْلَأُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمْرًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُمْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ يُجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرٌ مِنْ نَارٍ فَيُقْذَفُ فِي أَجْوَافِهِمْ، أَيْ مُثِّلَ لَهُ عَذَابُهُمْ بِمَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِجَعْلِ أَكْلِ النَّارِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِجَعْلِ يَأْكُلُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ لِلْحَالِ بِقَرِينَةِ عَطْفِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وَهُوَ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَحُجَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَلْيَ السَّعِيرِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دُخُولِ النَّارِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَكْلُ النَّارِ لِمَنْ يَأْكُلُهَا بَعْدَ دُخُولِهَا، أَيْ دُخُولِ دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا؛ لِأَنَّ جُلَّ الْعَذَابِ فِيهَا يَكُونُ بِهَا، فَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ لَكَانَ لَفْظُهَا هَكَذَا: فَسَيَأْكُلُونَ نَارًا وَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا فَالْأَكْلُ عَذَابُ بَاطِنِ الْبَدَنِ لِأَنَّ مُعْظَمَ اغْتِيَالِ الْمَالِ يَكُونُ لِلْأَكْلِ، وَالصِّلِيُّ عَذَابُ ظَاهِرِهِ فَهُوَ جَزَاءُ اللِّبَاسِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. وَلَكِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ يَأْكُلُونَ غُفْلًا مِنْ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ يَصْلَوْنَ مَقْرُونًا بِالسِّينِ الَّتِي هِيَ عَلَامَةُ الِاسْتِقْبَالِ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ الْآنَ مَالَا خَيْرَ لَهُمْ فِي أَكْلِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي قُبْحِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ كَالنَّارِ، أَوْ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُجْزَوْنَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْمَجَازُ فِي أَكْلِ النَّارِ فَقَالَ: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وَلَمْ أَرَ أَحَدًا حَقَّقَ هَذَا الْبَحْثَ وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي الْآيَةِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.
{يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَوَائِلِ السُّورَةِ بِإِعْطَاءِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ أَمْوَالَهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ سَفِيهًا لَا يُحْسِنُ تَثْمِيرَ الْمَالِ وَلَا حِفْظَهُ، فَيُثَمِّرُهُ لَهُ الْوَلِيُّ وَيَحْفَظُهُ لَهُ إِلَى أَنْ يَرْشُدَ، وَنَهَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَبْطَلَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِهِمْ. فَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ أَحْكَامَ الْمِيرَاثِ وَفَرَائِضِهِ، فَكَانَ بَيَانُهُ فِي هَاتَيْنِ، وَآيَةٌ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَهَذِهِ هِيَ الْفَرَائِضُ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ بَعْدَ نُزُولِهَا فَبَطَلَ بِهَا، وَبِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [8: 75] مَا كَانَ مِنْ نِظَامِ التَّوَارُثِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
أَمَّا الْجَاهِلِيَّةُ فَكَانَتْ أَسْبَابُ الْإِرْثِ عِنْدَهَا ثَلَاثَةً:
أَحَدُهَا: النَّسَبُ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ، وَيُقَاتِلُونَ الْأَعْدَاءَ، وَيَأْخُذُونَ الْغَنَائِمَ لَيْسَ لِلضَّعِيفَيْنِ: الطِّفْلِ وَالْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ.
ثَانِيهَا: التَّبَنِّي، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَتَبَنَّى وَلَدَ غَيْرِهِ فَيَرِثُهُ، وَيَكُونُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ التَّبَنِّيَ بِآيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَنَفَّذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِمُطَلَّقَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
ثَالِثُهَا: الْحَلِفُ وَالْعَهْدُ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي، وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ. فَإِذَا تَعَاهَدَا عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتُرِطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَبْطُلْ إِلَّا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَدْ جَعَلَ التَّوَارُثَ أَوَّلًا بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْمُهَاجِرَ الْبَعِيدَ، وَلَا يَرِثُهُ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَاخِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَقَدْ نُسِخَ هَذَا، وَذَاكَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نُزُولِ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ أَنَّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ ثَلَاثَةٌ: النَّسَبُ، وَالصِّهْرُ، وَالْوَلَاءُ، وَحِكْمَةُ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ؛ فَإِنَّ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالرَّحِمِ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لِقِلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى التَّنَاصُرِ، وَالتَّكَافُلِ بَيْنَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَتَرَكَ ذُو الْمَالِ مِنْهُمْ فِيهَا.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ قَدْ نُسِخَتْ أَيْضًا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ، وَلَكِنَّكَ تَرَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُفَصِّلَتَيْنِ لِأَحْكَامِ الْإِرْثِ قَدْ جَعَلَتَا الْوَصِيَّةَ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِرْثِ، وَأَكَّدَتْ ذَلِكَ بِتَكْرَارِهِ عِنْدَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرَائِضِ فِيهَا، وَتَرَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَأْكِيدٌ يُنَافِي النَّسْخَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ- رَاجِعْ تَفْسِيرَ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [2: 180] الْآيَاتِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَأَعَادَ مَا قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ فَتَرَكْنَا إِعَادَتَهُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالْإِحَالَةِ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّهِ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا تُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ. فَقَالَ: يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ أَوَّلُ تَرِكَةٍ قُسِّمَتْ فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ عَامٌّ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ وَيُنَفِّذُونَ الْوَصِيَّةَ، وَلِتَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الْآيَةَ، وَمَا بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الْآيَةَ. وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ هِيَ وَمَا قَبْلَهَا- وَمِنْهَا تِلْكَ الْآيَةُ الْمُجْمَلَةُ- فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي، وَالتَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَيَجُوزُ عَلَى فَرْضِ التَّأْخِيرِ، وَالتَّرَاخِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى أَبْطَلَتْ هَضْمَ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالطِّفْلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ. وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ نُزُولِهَا قَدْ كَثُرُوا وَكَثُرَ أَقَارِبُهُمْ مِنْهُمْ، وَاسْتَعَدُّوا بِذَلِكَ لِنَسْخِ أَسْبَابِ الْإِرْثِ الْأُولَى الْمُوَقَّتَةِ بِأَسْبَابِ الْإِرْثِ الدَّائِمَةِ فَلَمَّا اسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ نَزَلَ التَّفْصِيلُ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال أبو حيان:
وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة.
الطباق في: واحدة وزوجها، وفي غنيًا وفقيرًا، وفي: قل أو كثر.
والتكرار في: اتقوا، وفي: خلق، وفي: خفتم، وأن لا تقسطوا، وأن لا تعدلوا من جهة المعنى، وفي اليتامى، وفي النساء، وفي فادفعوا إليهم أموالهم، فإذا دفعتم إليهم أموالهم، وفي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وفي قوله: {وليخش}، وخافوا من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين، وإطلاق اسم المسبب على السبب في: ولا تأكلوا وشبهه لأن الأخذ سبب للأكل.
وتسمية الشيء باسم ما كان عليه في: وآتوا اليتامى، سماهم يتامى بعد البلوغ.
والتأكيد بالاتباع في: هنيئًا مريئًا وتسمية الشيء باسم ما يؤول اليه في: نصيب مما ترك، وفي نارًا على قول من زعم أنها حقيقة.
والتجنيس المماثل في: فادفعوا فإذا دفعتم، والمغاير في: وقولوا لهم قولًا.
والزيادة للزيادة في المعنى في: فليستعفف.
وإطلاق كل على بعض في: الأقربون، إذ المراد أرباب الفرائض.
وإقامة الظرف المكاني مقام الزماني في: من خلفهم، أي من بعد وفاتهم.
والاختصاص في: بطونهم، خصها دون غيرها لأنها محل للمأكولات.
والتعريض في: في بطونهم، عرض بذكر البطون لحسنهم وسقوط هممهم والعرب تذم بذلك قال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وتأكيد الحقيقة بما يرفع احتمال المجاز بقوله: {في بطونهم}.
رفع المجاز العارض في قوله: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا} وهذا على قول من حمله على الحقيقة، ومن حمله على المجاز فيكون عنده من ترشيح المجاز، ونظير كونه رافعًا للمجاز قوله: {يطير بجناحيه} وقوله: {يكتبون الكتاب بأيديهم} والحذف في عدة مواضع. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ظُلْمًا} فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه مفعول من أجله، وشروط النصب موجودة.
الثاني: أنَّهُ مصدرٌ في محلِّ نَصْب على الحَالِ أي: يأكُلُونَهُ ظالمين والجملة من قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ} هذه الجملة في محل رفع لإنَّ، وفي ذلك خلاف.
قال أبُو حيان: وَحَسَّنَه هنا وقوعُ اسم أن موصولًا فطال الكلامُ بصلة الموصول فلما تباعد ما بينهما لم يُبَالِ بذلك، وهذا أحْسَنُ من قولك: إنَّ زيدًا إنَّ أبَاهُ منطلق، ولقائلٍ أن يقول: ليس فيها دلالة على ذلك؛ لأنها مكفوفة بما ومعناها الحصرُ فصارت مثل قولك، في المعنى: إنَّ زيدًا ما انطلق إلاَّ أبوه وهو محل نظر.
قوله: {فِي بُطُونِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: انَّهُ مُتَعَلِّقٌ بـ {يَأْكُلُونَ} أي: بطونُهم أوْعِيَةٌ للنَّارِ، إمَّا حَقِيقَةً: بأنْ يَخلق اللهُ لهم نارًا يأكلونَهَا في بُطُونِهِم، أوْ مَجَازًا بِأنْ أطْلِقَ المُسَبِّبَ وأرادَ السبب لكونه يُفْضِي إلَيْهِ ويستلزمه، كما يُطْلَقُ اسْمُ أحَدِ المتلازمين على الآخَرِ كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].
قال القاضِي: وهذا أوْلَى؛ لأن الإشارةَ فيه إلى كُلِّ واحِدٍ.
وَالثَّاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حال مِنْ نارا وكان في الأصل صفة للنكرة فَلَمَّا قُدِّمَتِ انْتَصَبَتْ حَالًا.
وذكر أبُو البَقَاءِ هذا الوجه عن أبِي عَلِيٍّ في تَذْكِرَتِهِ، وحكى عنه أنَّهُ منع أنْ يكون ظرفًا لـ {يَأْكُلُونَ} فَإنَّهُ قال: {فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} حال من نار، أي: نَارٌ كَائِنَةٌ في بُطُونِهِمْ، وليس بِظَرْفٍ لـ {يَأْكُلُونَ} ذكره في التَّذْكِرَةِ.
{إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وفي قوله: وَالَّذي يَخُصُّ هذا المَوْضِع فيه نَظَرٌ، فَإنَّهُ كما يجوزُ أن يكونَ {فِي بُطُونِهِمْ} حالًا من نَار هنا يجوزُ أن يكون حالًا من النَّار في البقرة، وفي [إبداء] الفرقِ عُسْرٌ، ولم يظهر [منع أبي عليٍّ كَوْنَ {فِي بُطُونِهِمْ} ظرفًا للأكْلِ وجه ظاهر فإن قيل: الأكل لا يكون إلا] في البَطْنِ فما فائدةُ قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}؟.
فالجوابُ أنَّ المرادَ به التَّأكِيدُ والمبالغةُ كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] والقلبُ لا يكونُ إلاَّ في الصَّدْرِ، وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] والطّيرانُ لا يكون إلاَّ بالنَّجَاحِ.
قوله: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، قرأ الجمهور بفتح الياء واللام، وابن عامر وأبو بكرٍ بضمِّ اليَاءِ مَبْنِيًّا من الثُّلاَثِيِّ، ويَحْتمل أنْ يكون من أصليٍّ فَلَمَّا بُنِيَ للمفعول قَامَ الأوَّلُ مقام الفَاعِلِ، وابن أبي عبلة بضمهما مبنيًا للفاعل الرُّبَاعي، والأصل على هذه القراءة: سَيُصْلون من أصلي مثل يكرمون من أكرم، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت، فالتقى السَّاكنان فَحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وَضَمُّ ما قبل الواو ليصح وأصْلَى يُحتمل أنْ تكون الهمزةُ فيه للدُّخول في الشَّيءِ، فَيَتَعَدَّى لواحدٍ وهو {سَعِيرًا}، وأن تكون للتَّعدية، فالمفعول محذوف أي: يُصْلَونَ أنفْسهم سعيرًا.