فصل: مطلب: أنواع البرّ والقصاص وما يتعلق بهما:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: أنواع البرّ والقصاص وما يتعلق بهما:

وبعد استدارة القبلة زعم اليهود والنصارى أن الإحسان كله في الجهة التي يستقبلونها فأنزل اللّه ردا عليهم: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أيها النصارى واليهود: {وَلكِنَّ الْبِرَّ} كل البر وهو لفظ جامع لأنواع الطاعات المالية والبدنية هو: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} وحده: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} البعث بعد الموت: {وَالْمَلائِكَةِ} كلهم فمن بغض واحدا منهم كاليهود ولم يؤمن بهم كلهم كما تقدم في الآيتين [96: 97] فليس بمؤمن بأحد منهم: {وَالْكِتابِ} كله أيضا بما فيه صحف الأنبياء الأقدمين، فمن أنكر شيئا مما أنزل اللّه عليهم أو على بعضهم فليس بمؤمن بل هو كافر بالجميع: {وَالنَّبِيِّينَ} كلهم أيضا، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع، أما عزير ولقمان وذو القرنين فمن جحد نبوتهم أو نبوة واحد منهم فلا يكفر للاختلاف الوارد في نبوتهم وولايتهم، وقد سئل حضرة الرسول عنهم فقال لا أدري كما روي عن الحاكم وأبي ذر.
أما إنكار وجودهم أو وجود أحد منهم فهو كفر بلا خلاف لذكرهم في القرآن، وإن إنكار شيء مما جاء فيه كفر بلا خلاف: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} أي النفقة على حب اللّه مع حبه المال عن طيب نفس ورضاء خاطر فأعطاه: {ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} تقدم مثلها كثير وسيأتي في الآية 195 ما يتعلق في هذا البحث بصورة مفصلة في الآية 30 من سورة التوبة الآتية: {وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ} لفك العبيد المكاتبين وفداء الأسرى: {وَأَقامَ الصَّلاةَ} المفروضة محافظا على شروطها وأركانها، إذ لا يعد مقيما لها إذا ترك شيئا من ذلك: {وَآتَى الزَّكاةَ} من فضل ماله صدقة واجبة، وقد كرر اللّه تعالى الحث على الزكاة في مواضع كثيرة قبل أن تفرض حثا على فعلها وترغيبا به وإعلاما بأنها ستفرض على هذه الأمة، وقد أعلن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرض الزكاة عقيب نزول هذه الآية قبل رمضان في السنة الثانية من الهجرة، لأن هذه الآية جامعة لأركان الإسلام الخمسة والزكاة من أركانه، ولأنه عبّر عنها مرتين فقال أولا: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} ثم قال: {وَآتَى الزَّكاةَ} تدبر.
أخرج الترمذي والدار قطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول صلّى اللّه عليه وسلم في المال حق سوى الزكاة.
وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه مثله.
وآية الزكاة غير ناسخة للصدقة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقّ مَعْلُوم لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الآية: 25] من سورة المعارج، ومثلها آية الذاريات بدون كلمة معلوم وكلاهما في الصدقة، ولقوله صلّى اللّه عليه وسلم: لا يؤمن باللّه واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه.
وللإجماع، على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم، وإذا امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم سرقة، وللإمام أن يأخذ من أغنيائهم ويعطى فقراءهم بقدر الحاجة.
وأما ما روي عن علي كرم اللّه وجهه مرفوعا نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم، وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة، فهو غريب معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك، ليس بالقوي عند أهل الحديث، وعلى فرض صحته فيكون المراد منه الصدقة المقدرة، ولا يقال الغريب لا يحتج به، لأن ذلك إذا لم يعارض ولم يطعن براويه ووجد ما يعضده أيضا، فإذا فقدت هذه الشروط أو أحدها فلا يحتج به، تأمل.
{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا} سواء فيه عهد اللّه أو عهد الرسول أو عهد الناس، لأن الوفاء بالعهد والوعد مطلوب: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ} حال الشدة والفقر والفاقة: {وَحِينَ الْبَأْسِ} القتال في سبيل اللّه وسمي القتال بأسا لما فيه من الشدة: {أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} بإيمانهم: {وَأُولئِكَ} الذين هذه صفتهم: {هُمُ الْمُتَّقُونَ} ما نهى اللّه عنه القائمون بما أمرهم به المستجمعون لأنواع البر والخير.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجرا؟
قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان.
ورويا أن ميمونة اعتقت وليدة جارية ولم تستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول اللّه أني أعتقت وليدتي؟ قال: «أو قد فعلت»؟ قالت نعم، قال: «أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك».
وأخرج أبو داود عن علي رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: للسائل حق ولو جاء على فرس.
وأخرج مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: أعطوا السائل ولو جاء على فرس.
وأخرج أبو داود والترمذي عن أم نجيد قالت: يا رسول اللّه إن المسكين يقوم على بابي ولم أجد شيئا أعطيه إياه، قال إن لم تجدي إلا ظلقا محرقا فادفعيه إليه في يده.
وفي رواية مالك في الموطأ:
ردّوا المساكين ولو بظلف محرق.
وهذا مبالغة في قلة ما يعطى أي ردوه بشيء تعطونه إياه لا رد حرمان لأنه يؤذيه، فإن لم يوجد فبكلمة طيبة والأحسن أن يقال له اثنتا بوقت آخر.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان.
وعلامة المؤمن صدق الحديث ووفاء الوعد وأداء الأمانة.
وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: كنا واللّه إذا احمرّ البأس- أي اشتد الحرب- نتقي به- يعني برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي نجعله وقاية لنا من العدو أن ينالنا سلاحه- وإن الشجاع منا الذي يحاذي به.
هذا، ولما تحاكم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بعض أحياء العرب في دماء كانت بينهم في الجاهلية وجراحات، وكان أقسم ذو الطول منهم على الآخر ليقتلن الحر منهم بالعبد، والذكر بالأنثى، والاثنين بالواحد، أنزل اللّه جل جلاله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى} فرضوا بحكم اللّه وسلموا لقضائه، وأمر رسوله وأنزل اللّه تعالى لإزالة الأحكام التي كانت قبل مبعث الرسول، وهي أن اليهود يوجبون القتل بلا عفو والنصارى يوجبون العفو بلا قتل، والعرب تارة توجب القتل وتارة تكتفي بالدية، ويقتلون من عثروا عليه من أقارب القاتل، ويسلبون من وجدوا من أتباع السالب ويقتلون بالشريف عددا ويأخذون الدية مضاعفة، فأوجب اللّه تعالى رعاية العدل في هذه الآية، وأنزل في جواز العفو قوله عز قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء} فصفح عنه بتانا أو قبل الدية في العمد: {فَاتِّباع بِالْمَعْرُوفِ} بشأن الدية، بأن لا يأخذ أكثر من حقه فيها ولا يعنفه على فعله: {وَأَداء} على القاتل: {إِلَيْهِ} لولي المقتول تمام الدية: {بِإِحْسانٍ} وطيب نفس دون مماطلة أو محاولة مقابلته لإحسانه بالعفو أو بقبول الدية، لأن العمد لا دية فيه قبل العفو، وهذا من أعظم أنواع الإحسان أن يتركه يقاد للقتل حتما، ولا يجوز له بعد العفو وأخذ الدية أن يتعرض للقاتل بشيء ما لأنه عدوان بحت، ولهذا قال تعالى: {ذلِكَ تَخْفِيف مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَة فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ} التخفيف فيقتل الجاني بعد العفو عنه أو بعد أخذ الدية منه: {فَلَهُ عَذاب أَلِيم} 178 في الدنيا بأن يقتل قصاصا لخيانته وغدره، وهكذا كل قاتل متعمد غادر يقتل صبرا قصاصا فلا يعفى عنه، ولا تقبل الدية منه لنقضه عهده وتصوره وتصميمه على القتل بعد أمن القاتل على نفسه بعفوه أو أخذ الدية منه، ويجب عليه أن يسلم نفسه للقتل، وإلا فيكون عذابه الأخروي أشد وأفظع من عذاب الدنيا وأدوم، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياة} بقاء لأن من يقصد القتل إذا علم أنه يقتل يمتنع عنه فيكون فيه بقاؤه وبقاء من همّ بقتله، وإذا قتل القاتل قصاصا ارتدع غيره عن القتل والجارح كذلك إذا علم أنه يقتصّ منه امتنع عن الجرح، ثم امتدحهم على طريق التيقظ والتحذير بقوله: {يا أُولِي الْأَلْبابِ} يا ذوي العقول السليمة الذين لا يريدون إتلاف أنفسهم ولا إتلاف غيرهم ويحرصون على محافظة أنفسهم وغيرهم، ويا أيها الموفون بعهدهم الصادقون بوعدهم حافظوا على أنفسكم بالكف عن قتل غيركم، وانتهوا عن ذلك: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 179 إفتاء بعضكم بعضا وتجتنبون مطلق التعدي الذي قد يقضى عليكم بمثله، وكثيرا ما تؤدي الجروح للموت، فاجتنبوها أيضا، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك.
وقد وقع اختلاف في كيفية القصاص، وهل هو مطلق القتل أم لا، فقال أبو حنيفة يقتل القاتل بالسيف، وقال الشافعي بما قتل به، وقال به مالك أيضا، ولأحمد رواية مع أبي حنيفة وأخرى مع الشافعي.
أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بولده.
وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يقتل المؤمن بالكافر، ولا الحر بالعبد، ولا الوالد بالولد، والذمي يقتل بالمسلم، والعبد بالحر، والولد بالوالد، لأن الآية مفسرة لما أبهم من قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ويستدلون بما روى البخاري عن جحيفة قال: سألت عليا رضي اللّه عنه هل عندكم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ قال لا والذي برأ النسمة إلا أن يؤتى العبد فهما في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل أي الدية، وسميت الدية عقلا لأنها تجمع من العاقلة أي جماعة القاتل من أوليائه وفك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر.
وأخرج مسلم عنه كرم اللّه وجهه مثله.
وقال بعضهم يقتل المسلم بالذمي والحر بالعبد، لأن آية: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ناسخة لحكم هذه الآية من حيث التكافؤ على أن آية: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} جاءت حكاية حال عما كان عليه بنو إسرائيل، إذ لم يميز اللّه بينهم لأنهم دون أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم التي خصها اللّه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية: 111 من آل عمران، ولهذا جعل اللّه لهم ميزه على غيرهم فجعل القتل مكافأة كما جعلها الشارع في الزواج الذي هو من نوع الحياة ضد القتل، لأن اللّه تعالى قال: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها} أي التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلخ، الآية 45 من سورة المائدة الآتية، فهي عبارة عن خبر من الأخبار التي لا تنسخ ولا تنسخ والمعول على ما جاء في هذه الآية، وهذا البحث صلة في الآية المذكورة في سورة المائدة، وأجمعوا على أن القاتل المتعمد يقتل، والمخطئ تؤخذ منه الدية فقط، وأن تقتل الجماعة بالواحد.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن غلاما قتل غيلة خداعا ومكرا من حيث لا يعلم ما يراد به فقال عمر لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به.
وإنما قال أهل صنعاء لكثرتهم، لأنها كانت أعمر بلاد العرب وأكثر سكنا ومبالغة في الكثرة.
روى مالك في الموطأ عن ابن المسيب أن عمر قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال لو تمالأ تعاون عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا.
وأن القاتل إذا استحل القتل كفر، ويقتل حدا، وإذا لم يستحله فلا، إلا أنه يكون مؤمنا فاسقا عاميّا، لأن من يقترف الكبائر دون استحلال يبقى على إيمانه بدليل تسميتهم مؤمنين، لأن اللّه تعالى صدر الآية بقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وبدليل تسمية القاتل أخا لولي المقتول، فلو لا أن الإيمان باق عليه لم تثبت له أخوة ولي المقتول، وبدليل ندب اللّه تعالى ولي المقتول للعفو عنه، والعفو من صفات المؤمن أما الآية [92: من سورة النساء] الآتية محمولة على الاستحلال، هذا واللّه أعلم.

.مطلب: في الوصايا ومن يوصى له ومن لا وما على الوصي والموصى له والموصي:

قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} بأن ظهرت آثاره عليه وكان قادرا على الإيصاء: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} مالا كثيرا: {الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ} بر أي إذا لم يكونا أهلا لاستحقاق الإرث كما سيأتي: {وَالْأَقْرَبِينَ} غير الوارثين أيضا وعلى المؤمن أن لا يخص بوصيته الأغنياء، لأن الفقراء أحق بالوصية إلا إذا كانوا فسقة وغلب على ظنه إنفاق ما يوصي به إليهم في طرق الشر، وهذه الوصية ينبغي أن تكون: {بِالْمَعْرُوفِ} الذي لا وكس فيه ولا شطط بأن يعدل في ذلك عدلا: {حَقًّا} لازما: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} [180] الإله الذي أمرهم بهذا، على أن لا يجنحوا بوصاياهم إلى غير العدل وإلى عدم الإيصاء إلا بالمعروف.
وسبب نزول هذه الآية أن الجاهلية كانوا يوصون للأجانب طلبا للفخر والسمعة ورفع الصيت والشهرة، فأوجب اللّه في بداية الإسلام هذه الوصية لمن يترك مالا كثيرا بدليل تسميه خيرا، قال رجل لعائشة رضي اللّه عنها أريد أن أوصي، فقالت كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف درهم، قالت كم عيالك؟
قال أربعة، قالت إنما قال الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} أي مالا كثيرا، وهذا يسير، فاتركه لعيالك.
قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} أي القول الواقع من المريض الموصي: {بَعْدَ ما سَمِعَهُ} منه سواء كان وصيا أو وليا عند الكتابة أو القسمة أو الشهادة، وسواء وقع التبديل في قول الموصي أو فيما أوصى به: {فَإِنَّما إِثْمُهُ} أي التبديل الواقع من أولئك: {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} خاصة، أما الموصي والموصى له فهما بريئان من هذا الإثم، فإذا أخبر الوصي أو الشهود أن الموصي أوصى للموصى له بأكثر من الموصى به وأخذه الموصى له غير عالم فلا إثم عليه، وإذا أخبروا بأقل منه فأخذه وسكت لعدم علمه فالموصي أيضا لا إثم عليه لأنه أوصى وحمل غيره مؤنة التنفيذ، ويكون الإثم في الحالتين على الوصي والشهود لكتمهم حقيقة الحال، ولهذا ختم اللّه تعالى الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيع} لقول الميت الموصي والوصي والشهود وبما أوصى به وشهدوا عليه: {عَلِيم} بحقيقة الأمر ممن يبدل قول الموصي وبكتم الشهادة، وفي هذه الجملة من التهديد ما لا يخفى.
قال تعالى: {فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} جورا وميلا وعدولا عن الحق في الوصية: {أَوْ إِثْمًا} ظلما منه فيها يستوجب الإثم بأن أسرف الميت في وصيته أو أخطأ فيها: {فَأَصْلَحَ} هذا السامع الحاضر: {بَيْنَهُمْ} بين الوصي والموصي له في الموصى به، واعلم أن خافَ هنا بمعنى ظن في الكلام الشائع وكيفية هذا الإصلاح المخاطب به كل من سمعه هو إذا رأى الوصي إفراطا في وصية الموصي بأن أوصى بأكثر من اللازم وكان عنده عيال فله أن ينصحه بأن يقتصد في الوصية فإذا لم يقبل ينصح الموصى له بأن يترك لورثة الموصي المفرط شيئا مما أوصى له به، فالفاعل لهذا من كل من يسمع وصية الموصي والمتوسط لعمل هذا الخير: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في عمله بل يؤجر إذا خلصت نيته، وهذا قد يقع من الذين يكرهون أولادهم بقصد حرمانهم من الإرث فيوصون بجميع مالهم أو بأكثره للغير ولو تركوها لأولادهم لكان أحسن حتى لا يكونوا عالة على الناس، ولعل اللّه أن يصلحهم بسبب كفايتهم، وإن كان في هذا الفعل من الميت الموصي فيه ما فيه من الإثم فقد ختم اللّه تعالى الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُور} لمن فعل هذا وقبله: {رَحِيم} بالموصى له والورثة.
وقد ذكرنا في الآية 44 من سورة النحل، وفي المقدمة أن الآية لا تنسخ بالحديث، لأن الحديث لا ينسخ القرآن البتة، لأنه مهما كان صحيحا لا يساوي كلام اللّه فضلا عن أنه لا يكون خيرا منه، إن هذه الآية لم تنسخ بحديث: «لا وصية لوارث» وإنما خصصت بآية المواريث الآتية في سورة النساء، وهذا الحديث لا يعارضها، لأن حضرة الرسول قال عند نزولها «إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث» أي بعد أخذ حقه، فكان هذا الحديث مبينا لهذه الآية ومفيدا أن اللّه تعالى كتب عليكم أن تؤدوا للوالدين والأقربين حقوقهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقهم ولا تعيين لمقادير انصبائهم، بل فوض ذلك إلى آرائكم إذ قال: {بِالْمَعْرُوفِ} أي العدل، فالآن قد رفع ذلك الحكم عنكم لتبيين طبقات استحقاق كل واحد منهم وتعيين مقادير حقوقهم بالذات، وأعطى كل ذي حق حقه منهم بحكم القرابة من غير نقص ولا زيادة، بأن يأخذ كل نصيبه المعين له في كلام اللّه إذ لم يبق مدخل للرأي في ذلك أصلا، وليس بعد بيان اللّه بيان، ومما يدل على عدم نسخ حكمها الذي قال به جمع من المفسرين ما ذهب إليه الحسن ومسروق وابن طاوس والضحاك ومسلم بن يسار بأن إطلاقها خصص بجواز الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين بسبب قتل أو رق خلاف دين، وبه قال ابن عباس وقتادة.
ومن هنا تعلم أن لا نسخ في كتاب اللّه بالمعنى الذي يريده علماء الناسخ والمنسوخ، بل هو كما ذكرنا من حيث الإطلاق والتقييد والتخصيص والتعميم، تدبر.
ولأن الوصية لمن لا يرث كالمذكورين أعلاه جائزة شرعا حتى الآن فضلا عن وقت نزول هذه الآية الكريمة، إذ كان كثير من الناس من أبوه أو أمه أو أبواه كفار وهو مسلم، وبالعكس، أو زوجته غير مسلمة، وبالعكس، تدبر.
والآن كثير من المسلمين متزوجون بكتابيات.
روى البخاري ومسلم عن سعد ابن أبي وقاص قال: جاءني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع السنة التاسعة من الهجرة من وجع اشتد بي، فقلت يا رسول اللّه قد بلغ بي من الوجع ما ترى وإني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أما أتصدق بثلثي مالي؟ قال لا، قلت بالشطر؟ قال لا، قلت فالثلث يا رسول اللّه؟
قال الثلث والثلث كثير، أو قال والثلث كبير، إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.
أي يسألونهم بأكفهم.
ورويا عن ابن عباس قال في الوصية: لو أن الناس عفوا عن الثلث إلى الربع فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لسعد «والثلث كثير»، وقال علي كرم اللّه وجهه: لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أن أوصي بالثلث.
فمن أوصى بالثلث فلم يترك.
هذا وانظر ما قالته عائشة رضي اللّه عنها آنفا.
اعلم أن الحكم الشرعي في الوصايا جوازها عند كثرة المال المتروك وقلة العيال، وتستحب للفقراء وطرق الخير، وتكره إذا خصّ بها الأغنياء، وتحرم لمن يغلب ظنه أنه يصرفها في المعاصي لما فيها من إعانة العاصي على المعصية.
فالصدقة على الأغنياء الأتقياء أي الوصية لهم أفضل، والأفضل والأكثر ثوابا على الفقراء الأتقياء لما ورد: اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم.
أي أن الرجل كما يختار زوجته من أهل الدين، فكذلك ينبغي للمتصدق أن يخص بصدقته أهل الدين لينفقها في طاعة اللّه، ألا فليتق اللّه المؤمنون الموصوفون، وليعلموا بما يعود عليهم بالخير.
أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: إن الرجل والمرأة أي جنسهما ليعملا بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران أي يوصلا الضرر إلى آخر في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ} الآية: 12 من النساء، وذلك بأن لا يخص الوصية أو ينقص بعضها أو يوصي لغير أهلها، أو يحيف الوصي أو الورثة فيها كما مرّ تفصيله.