فصل: أبحاث تتعلق بالآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{أَيُّهُمْ} فيه وجهان:
أشهرهُمَا: عند المعربين أني كونَ {أَيُّهُمْ} مبتدأ وهو اسم استفهام، وأقربُ خَبَرُهُ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره في محلِّ نصب بتدرون؛ لأنَّهَا من أفْعَالِ القُلُوبِ، فَعَلَّقَها اسمُ الاستفهامِ عَنْ أنْ تَعْمَلَ في لفظه؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعْمَلُ فيه ما قبله في غير الاستثبات.
والثَّاني: أنَّهُ يجوزُ أن يكون {أَيُّهُمْ} موصولةً بمعنى {الَّذِي} و{والأقربون} خبرُ مبتدأ مضمر، وهو عائدُ الموصولِ، وجازَ حذفه؛ لأنه يجوز ذلك مع أي مطلقًا: أي: أطالت الصِّلَةُ أم لم تَطُل، والتَّقدير: أيُّهم هو أقربُ، وهذا الموصول وَصِلَتُهُ في محلِّ نصب على أنَّهُ مفعول به، نَصَبَه {تَدْرُونَ}، وإنَّمَا بُنِيَ لوجودِ شَرْطَي البناء، وهما: أنْ تُضافَ أي لفظًا، وَأنْ يُحْذَفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، وصارت الآيةٌ نظيرَ قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69]، فصار التقدير: لا تدرون الذي هو أقربُ.
قال أبو حيَّان: ولم أرهم ذكروه، يعني هذا الوجه، ولا مانع منه لا من جهة المعنى، ولا من جهة الصِّنَاعة.
فعلى القول الأوَّلِ تكونُ الجملةُ سَادَّةً مَسَدَّ المفعولين، ولا حاجة إلى تقدير حذف.
وعلى الثَّاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مَفْعُلًا أوَّلَ، ويكون الثَّاني محذوفًا، وبعدم الاحتياج إلى حَذْفِ المفعول الثَّاني، يترجَّحُ الوجه الأوَّلُ.
ثم هذه الجملةُ، أعني قوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ} لا محلَّ لها من الإعراب، لأنَّها جملة اعتراضية.
قال الزمخشريُّ، بعد أن حَكَى في معانيها أقوالًا اختار منها الأوَّلَ: لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضيّة، ومن حقِّ الاعتراض أن يؤكِّد ما اعْتَرَضَ بينه وبين ما يناسِبُه.
يعني بالاعتراض: أنَّهَا واقعةٌ بين قصة المواريث، إلاَّ أنَّ هذا الاعتراض غيرُ مرادِ النحويين، لأنَّهُمْ لا يَعْنُون بالاعتراضِ في اصْطِلاحِهِمْ إلاَّ ما كان بين شيئين مُتَلاَزِمَيْنِ كالاعتراض بين المبتدأ وخبره، والشرط وجزائه والقَسَمِ وجوابه، والصِّلَةِ وموصولها.
قوله: {نَفْعًا} نُصِبَ على التَّمييز من أقرب، وهو منقول من الفاعلية، واجب النَّصب؛ لأنَّهُ متى وقع تمييزٌ بَعْدَ أفْعَلِ التفضيل، فَإن صَحَّ أنْ يُصَاغَ منها مُسْندٌ إلى ذلك التمييز على جهةِ الفاعليَّة وجل النَّصب كهذه الآية، إذْ يَصِحُّ أن يُقَالَ: أيُّهم أقْرَبُ لكم نَفْعُهُ، وإن لم يَصحّ ذلك وجب جَرُّه نحو: زيد أحسن فقيه بخلاف زيد أحسن فقهًا، وهذه قاعدة مفيدة ولكم متعلق بأقرب.
قوله: {فَرِيضَةً} فيها ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنَّها مصدرٌ مؤكد لمضمون الجملة السَّابقة من الوصية؛ لأن معنى يوصيكم: فَرَضَ عليكم ذلك، فصار المعنى: يوصيكم الله وصية فرض، فهو مصدر على غير الصَّدْرِ.
والثاني: أنَّها مصدر منصوبٌ بفعل محذوف من لفظها.
قال أبو البَقَاء: و{فَرِيضَةً} مصدر لفعل محذوف، أي: فرض اللهُ ذلك فريضة.
والثالث: قاله مَكيٌّ وغيره: أنَّهَا حال؛ لأنَّها ليست مصدرًا، وكلامُ الزمخشريُّ محتمل للوجهين الأوَّلَيْن، فإنَّهُ قال: فريضة نصبت نَصْبَ المصدر المؤكد، أي: فرض الله ذلك فرضًا. ثم قال: إن الله كان عليمًا أي: بأمور العباد حكيما بنصب الأحكام.
فإن قيل: لِمَ قال كان عليمًا حكيمًا مع أنَّهُ لم يزل كذلك؟.
فالجوابُ قال الخليلُ: الخبرُ عن الله تعالى بهذه الألفاظ، كالخبر بالحال والاستقبال؛ لأنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الدخول تحت الزمان.
قال سيبويه: القومُ لما شاهدوا علمًا وحكمةً وفضلًا وإحسانًا تعجبوا، فقيل لهم: إنَّ اللهَ كذلك، ولم يزل موصوفًا بهذه الصفات. اهـ. بتصرف.

.أبحاث تتعلق بالآية:

.بحث جليل في الآية للعلامة الجصاص:

قال عليه الرحمة:
بَابُ الْفَرَائِضِ:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا النَّسَبُ وَالْآخَرُ السَّبَبُ فَأَمَّا مَا يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْفَرَسِ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاس وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ، إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}.
وَقَدْ كَانُوا مُقِرِّينَ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمِيرَاثِ إلَى أَنْ نُقِلُوا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِالشَّرِيعَةِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْت لِعَطَاءِ: أَبَلَغَكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مِيرَاثٍ»؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا إلَّا ذَلِكَ.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: تَوَارَثَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ بِنَسَبِهِمْ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْبٍ قَالَ: «مَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا الرِّبَا»، فَمَا أَدْرَكَ الْإِسْلَامُ مِنْ رِبًا لَمْ يُقْبَضْ رَدَّ إلَى الْبَائِعِ رَأْسَ مَالِهِ وَطَرَحَ الرِّبَا.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ عَلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ إلَى أَنْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ أَوْ يُنْهَوْا عَنْهُ، وَإِلَّا فَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ، وَهُوَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ».
فَقَدْ كَانُوا مُقِرِّينَ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَا يَحْظُرُهُ الْعَقْلُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ مُتَمَسِّكَةً بِبَعْضٍ شَرَائِعِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ كَانُوا أَحْدَثُوا أَشْيَاءَ مِنْهَا مَا يَحْظُرُهُ الْعَقْلُ نَحْوَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَدَفْنِ الْبَنَاتِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُقَبَّحَةِ فِي الْعُقُولِ، وَقَدْ كَانُوا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَا تَحْظُرُهَا الْعُقُولُ، فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا إلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ مَا تَحْظُرُهُ الْعُقُولُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَدَفْنِ الْبَنَاتِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي وَمَا كَانُوا يَتَقَرَّبُونِ بِهِ إلَى أَوْثَانِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِيمَا لَمْ يَكُنْ الْعَقْلُ يَحْظُرُهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَعُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمَوَارِيثِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مِنْهُمْ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ حَظْرُهُ وَلَمْ تَقُمْ حُجَّةُ السَّمْعِ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِ، فَكَانَ أَمْرُ مَوَارِيثِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَوْرِيثِ الذُّكُورِ الْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ دُونَ الصِّغَارِ وَدُونَ الْإِنَاثِ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَ الْمَوَارِيثِ.
وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي يَتَوَارَثُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْحِلْفُ وَالْمُعَاقَدَةُ، وَالْآخَرُ: التَّبَنِّي؛ ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَتُرِكُوا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ ثُمَّ نُسِخَ.
وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ دَمِي دَمُك وَهَدْمِي هَدْمُك وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِك قَالَ: فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَحْلِفُ لَهُ الرَّجُلُ فَيَكُونُ تَابِعًا لَهُ، فَإِذَا مَاتَ صَارَ الْمِيرَاثُ لِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَبَقِيَ تَابِعُهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فَكَانَ يُعْطَى مِنْ مِيرَاثِهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}: وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الْإِسْلَامِ كَانَ يَرْغَبُ فِي خِلَّةِ الرَّجُلِ فَيُعَاقِدُهُ فَيَقُولُ: تَرِثُنِي وَأَرِثُك، وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتَرَطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَهْلُ الْعَقْدِ جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَزَلَتْ قِسْمَةُ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَهْلُ الْعَقْدِ وَقَدْ كُنْت عَاقَدْتُ رَجُلًا فَمَاتَ؟ فَنَزَلَتْ: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}.
فَأَخْبَرَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ أَنَّ مِيرَاثَ الْحَلِيفِ قَدْ كَانَ حُكْمُهُ ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ لَا مِنْ جِهَةِ إقْرَارِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ثَابِتًا بِالسَّمْعِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا كَانُوا مُقِرِّينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ فَأَزَالَتْ ذَلِكَ الْحُكْمَ؛ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَالَ: كَانَ حُلَفَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُمِرُوا أَنْ يُعْطُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ الْمَشُورَةِ وَالْعَقْلِ وَالنَّصْرِ وَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عِيسَى بْن الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْعَصَبَاتِ، كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ: تَرِثُنِي وَأَرِثُك، فَنَزَلَتْ: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ تَرِثُنِي وَأَرِثُك، فَنَسَخَتْهَا: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} قَالَ: إلَّا أَنْ تُوصُوا لِأَوْلِيَائِهِمْ الَّذِينَ عَاقَدُوهُمْ وَصِيَّةً.
فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ} وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْمَشُورَةُ وَالنَّصْرُ مِنْ غَيْرِ مِيرَاثٍ؛ وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِمَعْنَى الْآيَةِ تَثْبِيتُ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} يَقْتَضِي نَصِيبًا ثَابِتًا لَهُمْ، وَالْعَقْلُ وَالْمَشُورَةُ وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ بِنَصِيبٍ ثَابِتٍ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} الْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ إثْبَاتُ نَصِيبٍ مِنْ الْمِيرَاثِ، كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ إثْبَاتَ نَصِيبٍ لَهُمْ قَدْ اسْتَحَقُّوهُ بِالْمُعَاقَدَةِ؛ وَالْمَشُورَةُ يَسْتَوِي فِيهَا سَائِرُ النَّاسِ فَلَيْسَتْ إذًا بِنَصِيبٍ، فَالْعَقْلُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى حُلَفَائِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِنَصِيبٍ لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ إنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً وَاجِبَةً فَلَيْسَتْ بِنَصِيبٍ؛ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى النَّصِيبِ الْمُسَمَّى لَهُ فِي عَقْدِ الْمُحَالَفَةِ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ مِمَّا قَالَ الْآخَرُونَ.
وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، وَإِنَّمَا حَدَثَ وَارِثٌ آخَرُ هُوَ أَوْلَى مِنْهُمْ كَحُدُوثِ ابْنٍ لِمَنْ لَهُ أَخٌ لَمْ يَخْرُجْ الْأَخُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ، إلَّا أَنَّ الِابْنَ أَوْلَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ أُولُو الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ الْحَلِيفِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ رَحِمٌ وَلَا عَصَبَةٌ فَالْمِيرَاثُ لِمَنْ حَالَفَهُ وَجَعَلَهُ لَهُ؛ وَكَذَلِكَ أَجَازَ أَصْحَابُنَا الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ لِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ.
وَأَمَّا الْمِيرَاثُ بِالدَّعْوَةِ وَالتَّبَنِّي فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَبَنَّى ابْنَ غَيْرِهِ فَيُنْسَبُ إلَيْهِ دُونَ أَبِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَيَرِثُهُ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}.