فصل: مطلب: مقتل زيد بن الدثنة وخبيب الأنصاري وإظهار حبهم لحضرة الرسول والصلاة عند القتل وقصة صهيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: مقتل زيد بن الدثنة وخبيب الأنصاري وإظهار حبهم لحضرة الرسول والصلاة عند القتل وقصة صهيب:

وسبب نزول هذه الآية أن كفار قريش طلبوا من حضرة الرسول أن يبعث لهم من أصحابه من يعلمهم أمر دينهم بحجة أنهم أسلموا، فبعث لهم خبيب بن عدي الأنصاري وزيد بن الدثنة وعبد اللّه بن طارق ومرشد بن أبي مرشد الغنوي وخالد ابن بكر وعبيد اللّه بن طارق بن شهاب البلوي وثلاثة آخرين لم نتصل بأسمائهم، وأمرّ عليهم عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب حتى صاروا في الفدفد موضع بين عسفان ومكة وهو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع فتبعهم جماعة من بني لحيان بن هذيل، فلما أدركوهم أعطوهم العهد، ثم نكثوا بهم فقتلوهم إلا خبيبا وزيدا فقد أوصلوهما إلى مكة، فباعوا خبيبا إلى بني الحارث بن عامر ابن نوفل لأنه كان قتل أباهم الحارث في حادثة بدر، وباعوا زيد بن الدثنة إلى صفوان بن أمية بن خلف ليقتله بأبيه أيضا، فأرسله مع مولاه إلى التنعيم ليقتله في الحل واجتمع حوله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له عند ما قدموه إلى القتل أنشدك اللّه أتحب أن محمدا عندنا الآن هنا بمكانك وأنت في أهلك فقال واللّه ما أحب أن يصيب محمدا شوكة وهو في مكانه والذي هو فيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب محمد من أصحابه، ثم قتله فسطاط مولى صفوان المذكور، ولما قدم خبيب إلى الصلب استأذن فصلّى ركعتين قبل قتله وقال لو لا أنكم تظنون أني جزعت من الموت لزدت في صلاتي، ثم قتله عقبة بن الحارث بيده، وهو أول من سن الصلاة عند القتل، وقال قبل قتله: اللهم لا أجد من يبلغ سلامي لرسولك فأبلغه سلامي، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ** على أي شقّ كان في اللّه مضجعي

وفي رواية: مصرعي.
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزّع

أي مفرّق، والشلو العضو من الإنسان، قالت بنت الحارث: لما كان خبيبا موثقا في البيت استعار مني موسى ليستحد به يزيل شعر عانته لئلا يعيروه بعد صلبه وكانت هذه عادة عندهم فكل من يعرف أنه يقتل صلبا يفعل ذلك قالت فدرج إليه غلامي فوضعه على فخذه، ففزعت، فقال أتخشين أن أقتله لأني مقتول، لا إن شاء اللّه، فصارت تقول ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، ولقد رأيته يأكل من قطف وما بمكة يومئذ تمرة، وما هو إلّا رزق ساقه اللّه إليه.
وهذا من نوع الكرامة التي أكرم اللّه بها مريم بنت عمران رضي اللّه عنهما، ولما بلغ محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ذلك قال لأصحابه: أيكم ينزل خبيبا من خشبته وله الجنة؟ وذلك أنهم بعد أن قتلوه صلبوه تشهيرا، وكان ذلك من عادتهم، ولهذا فإن الحجاج لما قتل ابن الزبير صلبه وأبقاه حتى جاءت أمه وقالت أما آن لهذا الفارس أن يترجّل؟
لأن الحجاج عليه ما يستحق حلف لا ينزله من المصلبة حتى تشفع فيه أمه، وقد أبت أن تشفع به أو ترجو إنزاله، ولما نقل إليه قولها هذا قال أنزلوه فإن قولها ذلك بمنزلة الاستشفاع به.
فقال الزبير بن العوام أنا يا رسول اللّه وصاحبي المقداد بن الأسود فطفقا يمشيان الليل ويركنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلا فرأيا خبيبا معلقا وحوله أربعون من المشركين نيام سكارى، فأنزلاه، فإذا هو رطب يتثنى ويده على جراحته لم يتغير، فحمله الزبير على فرسه تنفّس جراحته دما كريح المسك، وسارا به نحو المدينة، فلما حس المشركون ولم يروه أخبروا قريشا، فلحق بهما سبعون فارسا فقذفه الزبير عن فرسه والتفت إليهم، فقال ما بالكم أنا الزبير بن صفية بنت عبد المطلب، وهذا المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما، فإن شئتم ناضلناكم، وإن شئتم نازلناكم، وإن شئتم انصرفتم، فنظروا فلم يجدوا معهم خبيبا، فرجعوا ثم إنهما تحريا جثة خبيب فلم يجداها، فسمي البليع أي الذي ابتلعته الأرض، وقدما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأخبراه، قالا وكان عنده جبريل يقول له يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، وأنزل اللّه فيهما هذه الآية لأنهما باعا أنفسهما في طاعة رسول اللّه طلبا لرضاء اللّه، والحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة لا يختلف في المعنى عن هذا، غير أن المذكورين كان أرسلهما رسول اللّه عينا في سرّية الربيع بعد وقعة أحد، ثم ساق القصة بأطول من هذا وقال بعض المفسرين إنها نزلت في صهيب بن سنان بن النمر بن قاسط الرومي وسبب نسبته للروم مع أنه عربي الأصل أن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارتهم الروم وسبوه فيمن سبوا فنشأ عندهم وبعد أن كبر لحق بمكة، حينما هاجر من مكة وتبعه المشركون ليردّوه، فقال واللّه لن تصلوا إلي إلا أن أرمي بكل سهم معي رجلا ثم أضرب بسيفي ما بقي بيدي، وإن شئتم دللتكم على مال لي دفنته في مكة تأخذونه وتخلون سبيلي، فرضوا منه ودلهم على موضع المال، فرجعوا عنه، ولما وصل إلى المدينة أخبر حضرة الرسول بهذا فنزلت، وكناه صلّى اللّه عليه وسلم بأبي يحيى، إذ قال له ويح أبي يحيى.
وكل من هذه القصص صالحة لأن تكون سببا للنزول، وأصحها أولها، ويليها الأخيرة، واللّه أعلم، لأن الآية عامة في كل من يقاتل في سبيل اللّه فيقتل أو يغلّب، وكل من يأمر بمعروف وينهى عن المنكر فيعذب أو يهان من أجله، وكل من يبذل نفسه في طاعة اللّه ورسوله ويجهدها في العبادة.
أخرج الترمذي عن أبي سعد قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر.
لأن العادل يحب أن ينصح ويأخذ بالنصيحة ولا تهابه الناس أن ترشده، أما الجائر فإنه يخاف منه ولا يحرؤ أحد على نصحه، لذلك أخبر حضرة الرسول بعظيم ثواب من يقدم على نصحه، لأنه من قبيل الجهاد لما فيه من تعريض النفس للبلاء.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} السلم بفتح السين وكسرها الاستسلام التام والطاعة العامة، أي ادخلوا أيها المسلمون الموقنون في شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه، وهذا كالتحذير من عدم القيام بما تقدم من أحكام الإسلام وتأكيدا لأمرهم بالتقوى فيها.
ومن قال إن الخطاب فيها لكفار أهل الكتاب أو المنافقين يبعده تصوير الخطاب بتسميتهم مؤمنين.

.مطلب: لا يصح نزول الآية في عبد اللّه بن سلام وبحث قيم في آيات الصفات وأن المزين في الحقيقة هو اللّه تعالى:

وكذلك ما قيل إنها نزلت في عبد اللّه بن سلام وأصحابه الذين أقاموا بعد إسلامهم على تعظيم البيت وكراهة لحوم الإبل وألبانها وقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن هذا مباح في الإسلام وواجب في التوراة، وطلبوا أن يقيموا صلاتهم ليلا وانها إعلام بإبطال حكم التوراة وأمر بإقامة شرائع الإسلام كافة، لأن عبد اللّه لم يسلم بعد ولو فرض إسلامه ففيه من الطعن ما فيه، وهو رضي اللّه عنه براء من ذلك والآية عامة مطلقة لم تخصص ولم تقيد مبنى ولا معنى كما هو ظاهر من سياقها وسياق ما قبلها، وعليه فتكون مخاطبا بها كل مؤمن بأن يعمل بجميع أحكام الإسلام وشرائعه، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} ووساوسه ودسائسه لأنه يوقعكم في الخطأ فيحن لكم ما هو قبيح في الإسلام ويقبح لكم ما هو حسن، لأن كل إخلال بشيء مما تقدم يكون في متابعة الشيطان: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِين} ظاهر العداوة يزين لكم المعاصي ويلقي عليكم الشبهات ليؤثمكم وينتقم منكم بسائق عداوته مع أبيكم آدم عليه السلام، ثم هددهم وأوعدهم على الإخلال بما وصاهم بعد أن نصحهم وحذرهم من المخالفة بقوله عز قوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ} الواضحات المفصلات للأحكام والحدود: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيز} غالب لا يعجزه شيء: {حَكِيم} لا ينتقم إلا بحق وإلا بعد إقامة البراهين على المجرمين ممن كان في قلبه شك أو شبهة في شيء مما جاءهم فما ينتظرون بعد تلك الدلائل الناصعة الباهرة: {هَلْ يَنْظُرُونَ} هؤلاء الذين لم يؤمنوا المصرون على متابعة خطوات الشياطين: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ} السحاب الأبيض الرقيق وسمي غماما لأنه يغم ويستر ما فوقه وما تحته: {وَالْمَلائِكَةُ} بالرفع عطف على لفظة الجلالة، وقيل بالجر عطف على الغمام، وهذا على حد قوله: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} الآية: 22 من سورة الفجر، ولا يكون هذا إلا في يوم القيامة، أي ما ينظرون هؤلاء بعد ما قدمناه لهم من الهدى والإرشاد والآيات المخوّفات إلا ذلك اليوم بأن يموتوا وينقضي أجل برزخهم فيبعثوا ويحاسبوا على أعمالهم: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} بفصل القضاء وبيان أهل الجنة من أهل النار يوم يقول الله تعالى: {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} الآية: 60 من سورة يس.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} لا إلى غيره فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار، وهذه الآية من آيات الصفات المنوه بها في الآية 158 من سورة الأنعام، وإن مذهب السلف من أعلام السنه كالكلبي وسفيان بن عيينة والزهري والأوزاعي وسفيان الثوري وإسحق بن راهويه وابن المبارك والليث بن سعد ومالك وأحمد بن حنبل وجوب الإيمان بها على ظاهرها والتسليم لما جاء بها دون تأويل أو تفسير، وأن يوكل علمها الحقيقي إلى اللّه ورسوله مع الاعتقاد بأن اللّه تعالى منزه عن سمات الحدوث من حركة أو سكون، وأن تقرأ على ما هي عليه، وبه قال أبو حنيفة مع نفي التشبيه والكيف، وقال قائلهم في معنى هذه الآيات:
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ** ولا ذاته شيء عقيدة صائب

فسلم آيات الصّفات بأثرها ** وأخبارها للظاهر المتقارب

ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا ** وتأويلنا فعل اللبيب المغالب

ونركب للتسليم سفنا فإنها ** لتسليم دين المرء خير المراكب

وإن مذهب الخلف الذي ذهب إليه جمهور العلماء المتأخرين والمتكلمين وأصحاب النظر على تأويلها وتفسيرها بما يناسب المقام، لأن اللّه تعالى منزه عن الذهاب والإياب والمجيء والإتيان، وأن تكون له يد أو رجل أو وجه وغيرها مما يوافق سمات خلقه وصفات الحدوث، لأنها لا تنفك عن الحركة والسكون المستحيلة عليه، وهو المبرأ عنها، ولهذا جنحوا إلى تأويل اليد بالقوة والرحمة مثلا، والمجيء والإتيان نسبوه لملائكته وعلمه لاعتقادهم أن المراد بها غير ظاهرها، ويستدلون بما يناسب هذا كقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} الآية: 34 من سورة النحل، لأن فيها تفصيلا مفسرا لما أجمل في الآية المفسرة هذه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويقولون إن في مثل هذه الآيات حذفا، أي يأتيهم اللّه بما أوعدهم من العقاب على ما اقترفوه من الذنوب، وما وعد به من الثواب على ما قدموه من الخير، وسبب الحذف زيادة التهويل وبلاغته في الكلام زيادة في فصاحته، إذ لو ذكر لكان أسهل في باب الوعيد.
وقال بعض المفسرين إن فِي هنا بمعنى الباء أي بظلل من الغمام، ويراد بالغمام العذاب، لأن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم دهشة وأشد وقعا وأنفع في العظة وأنفع في القلب، وفي هذا ما لا يخفى من التكلّف، ومذهب السلف أسلم، واللّه أعلم.
وكما يقال في الآيات يقال في الأحاديث أيضا.
قال تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ} الموجودين معك يا سيد الرسل في المدينة وغيرهم: {كَمْ آتَيْناهُمْ} أي آتينا أسلافهم: {مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} على صدق رسالة موسى عليه السلام فأنكروها وبدلوها: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} آياته التي أنعم بها على عباده، وسميت الآيات نعما لأنها من أعظمها: {مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ} فلم يعمل بها ولم ينته عن غيه: {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} 211 عليه يعذبه بما لا تطيقه قواه، وجاء اللفظ الكريم بالإظهار مع أن موقعه الإضمار بسبب تقدم ذكره لتربية الهيبة وإدخال الروعة في قلوب المتجاسرين على التبديل، لأن الآيات بعد أن وصلت إليهم وعرفوها بدلوها إذ لا يتصور التبديل قبل المجيء ثم ألمع إلى سبب إقدامهم عليه بقوله عز قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا} فاغتروا بها ولهوا بزخارفها: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} لفقرهم وقلة ذات يدهم من حطامها وليس لديهم إلا تقوى اللّه: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك والكفر واجتنبوا المعاصي والمناهي وآمنوا باللّه ورسوله وكتابه: {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} لأنهم يكونون في عليين وأولئك في سجين: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} 212 رزقا كثيرا لا يحصى، باق لا ينفد ولا ينقص، لأن كل ما يدخل تحت الحساب قليل نافد، وخزائن اللّه تعالى لا تنفد، ولا يقال لم أعطى هذا ومنع هذا، لأنه لا يسأل عما يفعل، وأفعاله لا تعلل.
واعلم أنه لا يوجد في القرآن غير ثلاث آيات مبدوءة بحرف الزاي:
هذه والآية 13 من آل عمران الآتية والآية 7 من سورة التغابن الآتية أيضا، وقد نزلت هذه الآية والتي قبلها في المنافقين ورؤساء اليهود الذين يكتمون آيات اللّه لقاء ما يأخذونه من مال الدنيا الفاني، وفي أبي جهل وأضرابه الذين ينكرون البعث ويكذبون آيات اللّه ويتنعمون بما بسط لهم من نعيم الدنيا، وفي الحقيقة أن اللّه تعالى هو الذي زين لهم ذلك كما ألمعنا إليه في مواضع كثيرة، ويؤيد قراءة زين بالمعلوم أي بما أظهره لهم من زهرة الدنيا ابتلاء وامتحانا لهم، وبما ركب في أطباعهم من الميل والحب والرغبة إلى المجرمات، أي أن هذه الدنيا حسنت لهم الحياة فيها وتشربوا في محبتها حتى تغلغلت في قلوبهم، ولكن لا على سبيل الإلجاء والقسر بل على سبيل التحبب للنفس مع إمكان ردها، ولكن الناس نظروا إلى الدنيا بأكثر من قدرها فأعجبهم حسنها ففتنوا بها وعكفوا على الإقبال إليها والانهماك فيها، فرموا بكليتهم عليها، وأن اللّه تعالى زاد في إمالهم وكثر عليهم نعمه ومتعهم بالصحة والمال والجاه لعلهم يرجعون فلم ينجع بهم، وكان هذا من جملة التزيين للدنيا في أعينهم وقلوبهم.
وقيل إن المزين لهم شياطين الإنس والجن الغواة الذين يحببون لهم الدنيا وما فيها من المحرمات حتى تهالكوا عليها وتفانوا فيها ويغفلونهم عن ذكر الآخرة والاعتراف بوجودها، ويقولون لهم إن القول بذلك حديث خرافة لينصرفوا إليها الضمير يعود للدنيا ويضمحلوا في حبها، ولكنه من الضعف بمكان، لأن غواة الإنس والجن والشياطين داخلون في هذا التزيين، وكلهم مزيّين لهم، والمزين لابد وأن يكون مغايرا للمزين له.
روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ألا أخبركم بأهل الجنة:
كل ضعيف مستضعف لو أقسم على اللّه لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل فظ غليظ شديد لا ينقاد إلى الخير جواظ فاجر محتال قصير بطين جغطريّ متمدّح بما ليس فيه مستكبر.
ورويا عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد الحظ والغنى محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار فإذا عامة من دخلها النساء.
ثم أعذر اللّه تعالى إليهم في إخلالهم بالأحكام فقال: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً} متفقة على دين واحد زمن آدم عليه السلام، ولم يزل هو وذريته مسلمين للّه حتى قتل قابيل هابيل فاختلفوا، ثم استمروا على شريعة واحدة شريعة شيث عليه السلام، ثم على شريعة إدريس إلى مبعث نوح عليه السلام، ثم اختلفوا فأقام نوحا ومن معه في السّفينة على دينه الحق وأهلك الآخرين، وهو أول رسول بعث لمن نجى معه من الغرق بعد الطوفان، ولهذا سمي أبا البشر الثاني.