فصل: مطلب: الأنبياء والرسل المتفق عليهم والمختلف فيهم ورسالتهم وعددهم وعدد الكتب المنزلة عليهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: الأنبياء والرسل المتفق عليهم والمختلف فيهم ورسالتهم وعددهم وعدد الكتب المنزلة عليهم:

ثم اختلفوا بعد وفاته: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} بعده لذرّيته: {مُبَشِّرِينَ} المتقين برضوان اللّه: {وَمُنْذِرِينَ} العاصين بسخطه إذا استمروا على طغيانهم، وقد جاء في الحديث: لا أحد أحب إليه العذر من اللّه.
ولهذا أنزل الكتاب وأرسل الرسل، وجميع الأنبياء على ما قيل مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة أو أربعة عشر، جاء في القرآن العظيم ذكر خمسة وعشرين منهم المتفق على نبوتهم وهم: آدم إدريس نوح هود صالح شعيب إبراهيم إسحاق يعقوب إسماعيل يوسف أيوب يونس موسى هرون لوط داود سليمان الياس اليسع ذو الكفل- على القول بأنه غير الياس وهو الصحيح- وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين. أما عزير وذو القرنين فمختلف في نبوتهم، والنبي هو من أمره اللّه تعالى بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أمر بتبليغه.
ومنهم من أرسل إلى أهل بيته خاصة، ومنهم إلى عشيرته، ومنهم إلى قومه، ولا رسالة عامة لجميع من على وجه الأرض من مبدئها لآخرها إلا لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم، كما أن شفاعته عامة، لأنه خص بما لم يخص به غيره من إخوانه كما مرّ في الآية 79 من سورة الإسراء، وقد ذكرنا في الآية 26 من سورة هود أن رسالة نوح عليه السلام مبدأها خاص وآخرها عام.
{وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ} يشمل الكتب المنزلة كلها لأن ال فيه للجنس وهي مائة وأربعة عشر فقط، أنزل منها على آدم عشرة، وعلى شبث ثلاثين، وعلى إدريس خمسين، وعلى إبراهيم عشرة، وعلى موسى عشر صحف والتوراة والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد صلوات اللّه عليهم وسلامه أجمعين.
وذكرنا في الآية [184] أنها كلها نزلت في رمضان إنزالا ملابسا: {بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ} كل نبي بكتابه المنزل عليه بالعدل: {بَيْنَ النَّاسِ} حسما لمادة الخلاف ليعملوا فيها هم أيضا من بعده: {فِيمَا اخْتَلَفُوا} أي الناس المذكورين في صدر الآية: {فِيهِ} من الحقوق الجارية بينهم: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} في نفس الكتاب الذي يجب أن يتحاكموا إلى نصوصه فيما يقع بينهم من الخصومات: {إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} كاليهود والنصارى الذين في زمانك يا سيد الرسل، مع أنهم أهل لأن يتفقوا على أحكام كتبهم ولكنهم يا للأسف كفّر بعضهم بعضا، وتواطئوا على إنكار ما في كتبهم مما هو موافق لشريعتك وما هو مظهر نعتك وصفة كتابك وموجب للإيمان بك، ولم يزل الخلاف بينهم: {مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ} المزيلة لهذا الاختلاف: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وحسدا إذ لا عذر لهم في العدول عنك وعما جئت به لا حب بقاء الرياسة والحصول على حطام الدنيا: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} من أصحابك وأمتك: {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ} الذي هو رسالتك، واختلفوا في الجمعة فهداك اللّه وأمتك إليها، واختلفوا في الصيام وفي القبلة فهداكم إليهما، واختلفوا في إبراهيم وفي عيسى فهداكم اللّه للإيمان بهما كغيرهما من الأنبياء.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا اللّه إليه، فغد لليهود، وبعد غد للنصارى.
وفي رواية سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض اللّه عليهم فاختلفوا فيه فهدانا اللّه له.
زاد النسائي:
يعني يوم الجمعة ثم اتفقا فالناس لنا تبع اليهود غد والنصارى بعد غد.
وروى مسلم عن حذيفة ما بمعناه: {بِإِذْنِهِ} أمره وإرادته وفاقا لما هو في سابق علمه: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} ومن يشاء إلى الطريق المعوج لسابق شقائه أيضا.
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أيها الناس: {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} بمجرد إيمانكم أو إسلامكم: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ} يصيبكم بلاء ومشقة: {مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} من المحن والإحن والامتحان والاختبار إذ: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ} وذاقوا من الفقر والفاقة والزمانة والخوف: {وَزُلْزِلُوا} أزعجوا في حياتهم إزعاجا شديدا يشبه في عظمته الزلازل في الهول وبقوا على اضطرارهم: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ} أي لم يبق لهم صبر مع أنهم أثبت الناس على الأهوال، حتى إذا استبطؤا نصر اللّه لهم حثّوا قومهم على الصبر وصرحوا لهم بأن الإيمان وحده وإن كان كافيا لدخول الجنة إلا أنه لا يكفي لإعلاء كلمة اللّه وقهر أعدائه ما لم ينضم إليه بذل النفس والنفيس في سبيل اللّه، وذلك لشدة الضيق وكثرة دواعي الضنك، وهؤلاء الممتحنون إذا أخلصوا للّه تعالى يجابون فيقول لهم اللّه: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب} فياتيهم ما وعدهم به حالا، لأن الأمر بلغ معهم غاية ما وراءها غاية في الشدة والضنك، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا} الآية: 111 من سورة يوسف، فكونوا أنتم أيها المؤمنون مثلهم واستنصروا ربكم حالة كربكم، فإنه لابد أن يأخذ بيدكم وينصركم بمقتضى عهده إليكم وهو لا يخلف الميعاد {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} الآية: 112 من التوبة الآتية، قال المفسرون رحمهم اللّه لما هاجر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة اشتدت فاقتهم لأنهم تركوا أموالهم في مكة واستولى عليها المشركون، وأظهرت اليهود العداوة لحضرة الرسول وأصحابه وآثر قوم من أهل المدينة النفاق على الإيمان، وأثّرت عليهم غزوة أحد التي وقعت قبل نزول هذه الآية في السنة الثالثة التي أشار اللّه تعالى إليها بقوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الآية: 139] من آل عمران الآتية، وسنذكر القصة هناك إن شاء اللّه.
فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تطيببا لقلوبهم وتسلية لما وقر في صدورهم.
روى البخاري ومسلم عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا ألا تنتصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، واللّه ليتمن اللّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللّه والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.
فاعتبروا أيها المؤمنون في هذا العصر كيف كان أسلافكم وكيف أعقب صبرهم الظفر، فهل لكم أن تتحملوا الأذى والمشقة الآن ولا تجبنوا ولا تيأسوا لتنالوا حقكم المغصوب، فهمّوا وجدوا وجاهدوا في القول والفعل والمال والنفس، ولا تستبطئوا نصر اللّه فإنه قريب منكم إذا اتقيتم وتوكلتم وآمنتم بما وعدكم ربكم من العز والظفر.

.مطلب: في الإنفاق والجهاد وفوائدهما وما يترتب على القعود عنهما من البلاء:

هذا، وبعد أن ذكر اللّه تعالى أحكام القصاص والوصية والصيام والحج والجهاد، وحذّر من الإخلال بشيء منها وحظر من اتباع وساوس الشيطان الذي يريد بكم الانتقام بسبب ما حل به من المخالفة لأمر اللّه لعدم سجوده لأبيكم آدم عليه السلام شرع يبين أحكام الإنفاق فقال تعالى قوله: {يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ} لما فرض اللّه تعالى الزكاة على عباده فرضت مطلقة لم تقدر بقدر، ولذلك سألوا حضرة الرسول عن القدر الذي يجب عليهم إنفاقه من أموالهم والصنف الذي يجب أن ينفقوا منه من أموالهم هل هو عن النقد فقط أو يشمل الأنعام والحبوب، وكان أول من سأل على ما قيل عمر بن الجموح وكان متمولا وطاعنا في السن، فأنزل اللّه هذه الآية جوابا للغاية التي هي مصرف المال، ولم يكن الجواب بالسبب الذي هو القدر المنفق أو النوع المنفق منه كما تقدم في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [190]، قال تعالى: {قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم من ذوي الأموال: {ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} هذا وإن كان يطلق على المال الكثير كما مرّ في الآية 180، إلا أنه هنا تعظيما للصدقة يطلق على مطلق المال قليلا كان أو كثيرا، من أي نوع كان: {فَلِلْوالِدَيْنِ} أولا إذا كانا محتاجين أداء لواجب حقهما عليكم لأنهما السبب الظاهري في وجودكم: {وَالْأَقْرَبِينَ} منكم بعدهما لأنهم أولى بمعروفكم من غيرهم: {وَالْيَتامى} الأولاد القاصرين ذكورا أو إناثا إذا لم يكن لهم مال متروك من أبيهم لعدم قدرتهم على الكسب وعدم وجود من يقوم بنفقتهم فهم بعد الأقربين أولى من غيرهم: {وَالْمَساكِينِ} الذين لا يكفيهم كسبهم فهم أرجح من غيرهم: {وَابْنِ السَّبِيلِ} أي الغريب المنقطع عن بلاده لفراغ ذات يده ولا يستطيع الاستدانة لعدم الوثوق به وإنما ذكر اللّه تعالى هؤلاء وخصهم بالنفقة لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح الفقراء كافة فعلمه أنه إذا لم يستطع أن يبذل الغني من ماله للكل فيقتصر على الأقرب والأولى والأحوج بترتيب بديع، وإذا كان عنده ما ينفق على غيرهم فيقول اللّه تعالى له: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} تطيب به أنفسكم طلبا لمرضاة اللّه لغير هؤلاء: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم} لا يخفى عليه ما تنفقونه وسيدخر لكم ثوابه ويجازيكم عليه ويزيدكم من فضله.
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة قيل لا يلتفت إليه، إذ ليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة حتى ينسخ به، ولأن اللّه تعالى ذكر في هذه الآية متى تجب عليه النفقة أي من تلزمه نفقته من الوالدين والأقربين ومن هم أولى بالصدقة من غيرهم.
قال الشافعي رحمه اللّه:
إن الصنيعة لا تعد صنيعة ** حتى يصاب بها طريق المصنع

قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْه لَكُمْ} من تصور الطبع لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الموت، إلا أن من عرف ما أعده اللّه تعالى للمجاهدين من الفضل والكرامة والذكر الحسن هان عليه كل ذلك، ولاسيما إذا وعى قوله تعالى: {أَحْياء عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} الآية: 170 من آل عمران الآتية، وعرف مغزى قوله جل قوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ} الآية: 95 من سورة النساء، تأمل مرمى قوله عز قوله: {لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأ وَلا نَصَب وَلا مَخْمَصَة} الآية: 122 من سورة التوبة الآتية أيضا فضلا عن أنه إنما يكون فرضا على الأمة لإعلاء كلمة اللّه ونصرة رسوله وحفظ الأوطان وصيانة النفوس والأعراض، وإذلالا لأعداء اللّه ورسوله أعداء الإسلام، ولهذا يقول اللّه تعالى: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْر لَكُمْ} كالجهاد، لأن فيه إحدى الحسنيين الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة، ويدخل في معنى هذه الآية الجليلة كل ما كان شاقا في الحال نافعا في المآل كشرب الدواء مثلا فإن النفس تكرهه، وإنما تقدم عليه لما تتوخاه فيه من حصول الشفاء وتمام العافية، وكذلك العبادات كالصوم والحج فإن النفس قد تكرههما مع أنه في عاقبتهما الخير والرضاء وكذلك سائر العبادات، لأن لفظ شَيْئًا في الآية يشمل كل ما تكرهه النفس، لأنه نكرة والنكرة تعم: {وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ} كترك الجهاد وسائر العبادات والإنفاق والتخلف عن الغزو، لأن العدو إذا رآكم جبنتم ومللتم وجنحتم إلى الكسل وملتم إلى الراحة، تحداكم وغزاكم في عقر داركم ونال من بلادكم وأموالكم وأعراضكم، وسيطر عليكم فأذلكم وأهانكم، وإذا علم صلابتكم وثباتكم ودوام مهاجمتكم عليه ورآى حزمكم وحبكم للموت في سبيل شرفكم جبن وكف عنكم، ووقع في قلبه الخوف، فيدين لكم، وكذلك كل ما نهى الشرع عنه، فإن النفس تحبه، وتطمع فيه وتطمح عليه فتميل لارتكابه لقضاء نهمتها الخبيثة وشهوتها الخسيسة ولذتها الفانية، مع أن عاقبتها وخيمة في الدنيا لما يلحقه من مذمة الناس وسوء ذكره بينهم، وفي الآخرة لما يترتب عليها من العقاب الأليم، لأن الدنيا بما فيها فانية والعاقبة المحمودة لأهل التقوى، فلينظر الإنسان الأمر الذي يريد الإقدام عليه قبل فعله، فإن كان يرجو فيه خيرا فليقدم عليه ولو فيه مشقة، لأن الجنة حفت بالمكاره، وإن كان شرا فليتباعد عنه ولا يغتر في لذاته وشهواته، فإن النار حفت بالشهوات، قال صلّى اللّه عليه وسلم: إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته- أي بحسب اجتهادك وعقلك واستشارة من تعتقد صلاحه ونصحه لك وأمانته ودينه ومودته لك- واستخر اللّه تعالى فما خاب من استشار ولا ندم من استخار.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ} خوافي الأمور وبواطنها وعواقبها: {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} إلا ظواهرها ولا تعلمون شيئا إلا بتعليم اللّه إياكم، فاتبعوا ما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه.
وقد ذكرنا أن لفظ عسى في القرآن إذا كانت من اللّه فهي لليقين، وإذا كانت من الغير فهي للتوهم والشك مثل لعل.
واعلم أن الحكم الشرعي في الجهاد هو فرض عين على كل مسلم إذا هاجم العدو بلاد الإسلام، وفرض كفاية إذا كانوا في بلادهم وتحدوكم قبل الوصول إليكم، وفي هذه الصورة إذا قام به البعض من المسلمين سقط الإثم على الباقين، أما في الصورة الأولى فكلهم آثمون، ومسنون في كل وقت، ومن السنة أن نبدأهم به.
أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوم الفتح: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا.
وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآية [190] المارة أولاد وجه لقول من قال أن المخاطب بهذه الآية هم أصحاب محمد الموجودون في زمانه فقط، لأن الخطاب فيها عام لا يقيد بهم، إذ لا مخصص لذلك، ولم يقصد به أناس دون آخرين ولا زمان ومكان لأن سياق الآية يدل على التعميم وهي مؤيدة بالأحاديث الصحيحة فيدخل في خطابها كل الأمة إلى يوم القيامة.
وما قيل إنها منسوخة بآية [التوبة 122] التي مطلعها: {ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} إلخ لا وجه له أيضا، لأن هذه الآية خاصة مقيدة نافية وجوب الجهاد على العموم والتي نحن في صددها عامة مطلقة، وقد ذكرنا غير مرة بأن المقيد مخصص لا ناسخ، وأن المقيد دائما يحمل على المطلق، والخاص على العام.
وكذلك لا يتجه القول بأنها ناسخة للعفو عن المشركين، إذ لم تتعرض لشيء من ذلك، وإنما هي عبارة عن إخبار اللّه تعالى عباده بأن الجهاد الذي أمرناكم به مفروض عليكم، لأنه مكتوب في أزله كذلك، لئلا يقوهم الغير بأنه مندوب أو مباح بدليل قول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} إلخ، تأمل قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين: {قِتال فِيهِ كَبِير} إثمه، عظيم جرمه، وهذا على طريق إرخاء العنان بالاعتراف بعظم القتال فيه، ولكن الذي ارتكبوه فيه أكبر إثما وأعظم وزرا من القتال فيه، وهو المبين بقوله تعالى: {وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ومنع المسلمين من سلوكه ومن التمسك بدين الإسلام الحنيف وتفرعاته: {وَكُفْر بِهِ} وجحود بالإله الكبير الذي شرعه لعباده: {وَ} صدّ المؤمنين عن دخول: {الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} ومنعهم من الطواف به: {إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} وإجلاؤهم عنه وإلجاؤهم إلى الهجرة وترك أوطانهم وأموالهم ونسائهم: {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} إثما وأعظم وزرا من القتال في الشهر الحرام وقد سماهم اللّه تعالى أهله لأنهم كانوا قائمين به كما يريد اللّه تعالى، أي هذه الأمور التي اقترفتموها نواء لأهل الإسلام وعداء لرسولهم وجحودا لدينهم وربهم: {وَالْفِتْنَةُ} التي هي الشرك الذي أنتم عليه لتفتنوا الناس به: {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} الذي يحتجون به وهو قتل الحضرمي الآتي ذكره لأن ذلك كان خطأ وظنا أن اليوم الذي قتلوه فيه آخر جمادى الآخرة المباح فيه، ذلك لا على أنه يقين بأنه أول رجب الحرام.
ثم بين إصرارهم على الفتنة بقوله: {وَلا يَزالُونَ} هؤلاء الكفرة: {يُقاتِلُونَكُمْ} أيها المؤمنين: {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} الحق إلى دينهم الباطل: {إِنِ اسْتَطاعُوا} وهيهات ذلك، لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب الطاهرة لا يبتغي صاحبه به بديلا، وأن اللّه تعالى إنما حذر عنه تأكيدا لتشربه في قلوبهم وتعظيما لشأنه عندهم فقال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} فيبقى مرتدا: {فَيَمُتْ وَهُوَ كافِر} ولم يتدارك نفسه بالتوبة قبل حالتي اليأس والبأس: {فَأُولئِكَ} المرتدون المصرون على ارتدادهم: {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا} إذ تبين زوجة المرتد ويحرم ميراث أقاربه ويقتل حدا ويكون ماله فيئا للمسلمين لأن أقاربه يحرمون منه إذ لا توارث بين المؤمن والكافر إجماعا: {وَالْآخِرَةِ} لأن الكفر يمحق ثوابها كما أن الإيمان يجب ما قبله: {وَأُولئِكَ} المرتدون الخاسرون الدارين الممقوتون عند اللّه هم: {أَصْحابُ النَّارِ} لأنهم عملوا في الدنيا لأجلها فقط وفعلوا ما يؤهلهم لها ولذلك: {هُمْ فِيها خالِدُونَ} لا يخرجون منها أبدا.