فصل: سؤال وجوابه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تلك الفرائض وتلك التشريعات التي شرعها الله لتقسيم التركات وفق علمه وحكمته ولتنظيم العلاقات العائلية في الأسرة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع.. {تلك حدود الله}.. حدود الله التي أقامها لتكون هي الفيصل في تلك العلاقات ولتكون هي الحكم في التوزيع والتقسيم.
ويترتب على طاعة الله ورسوله فيها الجنة والخلود والفوز العظيم. كما يترتب على تعديها وعصيان الله ورسوله فيها النار والخلود والعذاب المهين..
لماذا؟ لماذا تترتب كل هذه النتائج الضخمة على طاعة أو معصية في تشريع جزئي كتشريع الميراث؛ وفي جزئية من هذا التشريع وحد من حدوده؟
إن الآثار تبدو أضخم من الفعل.. لمن لا يعرف حقيقة هذا الأمر وأصله العميق..
إن هذا الأمر تتولى بيانه نصوص كثيرة في السورة ستجيء. وقد أشرنا إليها في مقدمة التعريف بهذه السورة- وهي النصوص التي تبين معنى الدين، وشرط الإيمان، وحد الإسلام. ولكن لا بأس أن نستعجل بيان هذا الأمر- على وجه الإجمال- بمناسبة هاتين الآيتين الخطيرتين في هذا التعقيب على آيتي المواريث:
إن الأمر في هذا الدين- الإسلام- بل في دين الله كله منذ أن أرسل رسله للناس منذ فجر التاريخ.. إن الأمر في دين الله كله هو: لمن الألوهية في هذه الأرض؟ ولمن الربوبية على هؤلاء الناس؟
وعلى الإجابة عن هذا السؤال في صيغتيه هاتين يترتب كل شيء في أمر هذا الدين. وكل شيء في أمر الناس أجمعين!
لمن الألوهية؟ ولمن الربوبية؟
لله وحده- بلا شريك من خلقه- فهو الإيمان إذن وهو الإسلام وهو الدين.
لشركاء من خلقه معه أو لشركاء من خلقه دونه فهو الشرك إذن أو الكفر المبين.
فأما إن تكن الألوهية والربوبية لله وحده فهي الدينونة من العباد لله وحده. وهي العبودية من الناس لله وحده. وهي الطاعة من البشر لله وحده وهي الأتباع لمنهج الله وحده بلا شريك.. فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم. والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم. والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم.. وليس لغيره- أفرادًا أو جماعات- شيء من هذا الحق إلا بالارتكان إلى شريعة الله. لأن هذا الحق هو مقتضى الألوهية والربوبية. ومظهرها البارز المحدد لخصائصها المميزة.
وأما إن تكن الألوهية أو الربوبية لأحد من خلق الله- شركة مع الله أو أصالة من دونه!- فهي الدينونة من العباد لغير الله.
وهي العبودية من الناس لغير الله. وهي الطاعة من البشر لغير الله. وذلك بالاتباع للمناهج والأنظمة والشرائع والقيم والموازين التي يضعها ناس من البشر لا يستندون في وضعها إلى كتاب الله وسلطانه؛ إنما يستندون إلى أسناد أخرى يستمدون منها السلطان.. ومن ثم فلا دين ولا إيمان ولا إسلام. إنما هو الشرك والكفر والفسوق والعصيان..
هذا هو الأمر في جملته وفي حقيقته.. ومن ثم يستوي أن يكون الخروج على حدود الله في أمر واحد أو في الشريعة كلها.. لأن الأمر الواحد هو الدين- على ذلك المعنى- والشريعة كلها هي الدين.. فالعبرة بالقاعدة التي تستند إليها أوضاع الناس.. أهي إخلاص الألوهية والربوبية لله- بكل خصائصها- أو إشراك أحد من خلقه معه. أو استقلال خلقه دونه بالألوهية والربوبية بعضهم على بعض. مهما ادعوا لأنفسهم من الدخول في الدين! ومهما رددت ألسنتهم- دون واقعهم- أنهم مسلمون!
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يشير إليها هذا التعقيب الذي يربط بين توزيع أنصبة من التركة على الورثة وبين طاعة الله ورسوله أو معصية الله ورسوله. وبين جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها؛ ونار خالدة وعذاب مهين!
وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي تتكئ عليها نصوص كثيرة في هذه السورة وتعرضها عرضًا صريحًا حاسمًا لا يقبل المماحكة ولا يقبل التأويل.
وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتبينها الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذه الأرض ليروا أين هم من هذا الإسلام وأين حياتهم من هذا الدين!
ثم لابد كذلك من إضافة كلمة مجملة عن نظام الإرث في الإسلام؛ بعد ما ذكرناه عن هذا النظام عندما تعرضنا للآية التي تقرر المبدأ العام: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} وما ذكرناه كذلك عن مبدأ: {للذكر مثل حظ الأنثيين}..
إن هذا النظام في التوريث هو النظام العادل المتناسق مع الفطرة ابتداء؛ ومع واقعيات الحياة العائلية والإنسانية في كل حال. يبدو هذا واضحًا حين نوازنه بأي نظام آخر عرفته البشرية في جاهليتها القديمة أو جاهليتها الحديثة في أية بقعة من بقاع الأرض على الإطلاق.
إنه نظام يراعي معنى التكافل العائلي كاملًا ويوزع الأنصبة على قدر واجب كل فرد في الأسرة في هذا التكافل. فعصبة الميت هم أولى من يرثه- بعد أصحاب الفروض كالوالد والوالدة- لأنهم هم كذلك أقرب من يتكفل به ومن يؤدي عنه في الديات والمغارم. فهو نظام متناسق ومتكامل.
وهو نظام يراعي أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة. فلا يحرم امرأة ولا صغيرًا لمجرد أنه امرأة أو صغير. لأنه مع رعايته للمصالح العملية- كما بينا في الفقرة الأولى- يرعى كذلك مبدأ الوحدة في النفس الواحدة.
فلا يميز جنسًا على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي.
وهو نظام يراعي طبيعة الفطرة الحية بصفة عامة وفطرة الإنسان بصفة خاصة. فيقدم الذرية في الإرث على الأصول وعلى بقية القرابة. لأن الجيل الناشئ هو أداة الامتداد وحفظ النوع. فهو أولى بالرعاية- من وجهة نظر الفطرة الحية- ومع هذا فلم يحرم الأصول ولم يحرم بقية القرابات. بل جعل لكل نصيبه. مع مراعاة منطق الفطرة الأصيل.
وهو نظام يتمشى مع طبيعة الفطرة كذلك في تلبية رغبة الكائن الحي- وبخاصة الإنسان- في أن لا تنقطع صلته بنسله وأن يمتد في هذا النسل. ومن ثم هذا النظام الذي يلبي هذه الرغبة ويطمئن الإنسان الذي بذل جهده في ادخار شيء من ثمرة عمله إلى أن نسله لن يحرم من ثمرة هذا العمل وأن جهده سيرثه أهله من بعده. مما يدعوه إلى مضاعفة الجهد ومما يضمن للأمة النفع والفائدة- في مجموعها- من هذا الجهد المضاعف. مع عدم الإخلال بمبدأ التكافل الاجتماعي العام الصريح القوي في هذا النظام.
وأخيرًا فهو نظام يضمن تفتيت الثروة المتجمعة على رأس كل جيل وإعادة توزيعها من جديد. فلا يدع مجالًا لتضخم الثروة وتكدسها في أيد قليلة ثابتة- كما يقع في الأنظمة التي تجعل الميراث لأكبر ولد ذكر أو تحصره في طبقات قليلة- وهو من هذه الناحية أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة ورده إلى الاعتدال دون تدخل مباشر من السلطات.. هذا التدخل الذي لا تستريح إليه النفس البشرية بطبيعة ما ركب فيها من الحرص والشح. فأما هذا التفتيت المستمر والتوزيع المتجدد؛ فيتم والنفس به راضية لأنه يماشي فطرتها وحرصها وشحها! وهذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله لهذه النفس وتشريع الناس!!!. اهـ.

.سؤال وجوابه:

سؤال: فإن قال قائل: أوَ مُخَلَّدٌ في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث؟
قيل: نعم، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكًّا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحادَّ الله ورسوله في أمرهما على ما ذكر ابن عباس من قول من قالَ حين نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} إلى تمام الآيتين: أيُورَّث من لا يركب الفرس ولا يقاتل العدوَّ ولا يحوز الغنيمة، نصفَ المال أو جميع المال؟ استنكارًا منهم قسمةَ الله ما قسم لصغار ولد الميت ونسائه وإناث ولده ممن خالف قسمةَ الله ما قسم من ميراث أهل الميراث بينهم على ما قسمه في كتابه، وخالف حكمه في ذلك وحكم رسوله، استنكارًا منه حكمهما، كما استنكره الذين ذكر أمرَهم ابن عباس ممن كان بين أظهُر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين فيهم نزلت وفي أشكالهم هذه الآية فهو من أهل الخلود في النار، لأنه باستنكاره حكمَ الله في تلك، يصير بالله كافرًا، ومن ملة الإسلام خارجًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}.
وإنما هما عقوبتان: معجلة ومؤجلة، ويقترن بهما جميعًا الذُّلُّ؛ فلو اجتهد الخلائق على إذلال المعاصي بمثل الذل الذي يلحقهم بارتكاب المعصية لم يقدموا عليها: لذلك قال قائلهم: من بات مُلِمًا بذنب أصبح وعليه مذلته، فقلت ومن أصبح مُبِرًّا بِبِرٍ ظلَّ وعليه مهابته. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، وقال ابن جريج: من لا يؤمن بما فصل سبحانه من المواريث، وحكي مثله عن ابن جبير.
{وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} التي جاء بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن جملتها ما قص لنا قبل، أو يتعد حدوده في القسمة المذكورة استحلالًا كما حكي عن الكلبي {يُدْخِلْهُ} قرأ نافع وابن عامر بالنون في الموضعين {نَارًا} أي عظيمة هائلة {خالدا فِيهَا} حال كما سبق، وأفرد هنا وجمع هناك لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة وإذا شفع أحدهم في غيره دخلها معه، وأهل المعاصي لا يشفعون فلا يدخل بهم غيرهم فيبقون فرادى، أو للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصفة الاجتماع الذي هو أجلب للأنس، والخلود في دار العقاب بصفة الانفراد الذي هو أشد في استجلاب الوحشة، وجوز الزجاج والتبريزي كون {خالدين} [النساء: 13] هناك وخالدًا هنا صفتين لجنات أو نار، واعترض بأنه لو كان كذلك لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له، وتعقبه أبو حيان بأن هذا على مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين جواز الوصفية في مثل ذلك ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذ لا لبس {وَلَهُ عَذَابٌ} أي عظيم لا يكتنه {مُّهِينٌ} أي مذل له والجملة حالية، والمراد جمع أمرين للعصاة المعتدين عذاب جسماني وعذاب روحاني، نسأل الله تعالى العافية.
واستدل بالآية من زعم أن المؤمن العاصي مخلد في النار، والجواب أنها لا تصدق عليه إما لأنها في الكافر على ما سمعت عن الكلبي وابن جبير وابن جريج وإما لأن المراد من حدود الله تعالى جميع حدوده لصحة الاستثناء والمؤمن العاصي واقف عند حد التوحيد، وإما لأن ذلك مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط بعدم التوبة عند الزاعم، وفي ختم آيات المواريث بهذه الآية إشارة إلى عظم أمر الميراث ولزوم الاحتياط والتحري وعدم الظلم فيه، وقد أخرج ابن ماجه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قطع ميراثًا فرضه الله ورسوله قطع الله ميراثه من الجنة» وأخرج منصور عن سليمان بن موسى والبيهقي عن أبي هريرة نحو ذلك، وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة عدو، وكأن عدم القسم إما للتهاون في الدين وعدم المبالاة وكثرة الظلم بين الناس، وإما لفشو الجهل وعدم من يعرف الفرائض، فقد ورد عن أبي هريرة مرفوعًا: «إن علم الفرائض أول ما ينزع من الأمة»، وأخرج البيهقي، والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الإثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها» ولعل الاحتمال الأول أظهر. أهـ.