فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مِن نِّسَائِكُمْ} إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات؛ كما قال: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} [البقرة: 282] لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم. اهـ.

.قال الفخر:

زعم جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة، وقال أبو مُسْلِم: إنها غيرُ منسوخة، أما المفسرون: فقد بنوا هذا على أصلهم، وهو أن هذه الآية في بيان حكم الزنا، ومعلوم أن هذا الحكم لم يبق وكانت الآية منسوخة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين: فالأول: أن هذه الآية صارت منسوخة بالحديث وهو ما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم» ثم ان هذا الحديث صار منسوخا بقوله تعالى: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وعلى هذا الطريق يثبت أن القرآن قد ينسخ بالسنة وأن السنة قد تنسخ بالقرآن خلاف قول الشافعي: لا ينسخ واحد منهما بالآخر.
والقول الثاني: أن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجَلْد.
واعلم أن أبا بكر الرازي لشدة حرصه على الطعن في الشافعي قال: القول الأول أولى لأن آية الجلد لو كانت متقدمة على قوله: خذوا عني فائدة فوجب أن يكون قوله: خذوا عني متقدما على آية الجلد، وعلى هذا التقدير تكون آية الحبس منسوخة بالحديث ويكون الحديث منسوخا بآية الجلد، فحينئذ ثبت أن القرآن والسنة قد ينسخ كل واحد منهما بالآخر.
واعلم أن كلام الرازي ضعيف من وجهين: الأول: ما ذكره أبو سليمان الخطابي في معالم السنن فقال: لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في هذا الحديث ألبتة، وذلك لأن قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ في البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا} يدل على أن امساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا وذلك السبيل كان مجملا، فلما قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني الثيب ترجم والبكر تجلد وتنفى» صار هذا الحديث بيانًا لتلك الآية لا ناسخا لها وصار أيضا مخصصا لعموم قوله تعالى: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ومن المعلوم أن جعل هذا الحديث بيانا لإحدى الآيتين ومخصصا للآية الأخرى، أولى من الحكم بوقوع النسخ مرارًا، وكيف وآية الحبس مجملة قطعا فإنه ليس في الآية ما يدل على أن ذلك السبيل كيف هو؟ فلابد لها من المبين، وآية الجلد مخصوصة ولابد لها من المخصص، فنحن جعلنا هذا الحديث مبينا لآية الحبس مخصصا لآية الجلد، وأما على قول أصحاب أبي حنيفة فقد وقع النسخ من ثلاثة أوجه: الأول: آية الحبس صارت منسوخة بدلائل الرجم، فظهر أن الذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه.
الوجه الثاني: في دفع كلام الرازي: أنك تثبت أنه لا يجوز أن تكون آية الجلد متقدمة على قوله: «خذوا عني» فلم قلت إنه يجب أن تكون هذه الآية متأخرة عنه؟ ولم لا يجوز أن يقال: إنه لما نزلت هذه الآية ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؟ وتقديره أن قوله: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} مخصوص بالإجماع في حق الثيب المسلم، وتأخير بيان المخصص عن العام المخصوص غير جائز عندك وعند أكثر المعتزلة، لما أنه يوهم التلبيس، وإذا كان كذلك فثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك مقارنا لنزول قوله: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} وعلى هذا التقدير سقط قولك: ان الحديث كان متقدما على آية الجلد.
هذا كله تفريع على قول من يقول: هذه الآية أعني آية الحبس نازلة في حق الزناة، فثبت أن على هذا القول لم يثبت الدليل كونها منسوخة، وأما على قول أبي مسلم الأصفهاني فظاهر أنها غير منسوخة والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} أي من المسلمين، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعةً تغليظًا على المدّعِي وسترًا على العباد.
وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن؛ قال الله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وقال هنا: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ}.
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم قد زَنَيَا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بأعلم رجلين منكم» فأتَوهُ بابنَيْ صُورِيا فنشدهما: «كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟» قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعةٌ أنهم رأَوْا ذكره في فرجها مثلَ المِيل في المُكْحُلة رُجِما. قال: «فما يمنعكما أن ترجموهما»؛ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميلِ في المكحلة؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما.
وقال قوم: إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق؛ إذْ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما، وهذا ضعيف؛ فإن اليمين تدخل في الأموال واللّوْثُ في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا. ولابد أن يكون الشهود ذكورًا؛ لقوله: «مِنْكُمْ» ولا خلاف فيه بين الأُمة.
وأن يكونوا عدولًا؛ لأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة، وهذا أعظم، وهو بذلك أولى.
وهذا من حمل المطلق على المقيَّد بالدليل، على ما هو مذكور في أُصول الفقه.
ولا يكونون ذِمَّةً، وإن كان الحكم على ذميّة، وسيأتي ذلك في [المائدة] وتعلق أبو حنيفة بقوله: {أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} في أن الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف لم يلاعن.
وسيأتي بيانه في النور إن شاء الله تعالى. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

القائلون بأن هذه الآية نازلة في الزنا يتوجه عليهم سؤالات:
السؤال الأول:
ما المراد من قوله: {مّن نِّسَائِكُمُ}؟
الجواب فيه وجوه: أحدها: المراد، من زوجاتكم كقوله: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] وقوله: {مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وثانيها: من نسائكم، أي من الحرائر كقوله: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة: 282] والغرض بيان أنه لا حد على الاماء.
وثالثها: من نسائكم، أي من المؤمنات ورابعها: من نسائكم، أي من الثيبات دون الأبكار.
السؤال الثاني:
ما معنى قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ في البيوت}؟
الجواب: فخلدوهن محبوسات في بيوتكم، والحكمة فيه ان المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز، فإذا حبست في البيت لم تقدر على الزنا، وإذا استمرت على هذه الحالة تعودت العفاف والفرار عن الزنا.
السؤال الثالث:
ما معنى {يَتَوَفَّاهُنَّ الموت} والموت والتوفي بمعنى واحد، فصار في التقدير: أو يميتهن الموت؟
الجواب: يجوز أن يراد.
حتى يتوفاهن ملائكة الموت، كقوله: {الذين تتوفاهم الملائكة} [النحل: 38] {قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن.
السؤال الرابع:
إنكم تفسرون قوله: {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا} بالحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «قد جعل الله لهن سبيلا البكر تجلد والثيب ترجم» وهذا بعيد، لأن هذا السبيل عليها لا لها، فإن الرجم لا شك أنه أغلظ من الحبس.
والجواب: أن النبي عليه الصلاة والسلام فسر السبيل بذلك فقال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» ولما فسر الرسول صلى الله عليه وسلم السبيل بذلك وجب القطع بصحته، وأيضا: له وجه في اللغة فإن المخلص من الشيء هو سبيل له، سواء كان أخف أو أثقل. اهـ.

.قال القرطبي:

هذه أوّل عقوبات الزناة؛ وكان هذا في ابتداء الإسلام؛ قاله عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نُسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية النور وبالرجم في الثيب.
وقالت فرقة: بل كان الإيذاء هو الأوّل ثم نسخ بالإمساك، ولكنّ التلاوة أخرت وقدّمت؛ ذكره ابن فورك، وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة، فلما كثروا وخشي قوّتهم اتخذ لهم سجن؛ قاله ابن العربيّ.
واختلف العلماء هل كان هذا السجن حدًا أو توَعّدا بالحدّ على قولين: أحدهما أنه توعد بالحدّ، والثاني أنه حدّ؛ قاله ابن عباس والحسن.
زاد ابن زيد: وأنهم مُنِعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه.
وهذا يدل على أنه كان حدًا بل أشدّ؛ غير أن ذلك الحكم كان ممدودًا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأُخرى، على اختلاف التأويلين في أيهما قبلُ؛ وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلًا البكر بالبِكر جلد مائةٍ وتغريب عامٍ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» وهذا نحو قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه.
هذا قول المحققين المتأخرين من الأُصوليين، فإن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللّذيْن لا يمكن الجمع بينهما، والجمع ممكن بين الحبس والتعْيِير والجلد والرجْم، وقد قال بعض العلماء: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد؛ لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد.
وأما الحبس فمنسوخ بإجماع، وإطلاق المتقدّمين النسخ على مثل هذا تجوّز. والله أعلم. اهـ. بتصرف يسير.

.قال أبو السعود:

{فَإِن شَهِدُواْ} عليهن بذلك {فَأَمْسِكُوهُنَّ في البيوت} أي فاحبِسوهن فيها واجعلوها سِجْنًا عليهن {حتى يَتَوَفَّاهُنَّ} أي إلى أن يستوفيَ أرواحَهن {الموت} وفيه تهويلٌ للموت وإبرازٌ له في صورة من يتولى قبضَ الأرواحِ ويتوفاها، أو يتوفاهن ملائكةُ الموتِ {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا} أي يشرع لهن حكمًا خاصًّا بهن ولعل التعبيرَ عنه بالسبيل للإيذان بكونه طريقًا مسلوكًا فليس فيه دَلالةٌ على كونه أخفَّ من الحبس كما قاله أبو مسلم. اهـ.