فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)}.
إنما اعتبر في ثبوت الفاحشة- التي هي الزنا- زيادة الشهود إسبالًا لِسَتْرِ الكَرِمِ على إجرام العِباد، فإنَّ إقامة الشهود- على الوجه الذي في الشرع لإثبات تلك الحالةَ- كالمُتَعَذِّرِ.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم لمَاعِز لما قال له: يا رسول الله- صلوات الله عليك- إنِّي زنيتُ فَطَهِّرْني. فقال: لعلِّك قَبَّلَتَ.. ثم قال في بعض المرات: استنكهوه.
ففي هذا أقوى دليل لما ذكرت من إسباله الستر على الأعمال القبيحة. اهـ.

.من فوائد أبي بكر ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تعالى: {وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}.
قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ مُعْضِلَةٌ فِي الْآيَاتِ لَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُعِينَ عَلَى عِلْمِهَا، وَفِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً:
لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، اللَّذَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَالٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مَمْدُودًا إلَى غَايَةٍ، ثُمَّ وَقَعَ بَيَانُ الْغَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ مُتَّصِلٌ لَمْ يَرْفَعَ مَا بَعْدَهُ مَا قَبْلَهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {اللَّاتِي}:
هُوَ جَمْعُ الَّتِي؛ كَلِمَةٌ يُخْبَرُ بِهَا عَنْ الْمُؤَنَّثِ خَاصَّةً، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِي يُخْبَرُ بِهِ عَنْ الْمُذَكَّرِ خَاصَّةً، وَجَمْعُهُ الَّذِينَ، وَقَدْ تُحْذَفُ التَّاءُ فَتَبْقَى الْيَاءُ السَّاكِنَةُ فَتَجْرِي بِحَرَكَتِهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ}، فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ الْمَخْزُومِيُّ:
مِنْ اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ حِسْبَةً ** وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ الْمُغَفَّلَا

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {الْفَاحِشَةَ}:
هِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ تَعْظُمُ كَرَاهِيَتُهُ فِي النُّفُوسِ، وَيَقْبُحُ ذِكْرُهُ فِي الْأَلْسِنَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْغَايَةَ فِي جِنْسِهِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِشَهْوَةِ الْفَرْجِ إذَا اُقْتُضِيَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا أَوْ الْمُجْتَنَبِ عَادَةً، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الزِّنَا إجْمَاعًا، وَفِي اللِّوَاطِ بِاخْتِلَافٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللِّوَاطَ فَاحِشَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّاهُ بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ}:
يُقَالُ: أَتَيْت مَقْصُورًا؛ أَيْ جِئْت، وَعَبَّرَ عَنْ الْفِعْلِ وَالْعَمَلِ بِالْمَجِيءِ؛ لِأَنَّ الْمَجِيءَ إلَيْهِ يَكُونُ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِعَارَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمْ}:
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ الْأَكْثَرُ مِنْ الصَّحَابَةِ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الْجِنْسُ مِنْ النِّسَاءِ، وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ: إنَّهُنَّ الْأَزْوَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَأَرَادَ الْأَزْوَاجَ فِي الْآيَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِذَا كَانَ إضَافَةُ زَوْجِيَّةٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهَا إلَّا اعْتِبَارُ الثُّيُوبَةِ؛ قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْأُخْرَى، وَكَانَتْ الْأَكْبَرُ لِلثَّيِّبِ، وَالْأَصْغَرُ لِلْبِكْرِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ وَعُمُومَهُ، فَأَمَّا الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ فَإِنَّمَا أَوْقَفْنَاهُ عَلَى الْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيلَاءَ لَمَّا كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ النِّكَاحِ بِأَنْ يَحْلِفَ أَلَّا يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فَوَطِئَهَا يَحْنَثُ إذَا وَطِئَهَا إذَا تَزَوَّجَهَا، وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَى الْأَجَلِ فِي الزَّوْجَةِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَظُ لِلْأَعْظَمِ وَالْأَقَلُّ لِلْأَصْغَرِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي النِّسَاءِ جَمِيعًا: إحْدَاهُمَا فِي الثَّيِّبِ، وَالْأُخْرَى فِي الْبِكْرِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إنَّ الْحِكْمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمْ} بَيَانُ حَالِ الْمُؤْمِنَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} يَعْنِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحُدُّ الْكَافِرَةَ إذَا زَنَتْ، وَذَلِكَ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}:
وَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} فَشَرَطَ غَايَةَ الشَّهَادَةِ فِي غَايَةِ الْمَعْصِيَةِ لِأَعْظَمِ الْحُقُوقِ حُرْمَةً، وَتَعْدِيدُ الشُّهُودِ بِأَرْبَعَةٍ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ؛ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَّا، فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَا: نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا.
قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا وَكَرِهْنَا الْقَتْلَ.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا وَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَمَهُمَا»
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَلابد أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ عُدُولًا:
لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الْبُيُوعِ وَالرَّجْعَةِ، فَهَذَا أَعْظَمُ، وَهُوَ بِذَلِكَ أَوْلَى، وَهُوَ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالدَّلِيلِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَلَا يَكُونُوا ذِمَّةٍ:
وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى ذِمَّةٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْقَتْلُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الزِّنَا؟
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ بِشَاهِدَيْنِ، فَمَا هَذَا؟. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ وَالْإِيَالَةَ الرَّبَّانِيَّةَ اقْتَضَتْ السَّتْرَ فِي الزِّنَا بِكَثْرَةِ الشُّهُودِ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي السَّتْرِ، وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ، بَلْ بِلَوْثٍ وَقَسَامَةٍ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْكُمْ}:
الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الذُّكُورُ دُونَ الْإِنَاثِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا {مِنْ نِسَائِكُمْ} ثُمَّ قَالَ: {مِنْكُمْ} فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ غَيْرَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ شَهِدُوا}:
الْمَعْنَى: فَاطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ الشُّهَدَاءَ، فَإِنْ شَهِدُوا.
وَلَيْسَ هَذَا بِأَمْرِ وُجُوبٍ لِطَلَبِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَعْلِيمِ كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ، وَصِفَةُ الشَّهَادَةِ الَّتِي يَشْهَدُ بِهَا الشَّاهِدُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ شَأْنِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الْخَامِسَةِ، فَقَالَ: أَنِكْتَهَا؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ حَلَالًا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا تُرِيدُ مِنِّي بِهَذَا الْقَوْلِ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}:
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ وَحَبْسِهِنَّ فِيهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَكْثُرَ الْجُنَاةُ، فَلَمَّا كَثُرَ الْجُنَاةُ وَخُشِيَ فَوْتُهُمْ اُتُّخِذَ لَهُمْ سِجْنٌ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا السِّجْنِ، هَلْ هُوَ حَدٌّ أَوْ تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَدٌّ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: زَادَ ابْنُ زَيْدٍ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُوتُوا يَعْنِي عُقُوبَةً لَهُمْ حَيْثُ طَلَبُوا النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ.
ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْحَدِّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} فَمَنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ، وَمَنْ كَانَ بِكْرًا جُلِدَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَدٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ عُقُوبَةً مَمْدُودَةً إلَى غَايَةِ مُؤْذَنَةٍ بِأُخْرَى هِيَ النِّهَايَةُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ حَدٌّ، لِأَنَّهُ إيذَاءٌ، وَإِيلَامٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْجِلْدِ، وَكُلُّ إيذَاءٍ وَإِيلَامٍ حَدٌّ، لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَزَجْرٌ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ مَمْدُودٌ إلَى غَايَةٍ إبْطَالًا لِقَوْلِ مَنْ رَأَى مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ نُسِخَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}:
رَوَى مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ».
وَرَوَى مُسْلِمٌ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَلُقِيَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ».
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: «الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى، وَالثَّيِّبُ تُجْلَدُ وَتُرْجَمُ».
فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: بِكْرٌ تَزْنِي بِبِكْرٍ، وَثَيِّبٌ تَزْنِي بِثَيِّبٍ.
الثَّالِثُ بِكْرٌ تَزْنِي بِثَيِّبٍ، أَوْ ثَيِّبٌ تَزْنِي بِبِكْرٍ، لِقَوْلِهِ: «الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى، وَالثَّيِّبُ تُرْجَمُ».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْبِكْرُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ:
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَمَّادٌ: لَا يُقْضَى بِالنَّفْيِ حَدًّا إلَّا أَنْ يَرَاهُ الْحَاكِمُ تَعْزِيرًا، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَلَمْ يَذْكُرْ تَغْرِيبًا، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.