فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَحْكَامًا: مِنْهَا اسْتِشْهَادُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ عَلَى الزِّنَا.
وَمِنْهَا الْحَبْسُ لِلْمَرْأَةِ وَالْأَذَى لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا.
وَمِنْهَا سُقُوطُ الْأَذَى وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمَا بِالتَّوْبَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وَهَذِهِ التَّوْبَةُ إنَّمَا كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فِي إسْقَاطِ الْأَذَى دُونَ الْحَبْسِ، وَأَمَّا الْحَبْسُ فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى وُرُودِ السَّبِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ السَّبِيلَ وَهُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ، وَنُسِخَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ إلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ اسْتِشْهَادِ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَدَدِ الشُّهُودِ بَاقٍ فِي الْحَدِّ الَّذِي نُسِخَ بِهِ الْحَدَّانِ الْأَوَّلَانِ وَهُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} فَلَمْ يُنْسَخْ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ وَلَمْ يُنْسَخْ الِاسْتِشْهَادُ أَيْضًا، وَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ إحْضَارِ الشُّهُودِ وَالنَّظَرُ إلَى الزَّانِيَيْنِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاسْتِشْهَادِ عَلَى الزِّنَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَعَمُّدِ النَّظَرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَعَمُّدَ النَّظَرِ إلَى الزَّانِيَيْنِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا لَا يُسْقِطُ شَهَادَتَهُ؛ وَكَذَلِكَ فِعْلُ أَبُو بَكْرٍ مَعَ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ وَنَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ وَزِيَادِ فِي قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)}
أخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والبزار والطبراني من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: {واللاتي يأتين الفاحشة...} الآية. قال: كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت فإن ماتت ماتت، وإن عاشت عاشت، حتى نزلت الآية في سورة النور {الزانية والزاني} [النور: 2] فجعل الله لهنَّ سبيلًا، فمن عمل شيئًا جلد وأرسل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والنحاس في ناسخه والبيهقي في سننه من طريق علي عن ابن عباس في الآية قال: كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، ثم أنزل الله بعد ذلك {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] فإن كانا محصنين رجما. فهذا السبيل الذي جعله الله لهما.
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} وقوله: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق: 1] وقوله: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [النساء: 19] قال: كان ذكر الفاحشة في هؤلاء الآيات قبل أن تنزل سورة النور بالجلد والرجم، فإن جاءت اليوم بفاحشة مبينة فإنها تخرج فترجم، فنسختها هذه الآية {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] والسبيل الذي جعل الله لهن الجلد والرجم.
وأخرج أبو داود في سننه والبيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} إلى قوله: {سبيلًا} وذكر الرجل بعد المرأة ثم جمعهما جميعًا فقال: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما...} [النساء: 16] الآية. ثم نسخ ذلك بآية الجلد فقال: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2].
وأخرج آدم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} يعني الزنا كان أمر أن يحبس، ثم نسختها {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2].
وأخرج آدم وأبو داود في سننه والبيهقي عن مجاهد قال السبيل الحد.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: {واللاتي يأتين الفاحشة...} الآية. قال: كان هذا بدء عقوبة الزنا، كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعًا، ويعيران بالقول وبالسب. ثم إن الله أنزل بعد ذلك في سورة النور جعل الله لهن سبيلًا، فصارت السنة فيمن أحصن الرجم بالحجارة، وفيمن لم يحصن جلد مائة ونفي سنة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والنحاس عن قتادة في الآية قال: نسختها الحدود.
وأخرج البيهقي في سننه عن الحسن في قوله: {واللاتي يأتين الفاحشة...} الآية. قال: كان أول حدود النساء أن يحبسن في بيوت لهن حتى نزلت الآية التي في النور.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {واللاتي يأتين الفاحشة} يعني الزنا {من نسائكم} يعني المرأة الثيب من المسلمين {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} يعني من المسلمين الأحرار {فإن شهدوا} يعني بالزنا {فأمسكوهن} يعني احبسوهن {في البيوت} يعني في السجون.
وكان هذا في أول الإسلام كانت المرأة إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن، فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق، وليس عليها حد ولا يجامعها، ولكن يحبسها في السجن {حتى يتوفاهن الموت} يعني حتى تموت المرأة وهي على تلك الحال {أو يجعل الله لهن سبيلًا} يعني مخرجًا من الحبس، والمخرج الحد.
وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال: هؤلاء اللاتي قد أنكحن وأحصن إذا زنت المرأة كانت تحبس في البيوت، ويأخذ زوجها مهرها فهو له. وذلك قوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئًا} [البقرة: 229] {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} الزنا حتى جاءت الحدود فنسختها، فجلدت ورجمت، وكان مهرها ميراثًا، فكان السبيل هو الحد.
وأخرج عبد الرزاق والشافعي والطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والدرامي ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن الجارود والطحاوي وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وابن حبان عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وترمَّد وجهه. وفي لفظ لابن جرير: يأخذه كهيئة الغشي لما يجد من ثقل ذلك. فأنزل الله عليه ذات يوم، فلما سري عنه قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة».
وأخرج أحمد عن سلمة بن المحبق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: لما نزلت الفرائض في سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حبس بعد سورة النساء». اهـ.

.تفسير الآية رقم (16):

قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر أمر النساء أتبعه حكم الرجال على وجه يعم النساء أيضًا فقال: {واللذان} وهو تثنية الذي وشدد نونه ابن كثير تقوية له ليقرب من الأسماء المتمكنة {يأتيانها منكم} أي من بكر أو ثيب، أو رجل أو امرأة، ويثبت ذلك بشهادة الأربعة- كما تقدم {فآذوهما} وقد بين مجمل الأذى الصادق باللسان وغيره آية الجلد وسنة الرجم {فإن تابا} أي بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود {وأصحا} أي بالاستمرار على ما عزما عليه، ومضت مدة علم فيها الصدق في ذلك {فأعرضوا عنهما} أي عن أذاهما، وهو يدل على أن الأذى باللسان يستمر حتى يحصل الاستبراء، ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {كان توابًا} أي رجاعًا بمن رجع عن عصيانه إلى ما كان فيه من المنزلة {رحيمًا} أي يخص من يشاء من عباده بالتوفيق لما يرضاه له، فتخلقوا بفعله سبحانه وارحموا المذنبين إذا تابوا، ولا يكن أذاكم لهم إلا لله ليرجعوا، وليكن أكثر كلامكم لهم الوعظ بما يقبل بقلوبهم إلى ما ترضاه الإلهية، ويؤيده أن المراد بهذا البكر والثيب من الرجال والنساء تفسير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه مسلم والأربعة والدارمي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» فالحديث مبين لما أجمل في الآية من ذكر السبيل. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال القرطبي:

واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: {وَاللاَّتِي} وقوله: {وَاللَّذَانِ} فقال مجاهد وغيره: الآية الأُولى في النساء عامّة محصناتٍ وغير محصناتٍ، والآية الثانية في الرجال خاصة.
وبيّن لفظ التثنية صنفي الرجال من أحْصَن ومن لم يُحصن؛ فعقوبة النساء الحبسُ، وعقوبة الرجال الأذَى.
وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نصُّ الكلام أصناف الزناة.
ويؤيّده من جهة اللفظ قوله في الأُولى: {مِنْ نِسَائِكُمْ} وفي الثانية {مِنْكُمْ}؛ واختاره النحاس ورواه عن ابن عباس.
وقال السدي وقتادة وغيرهما: الأُولى في النساء المحصنات.
يريد: ودخل معهنّ من أحصِن من الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البِكرين.
قال ابن عطية: ومعنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه.
وقد رجّحه الطبري، وأباه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد؛ لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة.
وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل؛ فخُصّت المرأة بالذِّكْر في الإمساك ثم جمعا في الإيذاء.
قال قتادة: كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعًا؛ وهذا لأن الرجل يحتاج إلى السعي والاكتساب.
واختلف العلماء أيضًا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة على ما بيّناه: فقال بمقتضاه عليّ بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك، وأنه جلد شُرَاحَة الهمْدانية مائة ورجمها بعد ذلك، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حيّ وإسحاق، وقال جماعة من العلماء: بل على الثيب الرجم بلا جلد.
وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهريّ والنخعِيّ ومالك والثوريّ والأُوزاعيّ والشافعيّ وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور؛ متمسّكين بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رجم ماعِزًا والغامِدية ولم يجلدهما، وبقوله عليه السلام لأُنَيْس: «اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ولم يذكر الجلد؛ فلو كان مشروعًا لما سكت عنه.
قيل لهم: إنما سكت عنه؛ لأنه ثابت بكتاب الله تعالى، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن؛ لأن قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] يعم جميع الزناة.
والله أعلم.
ويبين هذا فعل عليّ بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له: عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ. وهذا واضح. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

الذين قالوا: إن الآية الأولى في الزناة قالوا: هذه الآية أيضا في الزناة فعند هذا اختلفوا في أنه ما السبب في هذا التكرير وما الفائدة فيه؟ وذكروا فيه وجوها: الأول: أن المراد من قوله: {واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ} [النساء: 15] المراد منه الزواني، والمراد من قوله: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} الزناة، ثم انه تعالى خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الايذاء بالرجل، والسبب فيه أن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز، فإذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية، وأما الرجل فإنه لا يمكن حبسه في البيت، لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه وترتيب مهماته واكتساب قوت عياله، فلا جرم جعلت عقوبة المرأة الزانية الحبس في البيت، وجعلت عقوبة الرجل الزاني أن يؤذى، فإذا تاب ترك إيذاؤه، ويحتمل أيضًا أن يقال إن الايذاء كان مشتركا بين الرجل والمرأة، والحبس كان من خواص المرأة، فإذا تابا أزيل الايذاء عنهما وبقي الحبس على المرأة، وهذا أحسن الوجوه المذكورة.