فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الحجة الثالثة: التوبة عبارة عن الندم على ما مضى والعزم على الترك في المستقبل، والندم والعزم من باب الكراهات والارادات، والكراهة والارادة لا يحصلان باختيار العبد، وإلا افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل، وإذا كان كذلك كان حصول هذا الندم وهذا العزم بمحض تخليق الله تعالى، وفعل الله لا يوجب على الله فعلا آخر، فثبت أن القول بالوجوب باطل.
الحجة الرابعة: أن التوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم، فلو صار ذلك علة للوجوب على الله لصار فعل العبد مؤثرًا في ذات الله وفي صفاته، وذلك لا يقوله عاقل.
فأما الجواب عما احتجوا به فهو أنه تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين، فإذا وعد الله بشيء وكان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب، فبهذا التأويل صح اطلاق كلمة على وبهذا الطريق ظهر الفرق بين قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} وبين قوله: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ}.
إن قيل: فلما أخبر عن قبول التوبة وكل ما أخبر الله عن وقوعه كان واجب الوقوع، فيلزمكم أن لا يكون فاعلا مختارا.
قلنا: الإخبار عن الوقوع تبع للوقوع، والوقوع تبع للايقاع، والتبع لا يغير الأصل، فكان فاعلا مختارا في ذلك الايقاع.
أما أنتم تقولون بأن وقوع التوبة من حيث أنها هي تؤثر في وجوب القبول على الله تعالى، وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} قيل: هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبًا.
وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبًا في موضع آخر.
واتفقت الأُمة على أن التوبة فرض على المؤمنين؛ لقوله تعالى: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا المؤمنون} [النور: 31].
وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبًا من أقام على ذنب.
ولا فرق بين معصية ومعصية هذا مذهب أهل السنة.
وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها.
وليس قبول التوبة واجبًا على الله من طريق العقل كما قال المخالف؛ لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم، والمكلِّف لهم؛ فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى عن ذلك، غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} [الشورى: 25].
وقوله: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104].
وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} [طه: 82] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء.
والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلًا؛ فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب.
قال أبو المعالي وغيره: وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة.
قال ابن عطية: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى.
فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامّة الشروط فقال أبو المعالي؛ يغلب على الظن قبول توبته.
وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه جل وعز.
قال ابن عطية: وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول ويرجحه؛ وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ}.
وإذا تقرّر هذا فأعلم أن في قوله: {على الله} حذفا وليس على ظاهره، وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده.
وهذا نحو: قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «أتدري ما حق العباد على الله؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أن يدخلهم الجنة».
فهذا كله معناه: على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق.
دليله قوله تعالى: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 12] أي وعد بها.
وقيل: على هاهنا معناها عند والمعنى واحد، التقدير: عند الله، أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها؛ وهي أربعة؛ الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره؛ فإذا اختلّ شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة.
وقد قيل من شروطها: الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار، وقد تقدّم في [آل عمران] كثير من معاني التوبة وأحكامها.
ولا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حَدّا؛ ولهذا قال علماؤنا: إن السارق والسارقة والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود.
وقيل: على بمعنى من أي إنما التوبة من الله للذين؛ قاله أبو بكر بن عبدوس، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إنما} حاصرة، وهو مقصد المتكلم بها أبدًا، ققد تصادف من المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله تعالى: {إنما الله إله واحد} [النساء: 171].
وقد تصادف من المعنى ما لا يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله: إنما الشجاع عنترة فيبقى الحصر في مقصد المادح، ويتحصل من ذلك لكل سامع تحقيق هذه الصفة للموصوف بمبالغة، وهذه الآية مما يوجب النظر فيها أنها حاصرة، وهي في عرف الشرع: الرجوع من شر إلى خير، وحد التوبة: الندم على فارط فعل، من حيث هو معصية الله عز وجل، وإن كان الندم من حيث أضر ذلك الفعل في بدن أو ملك فليس بتوبة، فإن كان ذلك الفعل مما يمكن هذا النادم فعله في المستأنف فمن شروط التوبة العزم على ترك ذلك الفعل في المستأنف، وإلا فثم إصرار لا توبة معه، وإن كان ذلك الفعل لا يمكنه، مثل أن يتوب من الزنا فيجب بأثر ذلك ونحو ذلك، فهذا لا يحتاج إلى شرط العزم على الترك، والتوبة فرض على المؤمنين بإجماع الأمة، والإجماع هي القرينة التي حمل بها قوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعًا} [النور: 31] على الوجوب، وتصح التوبة من ذنب من الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافًا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبًا من أقام على ذنب، وتصح التوبة وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد موافقة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة، والإيمان للكافر ليس نفس توبته، وإنما توبته ندمه على سالف كفره، وقوله تعالى: {على الله} فيه حذف مضاف تقديره: على فضل الله ورحمته لعباده، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ثم سكت قليلًا، ثم قال: يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أن يدخله الجنة، فهذا كله إنما معناه: ما حقهم على فضل الله ورحمته، والعقيدة: أنه لا يجب على الله تعالى شيء عقلًا، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعًا، فمن ذلك تخليد الكفار في النار، ومن ذلك قبول إيمان الكافر، والتوبة لا يجب قبولها على الله تعالى عقلًا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب، قال أبو المعالي وغيره: فهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن لا قطعًا على الله بقبول التوبة.
قال القاضي أبو محمد: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى، فإذا فرضنا رجلًا قد تاب توبة نصوحًا تامة الشروط، فقول أبي المعالي يغلب على الظن قبول توبته، وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته، كما أخبر عن نفسه عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: وكان أبي رحمة الله عليه يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} [الشورى: 25] وقوله: {وإني لغفار لمن تاب وآمن} [طه: 82] و{السوء} في هذه الآية يعم الكفر والمعاصي. اهـ.

.قال الفخر:

إنه تعالى شرط قبول هذه التوبة بشرطين:
أحدهما قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بجهالة} وفيه سؤالان: أحدهما: أن من عمل ذنبا ولم يعلم أنه ذنب لم يستحق عقابا، لأن الخطأ مرفوع عن هذه الأمة، فعلى هذا: الذين يعملون السوء بجهالة فلا حاجة بهم إلى التوبة.
والسؤال الثاني:
أن كلمة إنما للحصر، فظاهر هذه الآية يقتضي أن من أقدم على السوء مع العلم بكونه سوأ أن لا تكون توبته مقبولة، وذلك بالاجماع باطل.
والجواب عن السؤال الأول:
أن اليهودي اختار اليهودية وهو لا يعلم كونها ذنبا مع أنه يستحق العقاب عليها.
والجواب عن السؤال الثاني:
أن من أتى بالمعصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخف ممن أتى بها مع العلم بكونها معصية، وإذا كان كذلك لا جرم خص القسم الأول بوجوب قبول التوبة وجوبا على سبيل الوعد والكرم، وأما القسم الثاني فلما كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التأكيد في قبول التوبة، فتكون هذه الآية دالة من هذا الوجه على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى.
وإذا عرفت الجواب عن هذين السؤالين فلنذكر الوجوه التي ذكرها المفسرون في تفسير الجهالة.
الأول: قال المفسرون: كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة، قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الجاهلين} [يوسف: 33] وقال حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قال لإخوته: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون} [يوسف: 89] وقال تعالى: {يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46] وقال تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} [البقرة: 67] وقد يقول السيد لعبده حال ما يذمه على فعل: ياجاهل لم فعلت كذا وكذا، والسبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي لربه أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية، فلما لم يستعمل ذلك العلم صار كأنه لا علم له، فعلى هذا الطريق سمي العاصي لربه جاهلا، وعلى هذا الوجه يدخل فيه المعصية سواء أتى بها الإنسان مع العلم بكونهامعصية أو مع الجهل بذلك.
والوجه الثاني: في تفسير الجهالة: أن يأتي الإنسان بالمعصية مع العلم بكونها معصية إلا أن يكون جاهلا بقدر عقابه، وقد علمنا أن الإنسان إذا أقدم على ما لا ينبغي مع العلم بأنه مما لا ينبغي إلا أنه لا يعلم مقدار ما يحصل في عاقبته من الآفات، فإنه يصح أن يقال على سبيل المجاز: انه جاهل بفعله.
والوجه الثالث: أن يكون المراد منه أن يأتي الإنسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه معصية لكن بشرط أن يكون متمكنا من العلم بكونه معصية، فإنه على هذا التقدير يستحق العقاب، ولهذا المعنى أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب، وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية، إلا أنه لما كان متمكنا من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية، كفى ذلك في ثبوت استحقاق العقاب، ويخرج عما ذكرنا النائم والساهي، فإنه أتى بالقبيح ولكنه ما كان متمكنا من العلم بكونه قبيحا، وهذا القول راجح على غيره من حيث أن لفظ الجهالة في الوجهين الأولين محمول على المجاز، وفي هذا الوجه على الحقيقة، إلا أن على هذا الوجه لا يدخل تحت الآية إلا من عمل القبيح وهو لا يعلم قبحه، أما المتعمد فإنه لا يكون داخلا تحت الآية، وإنما يعرف حاله بطريق القياس وهو أنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة، فلأن تكون واجبة على العامد كان ذلك أولى، فهذا هو الكلام في الشرط الأول من شرائط التوبة، وأما الشرط الثاني فهو قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله، وإنما سمى تعالى هذه المدة قريبة لوجوه: أحدها: أن الأجل آت وكل ما هو آت قريب.
وثانيها: للتنبيه على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة قريبة فإنها محفوفة بطرفي الأزل والأبد، فإذا قسمت مدة عمرك إلى ما على طرفيها صار كالعدم.
وثالثها: أن الإنسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به، وما هذا حاله فإنه يوصف بالقرب. اهـ.