فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويذيل الحق الآية: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليما بالتقنينات فشَرَّع التوبة لعلمه- جل شأنه- بأنه لو لم يشرِّع التوبة، لكان المذنب لمرة واحدة سببًا في شقاء العالم؛ لأنه- حينئذ- يكون يائسًا من رحمة الله.
إذن فرحمة منه سبحانه بالعالم شرّع الله التوبة. وهو حكيم فإياك أن يتبادر إلى ذهنك أن الحق قد حمى المجرم فحسب حين شرع له التوبة، إنه سبحانه قد حمى غير المجرم أيضا. وساعة نسمع الزمن في حق الحق سبحانه وتعالى كقوله: كان فلا نقول ذلك قياسًا على زماننا نحن، أو على قدراتنا نحن، فكل ما هو متعلق بالحق علينا أن نأخذه في نطاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
فقد يقول الكافر: إن علم الله كان ويحاول أن يفهمها على أنه علم قد حدث ولا يمكن تكراره الآن، لا، فعلم الله كان ولا يزال؛ لأن الله لا يتغير، وما دام الله لا يتغير، فالثابت له من قبل أزلًا يثبت له أبدًا، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. وما دام قد قدر سبحانه وضع الشيء، فالشيء إنما جاء عن علم، وحين يطابق الشيء موضعه فهذه هي مطلق الحكمة.
والحق يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّواءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17].
لقد شرع الله سبحانه التوبة ليتوب عباده، فإذا تابوا قَبِلَ توبتَهم، وهذا مبني على العلم الشامل والحكمة الدقيقة الراسخة. وانظروا إلى دقة العبارة في قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}، فساعة يوجد فعل إيجابي يقال: على مَن، لكن عندما لا يأتي بفعل إيجابي لا يقال: عل مَن، بل يقال: ليس بالنفي. إنّ الحق عندما قرر التوبة عليه سبحانه وأوجبها على نفسه، للذين يعملون السوء بجهالة ويتوبون فورًا، إنه يدلنا أيضًا على مقابل هؤلاء، فيقول: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قد تقدَّمَ الكلام على {إِنَّمَا} في أول البقرة [آية 11] وما قيل فيها.
والتوبة، مبتدأ وفي خبرها وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ على الله، أي: إنَّمَا التَّوْبَةُ مستقرّة على فضل اللهِ، ويكون للذين متعلقًا بما تَعَلَّقَ به الخبر.
وأجاز أبُو البقاء: عند ذِكْرِهِ هذا الوجه أن يكون للذين متعلقًا بمحذوف على أنه حال، قال: فعلى أن يكون {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء} حالًا من الضّمير في الظّرف وهو على الله، والعاملُ فيها الظّرفُ أو الاستقرار، أي: كائنةً لِلَّين، ولا يجوز أن يكون العاملُ في الحال التوبة؛ لأنَّه قَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بالخبر، وهذا فيه تكلُّفٌ لا حاجةِ إليه.
الثّاني: أن يكون الخبر للذين وعلى الله متعلّق بمحذوف على أنَّهُ حال من شيءٍ محذوف، والتقديرُ: إنما التَّوبة إذا كانت- أو إذْ كانت- على اللهِ للذين يعملونَ فإذا وإذ معمولان للذين لأن الظَّرْف يتقَدَّمُ على عامله المعنوي وكان هذه هي التَّامَّة، وفاعلها هو صاحب الحالن ولا يجوز أن يكون {عَلَى الله} حالًا من الضَّمير المستتر في {لِلَّذِينَ} والعامل فيها {لِلَّذِينَ} لأنَّهُ عاملٌ معنويٌّ، والحال لا تتقدَّمُ على عاملها المعنوي، هذا ما قاله أبُو البقَاءِ وَنَظَّر هذه المسألة بقولهم: هذا بُسْرًا أطْيَبُ منه رُطَبًا يعني: أنَّ التَّقدير: إذا كان بُسْرًا أطيبُ منه إذا كان رُطبًا.
وفي هذه المسألة أقْوَالٌ كثيرة مضطربة لا يحتملها هذا الكتاب وقدر أبو حيان مضافين حُذفا من المبتدأ والخبر، فقال: التَّقدير: إنَّمَا قَبُولُ التوبة مترتب على فضل اللهِ فعلى باقية على بابها يعني من الاستعلاء.
قوله: {بِجَهَالَةٍ} فيه وجهان:
أحدهما: أنْ يتعلّق بمحذوف على أنَّهُ حال من فاعل {يَعْمَلُونَ}، ومعناها المصاحبة أي: يعملون السُّوء متلبسين بجهالةٍ، أي: مصاحبين لها، ويجوز أن يكون حالًا من المفعول، أي: ملتبسًا بجهالة، وفيه بُعْدٌ وتَجَوُّزٌ.
والثاني: أن يتعلق بـ {يَعْمَلُونَ} على أنَّها باء السّببية.
قال أبُو حيَّان: أي الحامل لهم على عمل السُّوء هو الجهالة، إذْ لو كانوا عالمين بما يترتَّب على المعصية متذكرين له حال عملها لم يُقْدِمُوا عليها كقوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» لأنَّ العقل حينئذ يكون مغلوبًا أو مَسْلُوبًا.
قوله: {مِن قَرِيبٍ} فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون من لابتداء الغاية، أي: تبتدئ التَّوبة من زمان قريب من زمان المعصية لئلاّ يقع في الإصْرارِ، وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الكوفيين، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون من لابتداء الغاية في الزَّمَانِ، ويتأوَّلون ما جاء منه، ويكون مفهوم الآية أنَّه لو تاب من زمان بعيدٍ لم يدخل في مَنْ خُصَّ بكرامةِ قَبُولِ التّوبة على اللهِ المذكورة في هذه الآية، بل يكون داخلًا فيمن قال فيهم {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102].
والثاني: أنَّهَا للتّبعيض أي: بعض زمانٍ قريب يعني أي جُزْء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتّوبة فيه، فهو تائبٌ من قريب.
وعلى الوجهين فمِنْ متعلقة بيتوبون، وقريب صِفَةٌ لزمان محذوف، كما تقدم تقريره، إلاَّ أنَّ حّذْفَ هذا الموصوف وإقَامةَ هذه الصفةِ مُقَامة ليس بقياسٍ، إذ لا يَنْقَاسُ الحَذْفُ إلاَّ في صور.
منها أن تكون الصفةُ جَرَتْ مَجْرى الأسماء الجوامد، كالأبْطَحِ والأبرق، أو كانت خاصةً بجنس الموصوف، نحو: مررت بكاتبٍ، أو تقدَّم ذِكْرُ موصوفها، نحو: اسقني ماءً ولَوْ بَارِدًا، وما نحن فيه ليس شيئًا من ذلك.
وفي قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ} إعلامٌ بِسَعَةِ عَفْوِهِ، حيثُ أتى بحرف التّراخي والفاء في قوله: {فأولئك} مُؤْذِنَةٌ بتَسَبُّبِ قَبُولِ الله تَوبتهم إذا تابوا من قريب، وضَمَّنَ {يَتُوبُونَ} معنى يَعْطِفُ فلذلك عَدَّى بعلى.
وأما قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} فَراعَى المضاف المحذوف، إذا التّقدير: إنَّما قبولُ التَّوبَةِ على اللهِ، كذا قال الشَّيخ وفيه نَظَرٌ. اهـ. بتصرف يسير.
موعظة:
روى أن أحد الصالحين قال لرجل سأله أن يعظه:
لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويرجئ التوبة لطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين، إنَّ أعطي منها لم يشبع، وإنَّ منع منها لن يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، وينبغي الزيادة على ما أولي، ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لم يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم يكره الموت لكثرة ذنوبه ويقيم على ما يكره الموت له إن سقم ظل نادمًا وأن صح أمن لاهيًا يعجب بنفسه إذا عوفي ويقنط إذا ابتلي إنَّ أصابه بلاء دعا مضطرًا، وإنَّ ناله رخاء أعرض مغترًا، تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، ويرجو لنفسه بأكثر من عمله؛ إن استغنى بطر وفتن، وإن افتقر قنط ووهن، يقتصر إذا عمل، ويبالغ إذا سأل؛ أسلف المعصية وسوف بالتوبة، يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ، فهو بالقول مدل، ومن العمل مقل؛ ينافس فيما يفنى، ويسامح فيما يبقى؛ يرى الغنم مغرمًا والغرم مغنمًا؛ يخشى الموت ولا يبادر الفوت؛ يستعظم من معصيةغيره ما يستقل أكثر منه من نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره، فهو على الناس طاعن ولنفسه مداهن؛ اللغو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء؛ يحكم على غيره لنفسه، ولا يحكم عليها لغيره؛ يرشد غيره ويغوي نفسه. اهـ. بتصرف يسير.
بحث نفيس في التوبة:
التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب السماوي فإن التوبة بمعنى الإيمان عن كفر وشرك وإن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهية كدين موسى وعيسى (عليهما السلام) لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة وتسريتها إلى الإيمان بل باسم أن ذلك إيمان.
حتى أنه يلوح من الأصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع التوبة واستحالة أن يستفيد منها الإنسان كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب والفداء وقد تقدم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
هذا وقد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة وتتجر بها وكان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم لكن القرآن حلل حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه وتعلق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال والكرامة والسعادة الواجبة له في حياته الأخروية عند الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيرا كل الفقر في ذاته صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني} [فاطر- 15] وقال: {ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} [الفرقان- 3].
فهو واقع في مهبط الشقاء ومنحط البعد ومنعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين} [التين- 5] وقوله: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم- 72] وقوله: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه- 117].
وإذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة واستقراره في مستقر السعادة يتوقف على انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء ومنحط البعد وانقلاعه عنه برجوعه إلى ربه وهو توبته إليه في أصل السعادة وهو الإيمان وفي كل سعادة فرعية وهي كل عمل صالح أعني التوبة والرجوع عن أصل الشقاء وهو الشرك بالله سبحانه وعن فروعات الشقاء وهي سيئات الأعمال بعد الشرك فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله والانخلاع عن ألواث البعد والشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالإيمان والتنعم بأقسام نعم الطاعات والقربات وبعبارة أخرى يتوقف القرب من الله ودار كرامته على التوبة من الشرك ومن كل معصية قال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور- 31] فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعم التوبتين جميعا بل تعمهما وغيرهما على ما سيجئ إن شاء الله.
ثم إن الإنسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا ولا سعادة قط إلا بربه كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره وإعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية والمسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق والإعانة وهو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى: {ثم تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة- 118] وكذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب وتطهيره من القذارات وألواث البعد وهذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى: {فأولئك يتوب الله عليهم} الآية.
وإذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد وإلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة ويكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها وبعدها وربما كان مع عدم توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله ولا الذين يموتون وهم كفار وأن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة ومن هذا الباب قوله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما}.
وكذلك القرب والبعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه ومراحله إلى بعض ويصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه وأقرب إلى ربه كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء وهم معصومون بنص كلامه كقوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} [البقرة- 37] وقوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل إلى قوله وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة- 128] وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} [الأعراف- 143] وقوله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والأبكار} [المؤمن- 55] وقوله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} [التوبة- 117].