فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (19):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انقضى ما تخلل ذكر النساء الوالدات للوراث، وختمه بهذا التهديد الهائل لمن فعل ما لا يحل له؛ وصل الكلام فيهن بأمر من فعله، فهو زان مصر على الزنى إلى الموت إن اعتقد حرمته، أو كافر إن اعتقد حله، فقال مشيرًا بتخصيص المؤمنين عقب {ولا الذين يموتون وهم كفار} [النساء: 18] إلى أنه لا يرث كافر من مسلم، وإلا لقال: يا أيها الناس- مثلًا، منفرًا من ذلك بالتقييد بما هو لأدنى الإيمان: {يا أيها الذين آمنوا} أي فوقف بهم الإيمان عند زواجرنا {لا يحل لكم أن ترثوا النساء} أي مالهن {كرهًا} أي كارهين لهن، لا حامل لكم على نكاحهن إلا رجاء الإرث، وذلك أنهم كانوا ينكحون اليتامى لمالهن، وليس لهم فيهن رغبة إلا تربص الموت لأخذ مالهن ميراثًا- كما سيأتي في تفسير {ويستفتونك في النساء} [النساء: 127] أو يكون الفعل واقعًا على نفس النساء، ويكون {كرهًا} على هذا حالًا مؤكدة، أي كارهات، أو ذوات كره، وذلك لأن الرجل كان إذا مات وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فيلقي ثوبه عليها، فيصير أحق بها من نفسها ومن غيرها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج، يضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها، وكان أهل المدينة على هذا حتى توفي أبو قيس بن الأسلت، ففعل ابنه حصن هذا مع زوجة له، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال؛ «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا}» ولهذا أتبعه سبحانه قوله: {ولا تعضلوهنَّ} أي تمنعوهن من التزوج بعد طلاقكم لهن أو بعد موت أزواجهن، أوتشددوا عليهن بالمضارة وهن في حبائلكم؛ قال البيضاوي: وأصل العضل: التضييق، يقال عضلت الدجاجة بيضها- انتهى.
والظاهر أن مدار مادته إنما هو على الاشتداد، من عضلة الساق، وهي اللحمة التي في باطنه، ونقل عبد الحق أنها كل لحم اجتمع، قال: وقال الخليل: كل لحمة اشتملت على عصبة- انتهى.
وتارة يكون الاشتداد ناظرًا إلى المنع، وتارة إلى الغلبة والضيق، ثم علل ذلك بقوله: {لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} أي أنتم إن كن أزواجًا لكم، أو مورثوكم إن كن أزواجًا لهم وعضلتموهن بعدهم، ليذهب ذلك بسبب إنفاقهن له على أنفسهن في زمن العضل، أو بسبب افتدائهن لأنفسهن به منكم، ثم استثنى من تحريم العضل في جميع الحالات فقال: {إلا أن} أي لا تفعلوا ذلك لعلة من العلل إلا لعلة أن {يأتين بفاحشة} أي فعلة زائدة القبح {مبينة} أي بالشهود الأربعة إن كانت زنى فاعضلوهن بالإمساك في البيوت- كما مضى- لأن من تعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه، أو بمن يقبل من الشهود إن كانت نشوزًا وسوء عشرة، فلكم العضل حينئذ إلى الصلاح أو الافتداء بما تطيب به النفس، والأنسب لسياق الأمر في {وعاشروهن} أن يكون {تعضلوهن} منهيًا، لا معطوفًا على {أن ترثوا} {بالمعروف} أي من القول والفعل بالمبيت والنفقة والموادة قبل الإتيان بالفاحشة {فإن} أي إن كنتم لا تكرهونهن فالأمر واضح، وإن {كرهتموهن} فلا تبادروا إلى المضاجرة أو المفارقة، واصبروا عليهن نظرًا لما هو الأصلح، لا لمجرد الميل النفسي، فإن الهوى شأنه أن لا يدعو إلى خير ثم دل على هذه العلة بقوله: {فعسى} ولوضوح دلالتها على ذلك صح جعلها جوابًا للشرط {أن تكرهوا شيئًا} أي من الأزواج أو غيرها، لم يقيده سبحانه تعميمًا تتميمًا للفائدة {ويجعل الله} أي المحيط علمًا وقدرة، وغيَّب بحكمته علمكم العواقب لئلا تسكنوا إلى مألوف، أو تنفروا من مكروه {فيه خيرًا كثيرًا}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الألوسي:

{يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا} لما نهى الله سبحانه فيما تقدم عن عادات أهل الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن الاستنان بنوع من سننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن؛ فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، وفي رواية البخاري وأبي داود كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ابنه فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت، وروي مثله عن أبي جعفر وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك.
وروي عن الزهري أنها نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده لا حاجة له بها وينتظر موتها حتى يرثها فالنساء إما مفعول ثان لترثوا على أن يكنّ هنّ الموروثات، وكرهًا مصدر منصوب على أنه حال من النساء، وقيل: من ضمير {تَرِثُواْ} والمعنى لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإرث على زعمكم كما حل لكم أخذ الأموال وهنّ كارهات لذلك أو مكرهات عليه، أو أنتم مكروهون لهنّ، وإما مفعول أول له، والمعنى: لا يحل لكم أن تأخذوا من النساء المال بطريق الإرث كرهًا والمراد من ذلك أمر الزوج أن يطلق من كره صحبتها ولا يمسكها كرهًا حتى تموت فيرث منها مالها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا}.
استئناف تشريع في أحكام النساء التي كان سياق السورة لبيانها وهي التي لم تزل آيها مبيّنة لأحكامها تأسيسًا واستطرادًا، وبدءا وعودا، وهذا حكم تابع لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من جعل زوج الميّت موروثة عنه وافتتح بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} للتنويه بما خوطبوا به.
وخوطب الذين آمنوا ليعمّ الخطاب جميع الأمّة، فيأخذ كلّ منهم بحظّه منه، فمريد الاختصاص بامرأة الميّت يعلم ما يختصّ به منه، والوليّ كذلك، وولاة الأمور كذلك. اهـ.

.قال الفخر:

في الآية قولان:
الأول: كان الرجل في الجاهلية إذا مات وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله، فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها، فإن شاء تزوجها بغير صداق، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبين أن ذلك حرام وأن الرجل لا يرث امرأة الميت منه، فعلى هذا القول المراد بقوله: {أَن تَرِثُواْ النساء} عين النساء، وأنهن لا يورثن من الميت.
والقول الثاني: أن الوراثة تعود إلى المال، وذلك أن وارث الميت كان له أن يمنعها من الأزواج حتى تموت فيرثها مالها، فقال تعالى: {لا يحل لكم أن ترثوا} أموالهن وهن كارهات. اهـ.

.قال ابن عطية:

اختلف المتأولون في المعنى قوله تعالى: {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا} فقال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته في أهلها، إن شاؤوا تزوجها أحدهم، وإن شاؤوا زوجوها من غيرهم، وإن شاؤوا منعوها الزواج، فنزلت الآية في ذلك، قال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، ذكر النقاش: أن اسم ولد أبي قيس محصن.
قال القاضي أبو محمد: كانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي، ألا ترى أن أبا عمرو بن أمية، خلف على امرأة أبيه بعد موته، فولدت من أبي عمرو مسافرًا وأبا معيط وكان لها من أمية أبو العيص وغيره، فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامها، وقال بمثل هذا القول الذي حكيت عن ابن عباس عكرمة والحسن البصري وأبو مجلز، قال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن الأنصارية، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت، وقال مجاهد: كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه إذا لم يكن ولدها، وقال السدي: كان ولي الميت إذا سبق فألقى على امرأة الميت ثوبه، فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها.
قال القاضي أبو محمد: والروايات في هذا كثيرة بحسب السير الجاهلية، ولا منفعة في ذكر جميع ذلك، إذ قد أذهبه الله بقوله: {لا يحل لكم} ومعنى الآية على هذا القول: {لا يحل لكم} أن تجعلوا النساء كالمال، يورَثن عن الرجال الموتى، كما يورث المال، والمتلبس بالخطاب أولياء الموتى، وقال بعض المتأولين: معنى الآية: {لا يحل لكم} عضل النساء اللواتي أنتم أولياء لهن وإمساكهن دون تزويج حتى يمتن فتورث أموالهن.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا القول فالموروث مالها لا هي، وروي نحو هذا عن ابن عباس وغيره، والمتلبس بالخطاب أولياء النساء وأزواجهن، إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية أن يرثها، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عمرو وابن كبير: {كَرهًا} بفتح الكاف حيث وقع في النساء وسورة التوبة وفي الأحقاف، وقرأ حمزة والكسائي جميع ذلك بضم الكاف، وقرأ عاصم وابن عامر في النساء والتوبة بفتح الكاف، وفي الأحقاف في الموضعين بضمها، والكَره والكُره لغتان كالضعف والضعف، والفقر والفقر، قاله أبو علي، وقال الفراء: هو بضم الكاف المشقة وبفتحها إكراه غير، وقاله ابن قتيبة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا} هذا متصل بما تقدّم ذكره من الزوجات.
والمقصود نفي الظلم عنهنّ وإضرارهنّ والخطاب للأولياء.
و{أن} في موضع رفع بـ {يَحِلُّ}؛ أي لا يحل لكم وراثة النساء.
و{كَرْهًا} مصدر في موضع الحال.
واختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها؛ فروى البخاري: عن ابن عباس {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوّجها، وإن شاءوا زوّجوها، وإن شاءوا لم يزوّجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزّلت هذه الآية في ذلك.
وأخرجه أبو داود بمعناه.
وقال الزهري وأبو مَجْلِز: كان من عادتهم إذا مات الرجل يُلقي ابنُه من غيرها أو أقربُ عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها؛ فإن شاء تزوّجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت؛ وإن شاء زوّجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئًا؛ وإن شاء عَضَلها لتفْتَدِيَ منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا}.
فيكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهنّ من أزواجهنّ فتكونوا أزواجًا لهنّ.
وقيل: كان الوارث إن سبق فألقى عليها ثوبًا فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها؛ قاله السدّي.
وقيل: كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابّة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تَفْتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها.
فنزلت هذه الآية.
وأُمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها؛ فذلك قوله تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا}.
والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم، وألا تُجعل النساءُ كالمال يُورَثْن عن الرجال كما يورث المال. اهـ.