فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وصيغة {لا يحل} صيغة نهي صريح لأنّ الحلّ هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة، فنفيه يرادف معنى التحريم.
والإرث حقيقته مصير الكسب إلى شخص عقب شخص آخر، وأكثر ما يستعمل في مصير الأموال، ويطلق الإرث مجازًا على تمحّض الملك لأحد بعد المشارك فيه، أو في حالة ادّعاء المشارك فيه، ومنه يرث الأرض ومَن عليها، وهو فعل متعدّ إلى واحد يتعدّى إلى المتاع الموروث، فتقول: ورثت مال فلان، وقد يتعدى إلى ذات الشخص الموروث، يقال: ورث فلان أباه، قال تعالى: {فهب لي من لدنك وليا يرثني} [مريم: 6] وهذا هو الغالب فيه إذا تعدّى إلى ما ليس بمال.
فتعدية فعل {أن ترثوا} إلى {النساء} من استعماله الأوّل: بتنزيل النساء منزلة الأموال الموروثة، لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية.
أخرج البخاري، عن ابن عباس، قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوّجها، وإن شاءوا زوّجوها، وإن شاءوا لم يزوجوّها، فهم أحقّ بها من أهلها فنزلت هذه الآية وعن مجاهد، والسدّي، والزهري كان الابن الأكبر أحقّ بزوج أبيه إذا لم تكن أمّه، فإن لم يكن أبناء فوليّ الميّت إذا سبق فألقى على امرأة الميّت ثوبه فهو أحقّ بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحقّ بنفسها. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ حمزة والكسائي {كَرْهًا} بضم الكاف، وفي التوبة {أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: 53] وفي الأحقاف {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15] كل ذلك بالضم، وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم، والباقي بالفتح، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك، قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وقال الفراء: الكره بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة، فما أكره عليه فهو كره بالفتح، وما كان من قبل نفسه فهو كره بالضم. اهـ.
قال الفخر:
المخاطب في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} من هو؟
فيه أقوال:
الأول: أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها، فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها، وهذا القول اختيار أكثر المفسرين، فكأنه تعالى قال: لا يحل لكم التزوج بهن بالإكراه، وكذلك لا يحل لكم بعد التزوج بهن العضل والحبس لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن.
الثاني: أنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوج بمن شاءت وأرادت، كما كان يفعله أهل الجاهلية وقوله: {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} معناه أنهم كانوا يحبسون امرأة الميت وغرضهم أن تبذل المرأة ما أخذت من ميراث الميت، الثالث: أنه خطاب للأولياء ونهى لهم عن عضل المرأة، الرابع: أنه خطاب للأزواج.
فإنهم في الجاهلية كانوا يطلقون المرأة وكانوا يعضلونهن عن التزوج ويضيقون الأمر عليهن لغرض أن يأخذوا منهن شيئا، الخامس: أنه عام في الكل. اهـ.

.قال الماوردي:

{وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: أنه خطاب لورثة الأزواج أن [لا] يمنعوهن من التزويج كما ذكرنا، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وعكرمة.
والثاني: أنه خطاب للأزواج أن [لا] يعضلوا نساءهم بعد الطلاق، كما كانت قريش تفعل في الجاهلية وهو قول ابن زيد.
والثالث: أنه خطاب للأزواج أن [لا] يحبسواْ النساء كرهًا ليفتدين نفوسهن أو يَمُتْنَ فيرثهن الزوج، وهذا قول قتادة، والشعبي، والضحاك.
والرابع: أنه خطاب للأولياء وهذا قول مجاهد. اهـ.

.قال الطبري:

وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن}، قول من قال: نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محبّ، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصَّداق.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة، إلا لأحد رجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه وهو لها كاره، مضارّة منه لها بذلك، ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك أو لوليها الذي إليه إنكاحها.
وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحدٍ غيرهما، وكان الوليُّ معلومًا أنه ليس ممن أتاها شيئًا فيقال إنْ عضلها عن النكاح: عَضَلها ليذهب ببعض ما آتاها، كان معلومًا أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها، هو زوجها الذي له السبيلُ إلى عضلها ضرارًا لتفتدي منه.
وإذا صح ذلك، وكان معلومًا أن الله تعالى ذكره لم يجعل لأحد السبيلَ على زوجته بعد فراقه إياها وبينونتها منه، فيكون له إلى عضلها سبيل لتفتدي منه من عَضْله إياها، أتت بفاحشة أم لم تأت بها، وكان الله جل ثناؤه قد أباح للأزواج عضلهن إذا آتين بفاحشة مبيِّنة حتى يفتدين منه كان بيِّنًا بذلك خطأ التأويل الذي تأوّله ابن زيد، وتأويلِ من قال: عنى بالنهي عن العضل في هذه الآية أولياء الأيامى، وصحةُ ما قلنا فيه. اهـ.

.قال القرطبي:

وإذا تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العَضْل الأولياء ففقْهُه أنه متى صَحّ في وليٍّ أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها، إلا الأب في بناته؛ فإنه إن كان في عضله صلاح فلا يُعْتَرض، قولًا واحد، وذلك بالخاطب والخاطبين وإن صح عضله ففِيه قولان في مذهب مالك: أنه كسائر الأولياء، يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطَلَبَه.
والقول الآخر لا يعرض له. اهـ.

.قال الفخر:

في الفاحشة المبينة قولان:
الأول: أنها النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله، والمعنى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب: إلا أن يفحش عليكم.
والقول الثاني: أنها الزنا، وهو قول الحسن وأبي قلابة والسدي. اهـ.

.قال القرطبي:

اختلف الناس في معنى الفاحشة؛ فقال الحسن: هو الزنا، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه.
وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارّها ويشق عليها حتى تفتدي منه.
وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهنّ.
وقال ابن سيرين وأبو قلابة: لا يحلّ له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلًا.
قال الله تعالى: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ}.
وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة: الفاحشة المبينة في هذه الآية البُغْض والنُّشُوز، قالوا: فإذا نشزت حلّ له أن يأخذ مالها؛ وهذا هو مذهب مالك.
قال ابن عطية: إلا أني لا أحفظ له نَصًا في الفاحشة في الآية.
وقال قوم: الفاحشة البَذَاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا؛ وهذا في معنى النشوز.
ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخُلْع؛ إلاّ أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها رُكُونا إلى قوله تعالى: {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}.
وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك.
قال ابن عطية: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تُحِل أخذ المال.
قال أبو عمر: قول ابن سِيرين وأبي قِلابة عندي ليس بشيء؛ لأن الفاحشة قد تكون البذاء والأذى؛ ومنه قيل للبذي: فاحِش ومتفحِّش، وعلى أنه لو اطلع منها على الفاحشة كان له لِعَانُها، وإن شاء طلقها؛ وأمّا أن يضارّها حتى تفتدِي منه بما لها فليس له ذلك، ولا أعلم أحدًا قال: له أن يضارّها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة. والله أعلم.
وقال الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229] يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه بحقها {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} [البقرة: 229].
وقال الله عز وجل: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء: 4] فهذه الآيات أصل هذا الباب.
وقال عطاء الخراساني: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود.
وقول رابع {إلاَّ أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبيِّنَة} إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت؛ فيكون هذا قبل النسخ، وهذا في معنى قول عطاء، وهو ضعيف. اهـ.

.قال الطبري:

قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في تأويل قوله: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}، أنه معنىٌّ به كل فاحشة: من بَذاءٍ باللسان على زوجها، وأذى له، وزنًا بفرجها. وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}، كلَّ فاحشة متبيّنةٍ ظاهرة. فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنًا أو نشوز، فله عضْلُها على ما بين الله في كتابه، والتضييقُ عليها حتى تفتدي منه، بأيِّ معاني الفواحش أتت، بعد أن تكون ظاهرة مبيِّنة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى، وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدًا، وأن لا تعصيه في معروف، وأنّ الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه، وإنما هو واحب عليه إذا أدَّت هي إليه ما يجب عليها من الحق، بتركها إيطاء فراشه غيره، وتركها معصيته في معروف.
ومعلوم أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا» إنما هو أن لا يمكِّنّ من أنفسهن أحدًا سواكم.
وإذا كان ما روينا في ذلك صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيِّنٌ أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيرَه وأمكنت من جماعها سواه، أنَّ له من منعها الكسوةَ والرزقَ بالمعروف، مثلَ الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف. وإذ كان ذلك له، فمعلوم أنه غير مانع لها- بمنعه إياها ماله منعها- حقًّا لها واجبًا عليه. وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها، فأخذ منها زوجها ما أعطته، أنه لم يأخذ ذلك عن عَضْل منهيّ عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عَضْل له مباح. وإذ كان ذلك كذلك، كان بينًا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله: {ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}. وإذْ صح ذلك، فبيِّنٌ فساد قول من قال: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}، منسوخ بالحدود، لأن الحدّ حق الله جل ثناؤه على من أتى بالفاحشة التي هي زنا. وأما العَضْل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه، فحق لزوجها كما عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه، حق له. وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: ولا يحل لكم، أيها الذين آمنوا، أن تعضلوا نساءكم فتضيِّقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صَدُقاتكم، إلا أن يأتين بفاحشةٍ من زنا أو بَذاءٍ عليكم، وخلافٍ لكم فيما يجب عليهن لكم- مبيِّنة ظاهرة، فيحل لكم حينئذ عَضْلهن والتضييق عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هنّ افتدين منكم به. اهـ. بتصرف يسير.