فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلنا هذا في معجزة إبراهيم عليه السلام، حيث ألقاه أهله في النار ولم يُحرق، كان من الممكن أن ينجي الله إبراهيم بأي طريقة أخرى، ولكن هل المسألة نجاة إبراهيم؟ إن كانت المسألة كذلك فما كان ليمكنهم منه، لكنه سبحانه مكنهم منه وأمسكوه ولم يفلت منهم، وكان من الممكن أن يأمر السماء فتمطر عندما ألقوه في النار، وكان المطر كفيلا بإطفاء النار، لكن لم تمطر السماء بل وتتأجج النار. وبعد ذلك يقول لها الحق: {قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
بالله أهذا غيظ لهم أم لا؟ هذا غيظ لهم؛ فقد قدرتم عليه وألقيتموه في النار، وبعد ذلك لم يَنْزِل مطر ليطفئ النار، والنار موجودة وإبراهيم في النار، لكن النار لا تحرقه. هذه هي عظمة القدرة.
إذن فما معنى تعضلوهن؟ العضل: أخذنا منه كلمة المنع؛ فعضلت المرأة أي قبضت عضلاتها فلم ينزل الوليد، وأنت ستعضلها كيف؟ بأن تمنعها من حقها الطبيعي حين مات زوجها، وأن من حقها بعد أن تقضي العدة أَنْ تتزوج من تريد أو من يتقدم لها، وينهى الحق: {ولا تعضلوهن} أي لا تحبسوهن عندكم وتمنعوهن، لماذا تفعلون ذلك؟ {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} كأن هذا حكم آخر، لا ترثوا النساء كرها هذا حكم، وأيضا لا تعضلوهن حكم ثانٍ.
والمثال عندما يكون الرجل كارها لامرأته فيقول لها: والله لن أطلقك، أنا سأجعلك موقوفة ومعلقة لا أكون أنا لك زوجا ولا أمكنك أيضا من أن تتزوجي وذلك حتى تفتدي نفسها فتُبرئ الرجل من النفقة ومؤخر الصداق؛ فيحمي الإسلام المرأة ويحرم مثل تلك الأفعال.
ولكن متى تعضلوهن؟ هنا يقول الحق: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} لأنهم سيحبسونهن، وهذا قبل التشريع بالحد. وقال بعض الفقهاء: للزوج أن يأخذ من زوجته ما تفتدي به نفسها منه وذلك يكون بمال أو غيره إذا أتت بفاحشة من زنا أو سوء عشرة، وهذا ما يسمى بالخلع وهو الطلاق بمقابل يطلبه الزوج.
ويتابع الحق: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وكلمة المعروف أوسع دائرة من كلمة المودة؛ فالمودة هي أنك تحسن لمن عندك ودادة له وترتاح نفسك لمواددته، أنك فرح به وبوجوده، لكن المعروف قد تبذله ولو لم تكره، وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة، عندما أراد المستشرقون أن يبحثوا في القرآن ليجدوا شيئا يدعون به أن في القرآن تعارضا فيقولون: قرآنكم يقول: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
كيف لا يواد المؤمن ابنه أو أباه أو أحدًا من عشيرته لمجرد كفره. والقرآن في موقع آخر منه يقول؟
{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
ونقول: إن هؤلاء لم يفهموا الفرق بين المودة والمعروف. فالود شيء والمعروف شيء آخر. الود يكون عن حُب، لكن المعروف ليس ضروريا أن يكون عن حُب، ساعة يكون جوعان سأعطيه ليأكل وألبي احتياجاته المادية. هذا هو المعروف، إنما الوُد هو أن أعمل لإرضاء نفسي. وساعة يعطف الرجل المؤمن على أبيه الكافر لا يعطف عليه نتيجة للوُد، إنما هو يعطف عليه نتيجة للمعروف؛ لأنه حتى لو كان كافرًا سيعطيه بالمعروف.
ألم يعاتب الحق سبحانه إبراهيم في ضيف جاء له فلم يكرمه لأنه سأله وعرف منه: أنه غير مؤمن لذلك لم يضيّفه؟ فقال له ربنا: أمن أجل ليلة تستقبله فيها تريد أن تغير دينه، بينما أنا أرزقه أربعين سنة وهو كافر؟ فماذا فعل سيدنا إبراهيم؟ جرى فلحق بالرجل. وناداه فقال له الرجل: ما الذي جعلك تتغير هذا التغيير المفاجئ فقال له إبراهيم: والله إن ربي عاتبني لأني صنعت معك هذا. فقال له الرجل: أربك عاتبك وأنت رسول فيّ وأنا كفر به، فنعم الرب ربٌ يعاتب أحبابه في أعدائه، فأسلم.
هذا هو المعروف، الحق يأمرنا أننا يجب أن ننتبه إلى هذه المسائل في أثناء الحياة الزوجية، وهذه قضية يجب أن يتنبه لها المسلمون جميعا كي لا يُخربوا البيوت.
إنهم يريدون أن يبنوا البيوت على المودة والحب فلو لم تكن المودة والحب في البيت لخُربَ البيت، نقول لهم: لا. بل {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} حتى لو لم تحبوهن، وقد يكون السبب الوحيد أنك تكره المرأة لأن شكلها لا يثير غرائزك، يا هذا أنت لم تفهم عن الله؛ ليس المفروض في المرأة أن تثير غريزتك، ولكن المفروض في المرأة أن تكون مصرفا، إن هاجت غريزتك كيماويا بطبيعتها وجدت لها مصرفا. فأنت لا تحتاج لواحدة تغريك لتحرك فيك الغريزة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى أحدكم امرأة حسناء فأعجبته فليأت أهله فإن البضع واحد ومعها مثل الذي معها».
أي أن قطعة اللحم واحدة إن هاجت غريزتك بطبيعتها فأي مصرف يكفيك، ولذلك عندما جاء رجل لسيدنا عمر- رضي الله عنه- وقال: يا أمير المؤمنين أنا كاره لامرأتي وأريد أن أطلقها، قال له: أَوَ لَمْ تُبن البيوت إلا على الحب، فأين القيم؟ لقد ظن الرجل أن امرأته ستظل طول عمرها خاطفة لقلبه، ويدخل كل يوم ليقبلها، فيلفته سيدنا عمر إلى أن هذه مسألة وجدت أولا وبعد ذلك تنبت في الأسرة أشياء تربط الرجل بالمرأة وتربط المرأة بالرجل.
لذلك يقول الحق: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، أنت كرهتها في زاوية وقد تكون الزاوية التي كرهتها فيها هي التي ستجعلها تحسن في عدة زوايا؛ لكي تعوض بإحسانها في الزوايا الأخرى هذه الزاوية الناقصة، فلا تبن المسألة على أنك تريد امرأة عارضة أزياء لتثير غرائزك عندما تكون هادئا، لا. فالمرأة مصرف طبيعي إن هاجت غرائزك بطبيعتها وجدت لها مصرفا، أما أن ترى في المرأة أنها ملهبة للغرائز فمعنى ذلك أنك تريد من المرأة أن تكون غانية فقط. وأن تعيش معك من أجل العلاقة الجنسية فقط، لكن هناك مسائل أخرى كثيرة، فلا تأخذ من المرأة زاوية واحدة هي زاوية الانفعال الجنسي، وخذ زوايا متعددة.
واعلم أن الله وزع أسباب فضله على خلقه، هذه أعطاها جمالًا، وهذه أعطاها عقلًا، وهذه أعطاها حكمة، وهذه أعطاها أمانة، وهذه أعطاها وفاء، وهذه أعطاها فلاحًا، هناك أسباب كثيرة جدا، فإن كنت تريد أن تكون منصفًا حكيمًا فخُذ كل الزوايا، أما أن تنظر للمرأة من زاوية واحدة فقط هي زاوية إهاجة الغريزة، هنا نقول لك: ليست هذه هي الزاوية التي تصلح لتقدير المرأة فقط. {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.
وانظر إلى الدقة في العبارة {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ} فأنت تكره؛ وقد تكون محقا في الكراهية أو غير محق، إنما إن كرهت شيئا يقول لك الله عنه: {وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} فاطمئن إنك إن كرهت في المرأة شيئا لا يتعلق بدينها، فاعلم أنك إن صبرت عليه يجعل الله لك في بقية الزوايا خيرًا كثيرًا.
وما دام ربنا هو من يجعل هذا الخير الكثير فاطمئن إلى أنك لو تنبهت لزاوية أنت تكرهها ومع ذلك تصبر عليها، فأنت تضمن أن ربنا سيجعل لك خيرًا في نواحٍ متعددة، إن أي زاوية تغلبت على كرهك سيجعل الله فيها خيرا كثيرا.
إن الحق يطلق القضية هنا في بناء الأسرة ثم يُعمم، وكان بإمكانه أن يقول: فعسى أن تكرهوهن ويجعل الله فيهن خيرا، لا. فقد شاء أن يجعلها سبحانه قضية عامة في كل شيء قد تكرهه، وتأتي الأحداث لتبين صدق الله في ذلك، فكم من أشياء كرهها الإنسان ثم تبين له وجه الخير فيها. وكم من أشياء أحبها الإنسان ثم تبين له وجه الشر فيها، ليدلك على أن حكم الإنسان على الأشياء دائما غير دقيق، فقد يحكم بكره شيء وهو لا يستحق الكره، وقد يحكم بحب شيء وهو لا يستحق الحب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يأتي بالأشياء مخالفة لأحكامك {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} فقدر دائما في المقارنة أن الكره منك وجَعْل الخير في المرأة من الله، فلا تجعل جانب الكره منك يتغلب على جانب جعل الخير من الله ويقول الحق من بعد ذلك: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ...}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)}
أخرج البخاري وأبو داود والنسائي والبيهقي في سننه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوّجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوّجوها فهم أحق بها من أهلها. فنزلت هذه الآية في ذلك.
وأخرج أبو داود من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فاحكم الله عن ذلك. أي نهى عن ذلك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها. وهي قوله: {ولا تعضلوهن} يعني لا تقهروهن {لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضر بها لتفتدي.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه كان أحق بامرأة الميت، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدي منه بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها. قال عطاء بن أبي رباح: وكان أهل الجاهلية إذا هلك الرجل فترك امرأة، يحبسها أهله على الصبي تكون فيهم، فنزلت {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا}.
وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوّج امرأته- وكان لهم ذلك في الجاهلية- فأنزل الله: {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في كبشة ابنة معن بن عاصم أبي الأوس، كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ابنه، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تُرِكْتُ فَأُنْكَحَ. فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس أن رجالًا من أهل المدينة كان إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته فورث نكاحها فلم ينكحها أحد غيره، وحبسها عنده لتفتدي منه بفدية. فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا}.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها جاء وليُّه فألقى عليها ثوبًا، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها عليه حتى يشب أو تموت فيرثها، فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوبًا نجت.
فأنزل الله: {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا}.
وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير عن الزهري في الآية قال: نزلت في ناس من الأنصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس بامرأته وليه، فيمسكها حتى تموت فيرثها. فنزلت فيهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله، فكان يعضلها حتى يتزوّجها أو يزوجها من أراد، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها. فنهى الله المؤمنين عن ذلك.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن عبد الرحمن بن السلماني في قوله: {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن} قال: نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام قال ابن المبارك {أن ترثوا النساء كرهًا} في الجاهلية {ولا تعضلوهن} في الإسلام.