فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فلا تأخذوا منه شيئًا} إنما ذلك في حق من وطئها، أو خلا بها، وقد بيّنَتْ ذلك الآية التي بعدها.
قال القاضي أبو يعلى: وإنما خصّ النهي عن أخذ شيء مما أعطى بحال الاستبدال، وإن كان المنع عامًا، لئلا يظن ظان أنه لما عاد البضع إلى ملكها، وجب أن يسقط حقها من المهر، أو يظن ظان أن الثانية أولى بالمهر منها، لقيامها مقامها. اهـ.

.قال الفخر:

البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الإنسان به صاحبه على جهة المكابرة، وأصله من بهت الرجل إذا تحير، فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمته، ثم جعل كل باطل يتحير من بطلانه {بهتانا}، ومنه الحديث: «إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته». اهـ.

.قال الماوردي:

{أَتَأْخُذُونُه بُهْتَانًا} فيه قولان:
أحدهما: ظلمًا بالبهتان.
والثاني: أن يبهتها أن جعل ذلك ليسترجعه منها.
وإنما منع من ذلك مع الاستبدال بهن وإن كان ممنوعًا منه وإن لم يستبدل بهن أيضًا لِئَلا يتوهم متوهم أنه يجور مع استبدال غيرها بها أن يأخذ ما دفعه إليها ليدفعه إلى من استبدل بها منه وإن كان ذلك عمومًا. اهـ.

.قال الفخر:

في تسمية هذا الأخذ بهتانا وجوه:
الأول: أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استرده كان كأنه يقول: ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا.
الثاني: أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها، وأن لا يأخذه منها، فإذا أخذه صار ذلك القول الأول بهتانا.
الثالث: أنا ذكرنا أنه كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب الأكثر، جعل كأن أحدهما هو الآخر.
الرابع: أنه تعالى ذكر في الآية السابقة: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} والظاهر من حال المسلم أنه لا يخالف أمر الله، فإذا أخذ منها شيئًا أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة، فإذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة صح وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان، من حيث أنه يدل على إتيانها بالفاحشة مع أن الأمر ليس كذلك.
وفيه تقرير آخر وهو أن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها، فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر، فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر، الخامس: أن عقاب البهتان والإثم المبين كان معلومًا عندهم فقوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا} معناه أتأخذون عقاب البهتان فهو كقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ} استفهام على معنى الإنكار والإعظام، والمعنى أن الظاهر أنكم لا تفعلون مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل.
واعلم أنه تعالى ذكر في علة هذا المنع أمورا:
أحدهما: أن هذا الأخذ يتضمن نسبتها إلى الفاحشة المبينة، فكان ذلك بهتانا والبهتان من أمهات الكبائر.
وثانيها: أنه إثم مبين لأن هذا المال حقها فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق وهو ظلم، إلى أخذ المال وهو ظلم آخر، فلا شك أن التوسل بظلم إلى ظلم آخر يكون إثما مبينا.
وثالثها: قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ}. اهـ.
قال الفخر:
أصل أفضى من الفضاء الذي هو السعة يقال: فضا يفضو وفضاء إذا اتسع، قال الليث: أفضى فلان إلى فلان، أي وصل إليه، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه، وللمفسرين في الإفضاء في هذه الآية قولان:
أحدهما: أن الإفضاء هاهنا كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي؛ لأن عنده الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر، وإن خلا بها.
والقول الثاني: في الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها، قال الكلبي: الإفضاء أن يكون معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، وهذا القول اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.
لأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر.
واعلم أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن الليث قال: أفضى فلان إلى فلانة أي صار في فرجتها وفضائها، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع، أما في غير وقت الجماع فهذا غير حاصل.
الثاني: أنه تعالى ذكر هذا في معرض التعجب، فقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع لا مجرد الخلوة، فوجب حمل الإفضاء عليه.
الثالث: وهو أن الإفضاء إليها لابد وأن يكون مفسرا بفعل منه ينتهي إليه، لأن كلمة إلى لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك، لأن عند الخلوة المحضة لم يصل فعل من أفعال واحد منهما إلى الآخر، فامتنع تفسير قوله: {أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} بمجرد الخلوة.
فإن قيل: فإذا اضطجعا في لحاف واحد وتلامسا فقد حصل الإفضاء من بعضهم إلى بعض فوجب أن يكون ذلك كافيا.
وأنتم لا تقولون به.
قلنا: القائل قائلان، قائل يقول: المهر لا يتقرر إلا بالجماع، وآخر: انه يتقرر بمجرد الخلوة وليس في الأمة أحد يقول إنه يتقرر بالملامسة والمضاجعة، فكان هذا القول باطلا بالاجماع، فلم يبق في تفسير إفضاء بعضهم إلى بعض إلا أحد أمرين: إما الجماع، وإما الخلوة، والقول بالخلوة باطل لما بيناه، فبقي أن المراد بالافضاء هو الجماع.
الرابع: أن المهر قبل الخلوة ما كان متقررًا، والشرع قد علق تقرره على إفضاء البعض إلى البعض، وقد اشتبه الأمر في أن المراد بهذا الإفضاء، هو الخلوة أو الجماع، وإذا وقع الشك وجب بقاء ما كان على ما كان، وهو عدم التقرير، فبهذه الوجوه ظهر ترجيح مذهب الشافعي. والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} الآية.
تعليل لمنع الأخذ مع الخلوة.
وقال بعضهم: الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد جامع أو لم يجامع؛ حكاه الهرويّ وهو قول الكلبيّ.
وقال الفرّاء: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وأن يجامعها.
وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الإفضاء في هذه الآية الجماع.
قال ابن عباس: ولكن الله كريم يَكْنِي.
وأصل الإفْضَاء في اللغة المخالطة؛ ويُقال للشيء المختلط: فَضًا.
قال الشاعر:
فقلتُ لها يا عمّتي لكِ ناقتي ** وتَمْرٌ فَضًا فِي عَيْبَتِي وَزَبِيبُ

ويُقال: القوم فوضى فَضًا، أي مختلطون لا أمير عليهم.
وعلى أن معنى أفضى خلا وإن لم يكن جامعَ، هل يتقرّر المهر بوجود الخلوة أم لا؟ اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال: يستقرّ بمجرّد الخلوة.
لا يستقرّ إلاَّ بالوطء.
يستقر بالخلوة في بيت الإهداء.
التفرقة بين بيته وبيتها.
والصحيح استقراره بالخلوة مطلقًا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ قالوا: إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعِدّة دخل بها أو لم يدخل بها؛ لما رواه الدارقطنِي عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كشف خِمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق» وقال عمر: إذا أغلق بابًا وأرخى سترًا ورأى عورة فقد وجب الصداق وعليها العدّة ولها الميراث.
وعن عليّ: إذا أغلق بابًا وأرخى سترًا ورأى عورة فقد وجد الصداق.
وقال مالك: إذا طال مكثه معها مثل السنة ونحوها، واتفقا على ألاّ مسِيس وطلبت المهر كله كان لها.
وقال الشافعيّ: لا عِدّة عليها ولها نصف المهر.
وقد مضى في البقرة. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} كلمة تعجب، أي لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئًا بذله لها بطبية نفسه؟ إن هذا لا يليق ألبتة بمن له طبع سليم وذوق مستقيم. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظًا} في تفسير هذا الميثاق الغليظ وجوه:
الأول: قال السدي وعكرمة والفراء: هو قولهم زوجتك هذه المرأة على ما أخذه الله للنساء على الرجال، من إمساك بمعروف أو تسريح باحسان، ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فما سرحها بالإحسان، بل سرحها بالإساءة.
الثاني: قال ابن عباس ومجاهد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق، وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النساء فانكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله».
الثالث: قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظًا} أي أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا، وصفه بالغلظة لقوته وعظمته، وقالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} فيه ثلاثة أقوال.
قيل: هو قوله عليه السَّلام: «فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» قاله عكرمة والربيع.
الثاني: قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] قاله الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي.
الثالث: عقدة النكاح قول الرجل: نكحت وملكت عقدة النكاح؛ قاله مجاهد وابن زيد.
وقال قوم: الميثاق الغليظ الولد. والله أعلم. اهـ.

.سؤال وجوابه:

فإن قيل كيف قال: {وآتيتم إحداهن قنطارا} مع أن حرمة الأخذ ثابتة وإن لم يكن قد أعطاها المهر بل كان في ذمته أو في يده؟
قلنا: المراد بالإتيان الضمان والالتزام، كما في قوله تعالى: {إذا سلمتم ما آتيتم} أي ما ضمنتم والتزمتم. اهـ.