فصل: مطلب: التفاضل بين الأنبياء واختصاص كل منهم بشيء وتفضيل محمد على الجميع وإعطائه ما أعطاهم كلهم من المعجزات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: التفاضل بين الأنبياء واختصاص كل منهم بشيء وتفضيل محمد على الجميع وإعطائه ما أعطاهم كلهم من المعجزات:

قال تعالى: {تِلْكَ} القصص العظيمة والأخبار الهامة هي: {آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ} يا سيد الرسل: {بِالْحَقِّ} الواقع الذي لا يشك به أهل الكتاب الذين في بلدك وغيرهم لثبوته في كتبهم: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} حقا الفرد العلم الغنيّ عن التعيين وقد أمرناك بتلاوة هذه القصص والأخبار عليهم مع علمهم بأنك أمي ولم تتعلم من أحد ليعترفوا بصدقك لأن سماعها منك معجزة واضحة كافية على رسالتك: {تِلْكَ} الجماعات الكرام الذين قصصنا عليك أخبارهم يا أكمل الرسل هم إخوانك: {الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} في الرّتب والمعجزات وهذا ردّ لمن قال إنهم متساوون لأن التفاضل موجود بين عوام البشر فلأن يكون بين خواصهم من باب أولى، ثم بين اللّه تعالى هذا التفاضل بقوله عز قوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} شفاها بلا سفير كموسى عليه السلام وقد خصّه به، لأن التكليم من أفضل معجزاته وأعظمها فلا تقاس باليد والعصا ورفع الجبل وفلق البحر وإخراج الماء من الصخر وغيرها لأنها دونها بكثير: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ} فوق بعض: {دَرَجاتٍ} كثيرة وخص بعضهم بما لم يخص به الآخر وهذا ما عليه إجماع الأمة، وأو لو العزم أفضل من غيرهم ومحمد أفضل من الجميع لعموم رسالته وشفاعته ولاحتواء كتابه على ما في كل الكتب والصحف المنزلة وعلى ما سيكون إلى يوم القيامة ولكونه خاتم الأنبياء ودوام حكمه لآخر هذا الكون ولإتيانه بمعجزات الأنبياء كافة وزاد عليهم بانشقاق القمر وحنين الجذع فضلا عن كلام الحجر والبهائم وغيرها مما لا يحصى، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 74 من سورة يونس والآية 28 من سورة سبأ والآية 158 من الأعراف.
واعلم أن اللّه تعالى رمز في هذه الآية له صلّى اللّه عليه وسلم من غير تصريح لأن في الإبهام والرمز تعظيما وتفخيما ولأن رفع الدرجات التي صارت له ليلة المعراج لم تكن لنبي قبله، وقد سئل الحطيئة من أشعر الناس قال زهير والنابغة.
ثم قال لو شئت لذكرت الثالث يعني نفسه.
وقد يقول القاضي في حكم قضى القاضي وحكم بكذا يريد نفسه.
ويفعل الرجل من الجماعة الأمر ويقول فعله أحدكم وهو أبلغ من أن يقول أنا: {وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ} كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى علامة دالة على رسالته إليهم من قبلنا لما قضت إرادتنا بإرساله إلى بني إسرائيل ليجدد لهم العهد: {وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام فكان معه منذ ولد حتى رفع وهو نفسه معجزة لكونه من غير أب ولهذا خصه بالذكر، وقد أسند جل جلاله الضمير هنا لذاته الكريمة وفي صدر الآية لاسمه المبارك مع أن المقام كله فيها مقام خطاب لتربية المهابة العظمى، ولوح عن موسى بالتكليم لاختصاصه به، وصرح باسم عيسى لرد ما بين أهل الكتابين فيه من التفريط والإفراط وأشار بالرفع لمحمد الدال عليه قوله وإنك لمن المرسلين زيادة في تبجيله واحترامه: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ} اجتماع أتباعهم على كلمة واحدة لفعل و: {مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وما اختلفوا فيما بينهم: {مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ} على أيدي رسلهم: {وَلكِنِ اخْتَلَفُوا} لأمر أراده اللّه تعالى تأييدا لمشيئته التي أرادها أول الخلق ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ} وأوفى بعهده الذي عاهد اللّه عليه في عالم الذر ففاز بفضل ربه في جنته: {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} عمدا لنقض عهده بعد قيام الحجة عليه بسخط اللّه فزج في جهنم: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} ولا اختلفوا: {وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} بخلقه حسبما خلقهم عليه يوفق من يشاء ويخذل من يشاء ليردهم لسابق علمه فيهم، سأل رجل عليا كرم اللّه وجهه عن القدر قال: طريق مظلم فلا تسلكه، فأعاد عليه السؤال قال بحر عميق فلا تلجه، فأعاد عليه الثالثة، قال سر قد خفي عليك فلا تغشاه.
فقد ظهر في هذه الآية أن الرسل متفاضلون واختلاف أممهم من بعدهم وتعدد أديانهم واختلافهم فيما بينهم عما أراده اللّه تعالى فيهم منذ خلقهم وأن اتحادهم على طريقة واحدة محال، وفيها تسلية لحضرة الرسول محمد مما يجده من الحزن والغم لعدم اهتداء قومه وقبولهم وحي اللّه وعدم التفاتهم إليه.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم لا بَيْع فِيهِ وَلا خُلَّة} أي لا تنفع فيه الصحبة والمودة والصداقة ولا تقبل فيه الفدية وقد سمي الفداء هنا بيعا لأنه شراء النفس من الهلاك: {وَلا شَفاعَة} لأحد تخلصه من عذاب اللّه إلا لمن ارتضى وأذن فهو عام مخصوص: {وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم وضعوا الأشياء في غير محلها.
واعلم بأن هذه الآية تشير إلى أن في الإنفاق في سبيل اللّه تأليف القلوب في الدنيا والنفع في الآخرة.
وبعد أن ذكر جل شأنه الأحكام المتعلقة بخلقه أردفها بذكر ما تفرد به من الشئون الجليلة الموجبة للعمل بأحكامه وتخصيصه بالعبادة بقوله: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ} الدائم بعد كل حي كما هو قبل حي: {الْقَيُّومُ} على كل شيء القائم بتدبير كل شيء: {لا تَأْخُذُهُ سِنَة وَلا نَوْم} السنة الفتور الذي يتقدم النوم والوسنان الذي هو بين النائم واليقظان فيكون الوسن نوما خفيفا يسهو فيه الإنسان ويغفل، والنوم الحقيقي هو المزيل للشعور والقوة والحس، وهذا كله نقص وتغيير وآفة لأنها تفضي إلى عدم العلم بما يقع واللّه تعالى منزه عن النقص والآفات والتغيير، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} الآية: 43 من سورة فاطر ومثلها الآية: 66: من سورة الحج، فلو وقعت منه سنة تعالى عن ذلك لسقطت السموات على الأرض وخرب الكون لأنه قائم بقيومته.
روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم خطيبا بخمس كلمات فقال إن اللّه عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط الميزان ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور- وفي رواية النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وهذا من أحاديث الصفات: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} ملكا وعبيدا لا ينازعه فيهما وما فيهما أحد، وقد أجرى هنا لفظ ما تغليبا لمن لا يعقل على من يعقل لأن الغالب فيهما ما لا يعقل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} استفهام بمعنى النفي أي لا يشفع أحد لأحد قط إلا بإذنه والاستفهام الإنكاري كهذا لا يجاب إلا بلا: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} مما هو أمام خلقه في الدنيا: {وَما خَلْفَهُمْ} ما وراء خلقه كافة بالآخرة: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} لا يعلم أحد البتة من هؤلاء المخلوقات كلها كنه شيء ما من معلوماته: {إِلَّا بِما شاءَ} أن يحيط علمهم به بأن يعلم من شاء من خلقه الخواص الخلص كالأنبياء والعارفين بعض معلوماته مما فيه معجزة أو كرامة، قال تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} الآية: 27 من سورة الجن، قال الغزالي رحمه اللّه: إن اللّه عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء وليس شيء من العلى إلى الثرى إلا وقد أحاط به علمه لأن الأشياء بعلمه ظهرت وبقدرته انتشرت.

.مطلب: عظمة العرش والكرسي وأفضل آية في القرآن والأحاديث الواردة في ذلك والإكراه في الدين:

قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} الكرسي هو ما يجلس عليه وسط العرش وهما أي الكرسي وللعرش اسمان للسرير لا يعرف كيفيتهما وعظمتهما إلا هو فكما أنه جل علاه لا مثل له فلا مثل لكرسيه وعرشه، ويدلك على عظمتهما ما أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن السموات السبع والأرضين السبع لو بسطن ثمّ وصلن بعض ما كن في سعته أي الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر أنه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الكرسي فقال: يا أبا ذر ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة.
وفي رواية الدار قطني والخطيب عن ابن عباس قال: سئل النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} قال كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره: {وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما} لا يثقل عليه ولا يشق ولا يجهده حفظ السموات والأرض وما فيهما وبينهما: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} الرفيع الذي لا يدانيه أحد ولا يقرب من رفعته شيء: {الْعَظِيمُ} [255] الذي دل لهيبته كل عظيم وخضع لعظمته كل كبير، وقد أتت جمل هذه الآية بلا عطف لأنها على سبيل البيان كما ترى، وقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة نذكر منها ما رواه مسلم عن أبي بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب اللّه معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلخ، فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة القرآن آية الكرسي.
وأخرج أبو داود عن وائلة بن الأصقع أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلخ.
وذلك لجمعها بين أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقيّومية والملك والقدرة والإرادة، لأن اللّه تعالى أعظم مذكور في القرآن فما كان ذكرا له توحيد وتمجيد كان أعظم الأذكار، فطهر لك من هذا أن هذه أعظم آيات القرآن.
وأما أجمع آية فيه فهي الآية 90 من سورة النحل، وأرجى آية فيه الآية 54 من سورة الزمر.
واعلم أن هذه الآية توجب على العباد الإخلاص في العمل للّه تعالى وحده وعدم الاعتماد على غيره لأن الشفاعة وإن كانت مرجوّة من الرسول ومن يؤهله اللّه لها فلا تكون إلا بإذنه كما علمت ولابد أن تكون مصحوبة بالأعمال الصالحة لأن الذين يخلطون بأعمالهم الصالحة عملا سيئا يرجى لهم، مع العلم بأن اللّه تعالى لا قيد عليه في شفاعة ولا غيرها قد يغفر لمن يشاء مع كثرة ذنوبه، ويعذب من يشاء مع كثرة حسناته لا يسأل عما يفعل.
قال تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} والحق من الباطل والهدى من الضلال والإيمان من الكفر، فيقال لمن أصاب ووفق رشد وفاز، ولمن خاب وخسر ضل وغوى، قال الشاعر:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لم يعدم على الغي لائما

تصرح هذه الآية الجليلة بأن اللّه تعالى لم يجر أمر الإيمان على الإجبار بل على الاختيار إذ من حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل يختار الخير لنفسه بلا تردد أو تلعثم، قال تعالى: {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} الآية: 30: من سورة الكهف، إذ ترك فيها الخيار لخلقه بعد أن دلهم على الأحسن وأرسل إليهم من يرشدهم للأصلح، قال تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} الآية: 100: من سورة يونس، فقد أشار في هذه الآية إلى رسله أن لا يقسروا أممهم على الإيمان وإنما عليهم أن يبينوا لهم طريقه ومنافعه في الدنيا والآخرة ويتركوهم وشأنهم إذ ليس عليهم إلا الإنذار كما نص عليه في آيات كثيرة من القرآن العظيم، وهذه الآية نزلت في المجوس وأهل الكتاب إذ تقبل منهم الجزية ولا يكرهون على الإسلام بخلاف مشركي العرب إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام، قال تعالى: {تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} الآية: 17: من سورة الفتح الآتية، وأو فيها بمعنى إلا، كما سيأتي في تفسيرها لأن المشركين لا دين لهم ولا يجوز أن يتركوا همجا هملا وهم من البشر وقد أعطاهم اللّه تعالى العقل ومن حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإلزام بل هو نفسه بمقتضى عقله يختار الدين الحق لوضوح الحجة فيه، وبما أن أهل الكتاب يزعمون أن دينهم الحق ولم يوصلهم عقلهم إلى غيره فيتركون وشأنهم، قال تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} الآية: 39: من سورة فاطر، وهذه الآية محكمة غير منسوخة لأنها جارية مجرى الأخبار وهي لا يدخلها النسخ.
قال ابن عباس: كانت الجاهلية إذا كانت امرأتهم لا يعيش لها ولد تنذر إذا عاش لتهودنه أو تنصرنه وجاء الإسلام وفيهم من هؤلاء فلما جلت بنو النضير أرادت الأنصار استرداد أبنائهم الذين من هذا القبيل فأبوا، قال لما نزلت هذه الآية قال صلّى اللّه عليه وسلم خيّروهم فإن اختاروكم فهم لكم وإلا فاجلوهم معهم، وقال ابن عباس إن هذه الآية نزلت في هؤلاء فعلى فرض صحة قوله هذا فلا تكون أيضا منسوخة.
على أن الواقع ينفي صحة نزولها فيهم لأن حادثة بني النضير كانت بعد نزول هذه الآية بكثير لكونها في السنة الرابعة من الهجرة، وما قيل إنها نزلت في ولدي الحصين المتنصرين قبل بعثة الرسول حينما كلفهما أبوهما بالإسلام، وقال يا رسول اللّه أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر، على فرض صحته أيضا لا تكون منسوخة لأن هؤلاء كلهم يعدون أهل الكتاب، فلا وجه لقول من قال بالنسخ البتة.
قال زيد بن أسلم كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا على الدين، وكذلك في المدينة لم يكره أحدا من أهل الكتابين على الإسلام وإنما أكره عليه مشركي العرب ولم يقبل منهم إلا السيف أو الإيمان: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} مبالغة الطغيان وهو كل ما يطغي الإنسان من شيطان وإنسان كالسحرة والكهنة وغيرهم وكل ما عبد من دون اللّه: {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى} تأنيث الأوثق أي السبب الموصل إلى دين الإسلام المفضي إلى جنة اللّه فمن كان متمسكا بها فقد صح إيمانه واعتصم به وأوفى بالعهد الذي أخذه عليه في عالم الذر: {لَا انْفِصامَ لَها} ولا انقطاع لأنه عقد نفسه مع ربه عقدا وثيقا لا تحله الشبهة، وهذا تمثيل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه: {وَاللَّهُ سَمِيع} لإيمان المؤمن وكفر الكافر: {عَلِيم} [256] بنيتهما فيعلم الإيمان عن رغبة أو إكراه، ومن هو منافق في إيمانه أو مخلص فيه، كما يعلم المكره على الكفر من الراغب فيه.
وهذه الآية ترشد إلى أن الإيمان لا يقبل إلا عن رغبة فيه وقناعة في صحته وأخيريته، لأن المكره على الإيمان لا يعمل بما يقتضيه له من الأعمال.
والحكم الشرعي هو هذا.
وما روي عن ابن مسعود أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ} الآية: 75: من سورة التوبة والآية 10 من سورة التحريم الآتيتين لا محل له لأن الدين عقيدة ذاتية عريقة في نفس الإنسان لا سلطان لأحد عليهما غير اللّه تعالى القائل: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} ولأن من آمن بلسانه قبل منه وعومل معاملة المسلمين ودفن في مقابرهم وقد كف الشرع عما في القلب لعدم الاطلاع عليه إلا من قبل اللّه.
قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} يتولى أمورهم ولا يكلهم إلى غيره ومن عنايته بهم أنه: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} أفرد لفظ النور لوحدة الحق وجمع الظلمات لتنوع فنون الباطل.
وأعلم أن كل ما في القرآن من لفظ الظلمات من هذا القبيل يراد به الكفر ومن لفظ النور يراد به الإيمان، إلا في سورة الأنعام فإن المراد بهما اللّيل والنّهار كما بيناه، وسمي الكفر ظلمة لأنه يحجب القلب عن إدراك الحقيقة والإيمان نورا لوضوح طريقه وبيان أدلته: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} إذ فوضوا أمورهم إليها واتكلوا عليها وتمادوا في طاعة أوثانهم ورؤسائهم الذين يميلون بهم إلى البغي والطغيان، وكل ما يؤدي إلى الشقاء الأخروي يسمى طاغوت وهؤلاء الأولياء: {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ} الإيمان المؤدي إلى الجنة في الآخرة ويردونهم: {إِلَى الظُّلُماتِ} الكفر الموصل إلى النار بسبب ما يسولونه لهم من طرق الإغواء والإغراء والصد عن طريق الهدى والرشد: {أُولئِكَ} الكافرون وأولياؤهم: {أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [257] إلى ما لا نهاية عقوبة لهم على كفرهم.