فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن المنذر: وهذا هو الصحيح؛ لدخول جميع أُمهات النساء في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}.
ويؤيد هذا القول من جهة الإعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدًا؛ فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون الظريفات نعتًا لنسائك ونساء زيد؛ فكذلك الآية لا يجوز أن يكون {اللاَّتِي} من نعتهما جميعًا؛ لأن الخبرين مختلفان، ولكنه يجوز على معنى أعني.
وأنشد الخليل وسيبويه:
إنّ بِها أكْتَلَ أو رِزامَا ** خُوَيْرَبَيْنِ يَنْقُفَانِ الْهَامَا

خُوَيْرَبَيْن يعني لِصَّين، بمعنى أعني.
وينقفان: يكسِران؛ نقفت رأسه كسرته.
وقد جاء صريحًا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوّج أُمّها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوّج الأُم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوّج البنت». أخرجه في الصحيحين.
وإذا تقرّر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان، والأعيان ليست موردًا للتحليل والتحريم ولا مصدرًا، وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلَّفين من حركة وسكون؛ لكن الأعيان لما كانت موردًا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعُلِّق بها مجازًا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحِلّ به. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال: لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان، وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال، وذلك الفعل غير مذكور في الآية، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات، أولى من بعض، فصارت الآية مجملة من هذا الوجه.
والجواب عنه من وجهين:
الأول: أن تقديم قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} [النساء: 22] يدل على أن المراد من قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} تحريم نكاحهن.
الثاني: أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن المراد منه تحريم نكاحهن، والأصل فيه أن الحرمة والإباحة إذا أضيفتا إلى الأعيان، فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف، فإذا قيل: حرمت عليكم الميتة والدم، فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما، وإذا قيل: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن، ولما قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا لاحدى معان ثلاث» فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه.
وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية، فكانت في غاية الركاكة، والله أعلم.
بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى:
أحدها: أن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} مذكور على ما لم يسم فاعله، فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر، ولا سبيل إليه إلا بالاجماع، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا، بل لابد معها من الإجماع على هذه المقدمة، وثانيها: أن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد، فإن القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه إلى المؤبد، والى المؤقت، كأنه تعالى تارة قال: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى الوقت الفلاني فقط، وأخرى: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا، وإذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين، لم يكن نصا في التأييد، فاذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية، بل من دلالة منفصلة، وثالثها: أن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين، فاثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل، ورابعها: أن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل، وخامسها: أن ظاهر قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم، ومعلوم أنه ليس كذلك، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة، وبنته خاصة، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر، وسادسها: أن قوله: {حرمات} يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله: {حرمات} تحريمًا لما هو في نفسه حرام، فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال، فثبت أن المراد من قوله: {حرمات} ليس تجديد التحريم حتى يلزم الإشكال المذكور، بل المراد الاخبار عن حصول التحريم، فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أُمَّهَاتُكُمْ} تحريم الأُمهات عامّ في كل حال لا يتخصص بوجهٍ من الوجوه؛ ولهذا يسميه أهل العلم المبهم، أي لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته، وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرّمات.
والأمهات جمع أُمّهَة؛ يُقال: أُمّ وأمّهة بمعنى واحد، وجاء القرآن بهما.
وقد تقدّم في الفاتحة بيانه.
وقيل: إن أصل أم أمّهة على وزن فُعَّلَة مثل قُبَّرَة وحُمَّرة لطيْرَيْن، فسقطت وعادت في الجمع.
قال الشاعر:
أمّهتِي خِنْدِفُ والدَّوْسُ أبي

وقيل: أصل الأْمّ أُمَّةٌ، وأنشدوا:
تَقَبّلتَها عن أُمّةٍ لك طالما ** تَثُوبُ إليها في النوائب أجمعا

ويكون جمعها أُمّات.
قال الراعي:
كانت نَجائِبُ مُنْذِرٍ وَمُحَرِّقٍ ** أُمّاتِهِنّ وَطَرْقُهُنّ فَحِيلاَ

فالأم اسم لكل أنثى لها عليك ولادة؛ فيدخل في ذلك الأمّ دِنْيَةً، وأُمهاتها وجدّاتها وأُمُّ الأب وجدّاته وإن عَلَوْنَ.
والبنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، وإن شئت قلت: كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات؛ فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نَزَلْن.
والأخت اسم لكل أُنثى جاورتك في أصليْك أو في أحدهما.
والبنات جمع بنت، والأصل بَنَيَةٌ، والمستعمل ابنة وبِنْت.
قال الفرّاء: كُسِرت الباء من بنت لتدل الكسرة على الياء، وضُمّت الألف من أُخت لتدل على حذف الواو، فإن أصل أُخت أَخَوَة، والجمع أخَوَات.
والعمّة اسم لكل أُنثى شاركت أباك أو جدّك في أصليه أو في أحدهما.
وإن شئت قلت: كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك.
وقد تكون العمة من جهة الأُم، وهي أخت أب أُمك.
والخالة اسم لكل أُنثى شاركت أُمّك في أصليها أو في أحدهما.
وإن شئت قلت: كل أُنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأُختها خالتك.
وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أُخت أُمِّ أبيك.
وبنت الأخ اسم لكل أُنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة؛ وكذلك بنت الأُخت.
فهذه السبع المحرّمات من النسب.
وقرأ نافِعٌ في رواية أبي بكر بن أُبي أُوَيْس بتشديد الخاء من الأخ إذا كانت فيه الألف واللام مع نقل الحركة. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الإلهية، بل إن زرداشت رسول المجوس قال بحله، إلا أن أكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا.
أما نكاح الأخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمن آدم عليه السلام، وإنما حكم الله بإباحة ذلك على سبيل الضرورة، ورأيت بعض المشايخ أنكر ذلك، وقال: إنه تعالى كان يبعث الحواري من الجنة ليزوج بهن أبناء آدم عليه السلام وهذا بعيد، لأنه إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من أهل الجنة، فحينئذ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط، وذلك بالإجماع باطل.
وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم: أن الوطء إذلال وإهانة، فإن الإنسان يستحي من ذكره ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره، وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الإنعام، فوجب صونها عن هذا الاذلال، والبنت بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه، قال عليه الصلاة والسلام: «فاطمة بضعة مني» فيجب صونها عن هذا الاذلال، لأن المباشرة معها تجري مجرى الاذلال، وكذا القول في البقية والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو بدرجات، بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك.
ثم هاهنا بحث وهو أن لفظ الأم لا شك أنه حقيقة في الأم الأصلية، فأما في الجدات فامإ أن يكون حقيقة أو مجازا، فإن كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات، فإما أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا، فإن كان لفظا متواطئا أعني أن يكون لفظ الأم موضوعا بازاء قدر مشترك بين الأم الأصلية وبين سائر الجدات فعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} نصا في تحريم الأم الأصلية وفي تحريم جميع الجدات، وأما إن كان لفظ الام مشتركا في الأم الأصلية وفي الجدات، فهذا يتفرع على أن اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا؟ فمن جوزه حمل اللفظ هاهنا على الكل، وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصا عليه، ومن قال: لا يجوز، فالقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الموضع: أحدهما: أن لفظ الأم لا شك أنه أريد به هاهنا الأم الأصلية، فتحريم نكاحها مستفاد من هذا الوجه، وأما تحريم نكاح الجدات فغير مستفاد من هذا النص، بل من الاجماع.
والثاني: أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين، يريد في كل مرة مفهوما آخر، أما إذا قلنا: لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية مجاز في الجدات، فقد ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته ومجازه معا، وحينئذ يرجع الطريقان اللذان ذكرناهما فيما إذا كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية، وفي الجدات. اهـ.
قال الفخر:
قال الشافعي رحمه الله: إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد، وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يلزمه.
حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة، فكان هذا الوطء زنا محضا فيلزمه الحد لقوله تعالى: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] إنما قلنا: إن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لأنه تعالى قال: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} وقد علم بالضرورة من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن مراد الله تعالى من هذه الآية: تحريم نكاحها وإذا ثبت هذا فنقول: الموجود ليس إلا صيغة الايجاب والقبول، فلو حصل هذا الانعقاد، فإما أن يقال: إنه حصل في الحقيقة أو في حكم الشرع والأول باطل، لأن صيغة الايجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى، والقبول لا يوجد إلا بعد الايجاب، وحصول الانعقاد بين الموجود والمعدوم محال.