فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومنها قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}، فالاستثناء لا يرجع لقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف.
ومنها أيضا قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}، فالاستثناء في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} لا يرجع قولا واحدا إلى الجملة الأخيرة التي أقرب الجمل إليه أعني قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}، إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ}، والمعنى فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذه الآية نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة ابن عامر.
وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها.
ومنها أيضا قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا}، فالاستثناء ليس راجعا للجملة الأخيرة التي يليها أعني: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ}، لأنه لولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان كلا ولم ينجح من ذلك قليل ولا كثير حتى يخرج بالاستثناء.
واختلف العلماء في مرجع هذا الاستثناء؛ فقيل: راجع لقوله: {أَذَاعُوا بِهِ}.
وقيل: راجع لقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، وإذا لم يرجع للجملة التي يليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها.
وقيل: إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها وعليه فالمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم لاتبعتم الشيطان في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأوثان إلا قليلا كمن كان على ملة إبراهيم كورقة بن نوفل وقس بن ساعدة وأضرابهم وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله: {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا}، أن معناه: لاتبعتم الشيطان كلا، قال: والعرب تطلق القلة وتريد بها العدم، واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب:
أشم ندى كثير النوادي ** قليل المثالب والقادحة

يعني لا مثلبة ولا قادحة.
قال مقيده عفا الله عنه: إطلاق القلة وإرادة العدم كثير في كلام العرب ومنه قول الشاعر:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ** قليل بها الأصوات إلا بغامها

يعني أنه لا صوت في تلك الفلاة غير بغام راحلته.
وقول الآخر:
فما بأس لو ردت علينا تحية ** قليلا لدى من يعرف الحق عابها

يعني لا عاب فيها عند من يعرف الحق.
وعلى هذين القولين الأخيرين فلا شاهد في الآية وبهذا التحقيق الذي حررنا يرد استدلال داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة أيضا والعلم عند الله. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} إلى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}.
مضى الشوط الأول من السورة يعالج تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بإقامة الضمانات لليتامى وأموالهم وأنفسهم في محيط الأسرة وفي محيط الجماعة يعالج نظام التوارث في المحيط العائلي ويرد تلك الضمانات وهذا النظام إلى مصدرهما الأساسي: وهو ألوهية الله للبشر وربوبيته للناس وإرادته من خلقهم جميعًا من نفس واحدة وإقامة المجتمع الإنساني على قاعدة الأسرة وعلى أساس التكافل. وردهم في كل شؤون حياتهم إلى حدود الله وعلمه وحكمته ومجازاتهم على أساس طاعته في هذا كله أو معصيته.
فأما هذا الشوط الثاني فيمضي في تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بتطهير هذا المجتمع من الفاحشة وعزل العناصر الملوثة التي تقارفها من الرجال والنساء مع فتح باب التوبة لمن يشاء من هذه العناصر أن يتوب ويتطهر ويرجع إلى المجتمع نظيفًا عفيفًا.. ثم باستنقاذ المرأة مما كانت ترزح تحته في الجاهلية من خسف وهوان ومن عسف وظلم حتى تقوم الأسرة على أساس سليم ركين ومن ثم يقوم المجتمع- وقاعدته الأسرة- على أرض صلبة وفي جو نظيف عفيف.. وأخيرًا ينظم جانبًا من حياة الأسرة ببيان المحرمات في الشريعة الإسلامية وبيان ما وراءهن من الحلال.
وبهذا البيان ينتهي هذا الشوط وينتهي هذا الجزء كذلك.
{واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم. فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلًا. واللذان يأتيانها منكم فآذوهما. فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما. إن الله كان توابًا رحيمًا}..
إن الإسلام يمضي هنا على طريقه في تطهير المجتمع وتنظيفه؛ وقد اختار- في أول الأمر- عزل الفاحشات من النسوة، وإبعادهن عن المجتمع متى ثبت عليهن ارتكاب الفاحشة. وإيذاء الرجال الذين يأتون الفاحشة الشاذة ويعملون عمل قوم لوط. ولم يحدد نوع الإيذاء ومداه. ثم اختار- فيما بعد- عقاب هؤلاء النسوة وعقاب الرجال أيضًا عقوبة واحدة هي حد الزنا كما ورد في آية سورة النور وهي الجلد؛ وكما جاءت بها السنة أيضًا وهي الرجم. والهدف الأخير من هذه أو تلك هو صيانة المجتمع من التلوث والمحافظة عليه نظيفًا عفيفًا شريفًا.
وفي كل حالة وفي كل عقوبة يوفر التشريع الإسلامي الضمانات التي يتعذر معها الظلم والخطأ والأخذ بالظن والشبهة؛ في عقوبات خطيرة تؤثر في حياة الناس تأثيرًا خطيرًا.
{واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم. فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلًا}..
وفي النص دقة واحتياط بالغان. فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد: {من نسائكم}- أي المسلمات- ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل: {من رجالكم}- أي المسلمين- فحسب هذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل.
ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه.
إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات- حين يقعن في الخطيئة- رجالًا غير مسلمين. بل لابد من أربعة رجال مسلمين. منكم. من هذا المجتمع المسلم. يعيشون فيه ويخضعون لشريعته ويتبعون قيادته ويهمهم أمره ويعرفون ما فيه ومن فيه. ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم لأنه غير مأمون على عرض المسلمة وغير موثوق بأمانته وتقواه ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته ولا على إجراء العدالة فيه. وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم وأصبح هو الجلد أو الرجم..
{فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت}..
لا يختلطن بالمجتمع ولا يلوثنه ولا يتزوجن ولا يزاولن نشاطًا..
{حتى يتوفاهن الموت}..
فينتهي أجلهن وهن على هذه الحال من الإمساك في البيوت.
{أو يجعل الله لهن سبيلًا}..
فيغير ما بهن أو يغير عقوبتهن أو يتصرف في أمرهن بما يشاء.. مما يشعر أن هذا ليس الحكم النهائي الدائم وإنما هو حكم فترة معينة وملابسات في المجتمع خاصة. وأنه يتوقع صدور حكم آخر ثابت دائم. وهذا هو الذي وقع بعد ذلك فتغير الحكم كما ورد في سورة النور وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم تتغير الضمانات المشددة في تحقيق الجريمة.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت. قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب لذلك وتغير وجهه. فأنزل الله عليه عز وجل ذات يوم فلما سري عنه قال: «خذوا عني.. قد جعل الله لهن سبيلًا.. الثيب بالثيب والبكر بالبكر. الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة. والبكر جلد مائة ثم نفي سنة». وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطان عن عبادة بن الصامت. عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: «خذوا عني. خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة». وقد ورد عن السنة العملية في حادث ماعز والغامدية كما ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمهما ولم يجلدهما. وكذلك في حادث اليهودي واليهودية اللذين حكم في قضيتهما فقضى برجمهما ولم يجلدهما.. فدلت سنته العملية على أن هذا هو الحكم الأخير: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما. فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابًا رحيمًا}.
والأوضح أن المقصود بقوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم...} هما الرجلان يأتيان الفاحشة الشاذة. وهو قول مجاهد- رضي الله عنه- وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما: {فآذوهما}: هو الشتم والتعيير والضرب بالنعال!
{فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما}..
فالتوبة والإصلاح- كما سيأتي- تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك. ومن ثم تقف العقوبة وتكف الجماعة عن إيذاء هذين المنحرفين الشاذين. وهذا هو الإعراض عنهما في هذا الموضع: أي الكف عن الإيذاء.
والإيماءة اللطيفة العميقة: {إن الله كان توابًا رحيمًا}..
وهو الذي شرع العقوبة وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح. ليس للناس من الأمر شيء في الأولى وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة. إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه. وهو تواب رحيم. يقبل التوبة ويرحم التائبين.
واللمسة الثانية في هذه الإيماءة هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق. وإذا كان الله توابًا رحيمًا فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء؛ أمام الذنب الذي سلف وأعقبه التوبة والإصلاح. إنه ليس تسامحًا في الجريمة وليس رحمة بالفاحشين. فهنا لا تسامح ولا رحمة. ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين وقبولهم في المجتمع وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه وتطهروا منه وأصلحوا حالهم بعده فينبغي- حينئذ- مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها؛ مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس واللجاج في الخطيئة وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة. والإفساد في الأرض وتلويث المجتمع والنقمة عليه في ذات الأوان.