فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وحلائل أَبْنَائِكُمُ} أي زوجاتهم جمع حليلة سميت الزوجة بذلك لأنها تحل مع زوجها في فراش واحد، أو لأنها تحل معه حيث كان فهي فعلية بمعنى فاعلة، وكذا يقال للزوج حليل.
وقيل: اشتقاقهما من الحل لحل كل منهما إزار صاحبه، وقيل: من الحل إذ كل منهما حلال لصاحبه ففعيل بمعنى مفعول، والتاء في حليلة لإجرائها مجرى الجوامد ولو جعل فعيل في جانب الزوج بمعنى فاعل، وفي جانب الزوجة بمعنى مفعول كان فيه نوع لطافة لا تخفى، والآية ظاهرة في تحريم الزوجة فقط، وأما حرمة من وطئها الإبن ممن ليس بزوجة فبدليل آخر، وقال ابن الهمام: إن اعتبر الحليلة من حلول الفراش أو حل الإزار تناولت الموطوأة بملك اليمين أو شبهة أو زنا فيحرم الكل على الآباء وهو الحكم الثابت عندنا.
ولا يتناول المعقود عليها للابن أو بنيه وإن سفلوا قبل الوطء والفرض أنها بمجرد العقد تحرم على الآباء وذلك باعتباره من الحل بالكسر، وقد قام الدليل على حرمة المزني بها للابن على الأب فيجب اعتباره في أعم من الحل والحل، ثم يراد بالأبناء الفروع فتحرم حليلة الابن السافل على الجد الأعلى (من النسب) وكذا ابن البنت وإن سفل، والظاهر من كلام اللغويين أن الحليلة الزوجة كما أشرنا إليه، واختار بعضهم إرادة المعنى الأعم الشامل لملك اليمين ليكون السر في التعبير بها هنا دون الأزواج أو النساء أن الرجل ربما يظن أن مملوكة ابنه مملوكة له بناءًا على أن الولد وماله لأبيه فلا يبالي بوطئها وإن وطئها الإبن فنبهوا على تحريمها بعنوان صادق عليها وعلى الزوجة صدق العام على أفراده للإشارة إلى أنه لا فرق بينهما فتدبر، وحكم الممسوسات ونحوهن حكم اللاتي وطئهن الأبناء.
{الذين مِنْ أصلابكم} صفة للأبناء، وذكر لإسقاط حليلة المتبنى، وعن عطاء أنها نزلت حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه فقال المشركون في ذلك، وليس المقصود من ذلك إسقاط حليلة الابن من الرضاع فإنها حرام أيضًا كحليلة الإبن من النسب.
وذكر بعضهم فيه خلافًا للشافعي رضي الله تعالى عنه والمشهور عنه الوفاق في ذلك.
{وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين} في حيز الرفع عطف على ما قبله من المحرمات، والمراد جمعهما في النكاح لا في ملك اليمين، ولا فرق بين كونهما أختين من النسب أو الرضاعة حتى قالوا: لو كان له زوجتان رضيعتان أرضعتهما أجنبية فسد نكاحهما.
وحكي عن الشافعي أنه يفسد نكاح الثانية فقط ولا يحرم الجمع بين الأختين في ملك اليمين، نعم جمعهما في الوطء بملك اليمين ملحق به بطريق الدلالة لاتحادهما في المدار فيحرم عند الجمهور، وعليه ابن مسعود.
وابن عمر، وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم.
واختلفت الرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه، فأخرج البيهقي وابن أبي شيبة عنه أنه سئل عن رجل له أمتان أختان وطئ إحداهما ثم أراد أن يطأ الأخرى قال: لا حتى يخرجها من ملكه، وأخرجا من طريق أبي صالح عنه أنه قال في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهى ولا أحلل ولا أحرم ولا أفعله أنا ولا أهل بيتي، وروى عبد بن حميد عن ابن عباس أن الجمع مما لا بأس به، وحكي مثله عن عثمان رضي الله تعالى عنه، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما أحب أن أجيز الجمع ونهى السائل عنه، وزعم بعضهم أن الظاهر أن القائل بالحل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم رجع إلى قول الجمهور، وإن قلنا بعدم الرجوع فالإجمال اللاحق يرفع الخلاف السابق، وإنما يتم إذا لم يعتد بخلاف أهل الظاهر وبتقدير عدمه فالمرجح التحريم عند المعارضة، وإذا تزوج أخت أمته الموطوأة صح النكاح وحرم وطء واحدة منهما حتى يحرم الموطوأة على نفسه بسبب من الأسباب فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمع كالبيع كلًا أو بعضًا (والمتزوج) الصحيح والهبة مع التسليم والإعتاق كلًا أو بعضًا والكتابة ولو تزوج الأخت نكاحًا فاسدًا لم تحرم عليه أمته الموطوأة إلا إذا دخل بالمنكوحة فحينئذ تحرم الموطوأة لوجود الجمع بينهما حقيقة، ولا يؤثر الإحرام والحيض والنفاس والصوم وكذا الرهن والإجارة والتدبير لأن فرجها لا يحرم بهذه الأسباب، وإذا عادت الموطوأة إلى ملكه بعد الإخراج سواء كان بفسخ أو شراء جديد لم يحل وطء واحدة منهما حتى يحرم الأمة على نفسه بسبب كما كان أولا، وظاهر قولهم: لا يحل الوطء حتى يحرم أن النكاح صحيح، وقد نصوا على ذلك وعللوه بصدوره عن أهله مضافًا إلى محله، وأورد عليه أن المنكوحة موطوأة حكمًا باعترافهم فيصير بالنكاح جامعًا وطءًا حكمًا وهو باطل، ومن هنا ذهب بعض المالكية إلى عدم الصحة، وأجيب بأن لزوم الجمع بينهما وطءًا حكما ليس بلازم لأن بيده إزالته فلا يضر بالصحة ويمنع من الوطء بعدها لقيامه إذ ذاك وإسناد الحرمة إلى الجمع لا إلى الثانية بأن يقال: وأخوات نسائكم للاحتراز عن إفادة الحرمة المؤبدة كما في المحرمات السابقة، ولكونه بمعزل عن إفادة حرمة الجمع على سبيل المعية، ويشترك في هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ونظائر ذلك فإن مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه خلافًا لما في المبسوط إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصله كما يدل عليه ما أخرجه الطبراني من قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» وما رواه أبو داود في مراسيله عن عيسى بن طلحة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة وذلك متحقق في الجمع بين من ذكرنا بل أولى فإن العمة والخالة بمنزلة الأم فقوله صلى الله عليه وسلم مبالغًا في بيان التحريم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أختها ولا على ابنة أخيها» من قبيل بيان التفسير لا بيان التعبير عند بعض المحققين.
وقال آخرون: إن الحديث مشهور فقد ثبت في صحيحي مسلم وابن حبان، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، وتلقاه الصدر الأول بالقبول من الصحابة.
والتابعين، ورواه الجم الغفير منهم أبو هريرة وجابر وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو سعيد الخدري، فيجوز تخصيص عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ لكَمْ مَا وراء ذلكم} [النساء: 24] بل لو كان من أخبار الآحاد جاز التخصيص به غير متوقف على كونه مشهورًا، وقال ابن الهمام: الظاهر أنه لابد من ادعاء الشهرة لأن الحديث موقعه النسخ لا التخصيص، وبينه في فتح القدير فارجع إليه.
{إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناء منقطع.
وقصد المبالغة والتأكيد هنا غير مناسب للتذييل بقوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} لأن الغفران والرحمة لا يناسب تأكيد التحريم.
والمراد مما سلف ما مضى قبل النهي فإنهم كانوا يجمعون به الأختين، أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه عن فيرز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «طلق أيتهما شئت»، وقال عطاء والسدي: معناه إلا ما كان من يعقوب عليه السلام إذ جمع بين الأختين، لي أم يهودا وراحيل أم يوسف عليه السلام، ولا يساعده التذييل لما أن ما فعله يعقوب عليه السلام إن صح كان حلالًا في شريعته.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله تعالى إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، وروي مثله عن محمد بن الحسن وأنه قال: ألا يرى أنه قد عقب النهي عن كل منهما بقوله سبحانه: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وهذا كما قال شيخ الإسلام يشير إلى كون الاستثناء فيهما على سنن واحد ويأباه اختلاف ما بعدهما. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}.
تخلّص إلى ذكر المحرّمات بمناسبة ذكر تحريم نكاح ما نكح الآباء وغُيِّر أسلوب النهي فيه لأنّ (لا تفعل) نهي عن المضارع الدالّ على زمن الحال فيؤذن بالتلبّس بالمنهي، أو إمكان التلبّس به، بخلاف {حرمت} فيدلّ على أنّ تحريمه أمر مقرّر، ولذلك قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرّم الإسلام إلا امرأة الأب والجمعَ بين الأختين فمن أجل هذا أيضًا نجد حكم الجمع بين الأختين عُبّر فيه بلفظ الفعل المضارع فقيل: {وأن تجمعوا بين الأختين}.
وتعلُّقُ التحريم بأسماء الذوات يُحمل على تحريم ما يُقصد من تلك الذات غالبًا فنحو {حرمت عليكم الميتة} إلخ معناه حُرّم أكلها، ونحو: حرّم الله الخمر، أي شربها، وفي {حرمت عليكم أمهاتكم} معناه تزوجهنّ.
والأمّهات جمع أُمَّةٍ أو أُمَّهةٍ، والعرب أماتوا أمَّهة وأمَّه وأبقوا جمعه، كما أبْقوا أُمّ وأماتوا جمعه، فلم يسم منهم الأمَّا، وورد أُمَّة نادرًا في قول قول شاعر أنشده ابن كيسان:
تقبلتَها عن أمَّةٍ لكَ طَالما ** تُنوزعَ في الأسواق منها خمارُها

وورد أمهة نادرًا في بيت يُعزى إلى قصي بن كلاب:
عند تناديهم بهَالٍ وهَبي ** أمَّهَتي خِندفُ وإليَاسُ أبي

وجاء في الجمع أمَّهات بكثرة، وجاء أمَّات قليلًا في قول جرير:
لقد ولدَ الأخيطلَ أمُّ سوء ** مقلَّدة من الأمَّات عارا

وقيل: إنّ أمَّات خاصّ بما لا يعقل، قال الراعي:
كانت نَجَائبُ مُنْذِر ومُحَرّق ** أمَّاتهنّ وطرقُهُنّ فَحيلا

فيحتمل أنّ أصل أم أمَّا أو أمَّها فوقع فيه الحذف ثمّ أرجعوها في الجمع.
ومن غريب الاتّفاق أنّ أسماء أعضاء العائلة لم تجر على قياس مثل أب، إذ كان على حرفين، وأخ، وابن، وابنة، وأحسب أنّ ذلك من أثر أنّها من اللُّغة القديمة التي نطق بها البشر قبل تهذيب اللغة، ثمّ تطوّرت اللُّغةُ عليها وهي هي.
والمراد من الأمهات وما عطف عليها الدنيا وما فوقها، وهؤلاء المحرّمات من النسب، وقد أثبت الله تعالى تحريم مَنْ ذكَرَهنّ، وقد كنّ محرّمات عند العرب في جاهليتها، تأكيدًا لذلك التحريم وتغليظًا له، إذ قد استقرّ ذلك في الناس من قبل، فقد قالوا ما كانت الأمّ حلالا لابنها قطّ من عهد آدم عليه السلام، وكانت الأخت التوأمة حرامًا وغيرُ التوامة حلالا، ثمّ حرّم الله الأخوات مطلقًا من عهد نوح عليه السلام، ثم حرّمت بنات الأخ، ويوجد تحريمهنّ في شريعة موسى عليه السلام، وبقي بنات الأخت حلالا في شريعة موسى، وثبت تحريمهنّ عند العرب في جاهليتها فيما روى ابن عطية في تفسيره، عن ابن عباس: أنّ المحرّمات المذكورات هنا كانت مُحرّمة في الجاهلية، إلاّ امرأة الأب، والجمعَ بين الأختين.
ومثله نقله القرطبي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة مع زيادة توجيه ذكر الاستثناء بقوله: {إلا ما قد سلف} في هذبن خاصة، وأحسب أن هذا كلّه توطئة لتأويل الاستثناء في قول: {إلا ما قد سلف} بأنّ معناه: إلاّ ما سلف منكم في الجاهلية فلا إثم عليكم فيه، كما سيأتي، وكيف يستقيم ذلك فقد ذكر فيهنّ تحريم الربائب والأخوات من الرضاعة، ولا أحسبهنّ كنّ محرّمات في الجاهلية.
واعلم أنّ شريعة الإسلام قد نوّهت ببيان القرابة القريبة، فغرست لها في النفوس وقارا ينزّه عن شوائب الاستعمال في اللَّهو والرفث، إذ الزواج، وإن كانّ غرضًا صالحًا باعتبار غايته، إلاّ أنّه لا يفارق الخاطرَ الأوّل الباعث عليه، وهو خاطر اللهو والتلذّذ.
فوقار الولادة، أصلا وفرعا، مانع من محاولة اللهو بالوالدة أو المولودة، ولذلك اتّفقت الشرائع على تحريمه، ثم تلاحق ذلك في بنات الإخوة وبنات الأخوات، وكيف يسري الوقار إلى فرع الأخوات ولا يثبت للأصل، وكذلك سرى وَقار الآباء إلى أخوات الآباء، وهنّ العمّات، ووقار الأمّهات إلى أخواتهنّ وهنّ الخالات، فمرجع تحريم هؤلاء المحرّمات إلى قاعدة المروءة التابعة لكليّة حفظ العِرض، من قسم المناسب الضروري، وذلك من أوائل مظاهر الرقي البشري.
و(ال) في قوله: {وبنات الأخ وبنات الأخت} عوض عن المضاف إليه أي بنات أخيكم وبنات أختكم.
وقوله: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} سمّى المراضع أمهّات جريا على لغة العرب، وما هنّ بأمّهات حقيقة.