فصل: مطلب: فائدة انظار المعسر وتحذير الموسر عن المماطلة بالأداء وأجر العافي عن الدين والتوبة عن الربا وآخر آية نزلت فيه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: فائدة انظار المعسر وتحذير الموسر عن المماطلة بالأداء وأجر العافي عن الدين والتوبة عن الربا وآخر آية نزلت فيه:

وهذه الآية وإن كانت في حق الربا فيدخل في عمومها كل دين مستحق عجز عجز المدين عن أدائه لما فيه من الأجر العظيم، لأن هذه الآية جاءت مستأنفة بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} إلخ إذ أثبت الفاعل ولم يضمره ليعود قطعا على المستدين ربا.
وكان في الآية تامة بمعنى وجد إذ لو كانت خاصة بدين الربا لقال وإن كان ذا عسرة إلخ ليعود ضمير الفاعل الذي هو اسم كان على المستدين بالربا، ولكانت ناقصة، روى مسلم عن أبي قتادة أنه طالب غريما له فتوارى عنه ثم وجده، فقال إني معسر، قال آللّه قال آللّه، قال فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من سره أن ينجيه اللّه من كروب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه.
وروى مسلم عن أبي اليسر قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من أنظر معسرا أو وضع عنه أظلّه اللّه في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من أخذ أموال النّاس يريد أداءها أدى اللّه عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه اللّه، وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال مطل الغني ظلم.
ورويا عنه أيضا أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال كان فيمن قبلكم تاجر يداين الناس، فإن رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل اللّه يتجاوز عنا، فتجاوز اللّه عنه.
وأخرج أبو داود عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال إن أعظم الذنوب عند اللّه أن يلقاه به عبد بعد الكبائر التي نهى اللّه عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء.
ورويا عن كعب بن مالك أنه تعاطى ابن أبي حدود دينا كان له في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى، فقال يا كعب قلت لبيك يا رسول اللّه، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، فقال كعب قد فعلت يا رسول اللّه، قال قم فاقضه.
ورويا عن أبي هريرة أنه كان لرجل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سنّ من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال أعطوه، فطلبوا سنا فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال أعطوه، فقال أوفيتني وفاك اللّه، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إن خيركم أحسنكم قضاء.
وفي رواية أنه أغلظ لرسول اللّه حتى همّ به بعض أصحابه، فقال دعوه فإن لصاحب الحق مقالا.
وأخرج النسائي عن محمد بن جحش قال كنا جلوسا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع يده على جبهته، ثم قال سبحان اللّه ماذا نزل من التشديد، فسكنا وفزعنا، فاما كان من الغد سألته يا رسول اللّه ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل اللّه ثم أحي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه.
ثم طفق جل جلاله يحتهم على ما هو خير لمن هو مستغن عن دينه بقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} بالفضل ورأس المال على المعسر: {فهو خَيْر لَكُمْ} عند اللّه من استيفائه من المعسر: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} ما أعد اللّه تعالى في الآخرة من الخير الجزيل لمن يفعل هذا فصلا عما يناله من الثناء الجميل في الدنيا من الناس والدعاء الكثير من المتصدق عليه.
واعلم أن آيات الربا هذه تثبت أن المرابين محكوم عليهم بالجنون مهما كانوا عليه من العقل لأنهم استحلوا ما حرم اللّه ولم يمتثلوا أمره بالكف عنه، ولأنهم آثروا البطالة على العمل واستعملوا ما أنعم اللّه به عليهم من المال لغير ما خلق له من طرق التجارة، وتومئ إلى أن الربا يوجب التقاطع والعداء بين الناس ويحملهم على التخاصم، ويولد القسوة في القلوب، وينزع منها الشفقة والرأفة، ويلقي بذور الحقد والحسد في نفوس الفقراء لما يروا من شدة الحرص والشح من الأغنياء، ويؤدي إلى ارتكاب الجرائم المخلة بالأمن، وقد يؤدي أيضا إلى الانتحار المنهي عنه في أصعب المواقف، وينذر بمحو ثروة المرابين وحرمانهم لذة الكسب الحلال ونزع صفات الحمد والشكر منهم، وإنزال نعوت الذم والقدح فيهم.
هذا ويشترط للتوبة عن الربا أربعة شروط: الإقلاع فورا، والندم على ما سلف، والعزم على عدم العودة إليه، ورد الفضل لأهله إذا كان بعد نزول النهي وبعد بلوغ الدعوة النبوية، فمن كان منه ذلك ونوى رد فضل الربا لأهله ثم عجز عنه أو تعذر عليه معرفة من أخذ منهم أو ورثتهم فاللّه تعالى أكرم بأن يعفو عنه ويرضي خصومه، أما الكافر إذا أسلم وكان يتعاطى الربا فلا يطالب بالردّ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله، كما لا يطالب بالزكاة على ما قبل الإسلام، هذا هو الحكم الشرعي فيه.
وإذا كان للمسلم حديثا ربا على الكفرة وكانوا محاربين جاز له استيفاؤه منهم، كما يجوز لغيره أخذ ما لهم بالربا والقمار والبيوع الفاسدة وشبهها.
واعلم أن اللّه تعالى ذكر في القرآن العظيم الربا في أربعة مواضع مرة في مكة وهو قوله تعالى: {وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} إلخ. [الروم: 79]، وثلاث مرات في المدينة في هذه الآيات المارات، وفي الآية 130 من آل عمران، وسنأتي على تمام البحث فيها إن شاء اللّه، والخمر كذلك نزلت فيه أربع آيات مرة في مكة وثلاث في المدينة.
قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} لأن العمل فيه جار على قانون العدل الحقيقي، وهذه الآية الجليلة نزلت بعد آية المائدة 4 التي نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع، وهي آخر آية نزلت في القرآن ووضعت في هذه السورة بمكانها هذا بإشارة من النبي صلّى اللّه عليه وسلم وإخبار من الأمين جبريل عليه السلام وعاش بعدها رسول اللّه واحدا وعشرين يوما، وما جاء من أن آخر آية نزلت هي آية الربا فيه تسامح، إذ المراد بها أنها من آخر ما نزل من العقود ويراد بهذه آخر ما نزل من آيات القرآن، أما آخر ما نزل من السور فهو سورة النصر متفق عليه.
ولهذا البحث صلة في الآية 3 من سورة المائدة الآتية، وعليه يكون انقطاع الوحي في 11 صفر سنة 11 من الهجرة، ومنهم من قال عاش بعدها تسع ليال، فيكون ختم الوحي 23 صفر سنة 11، ومنهم من قال سبع ليال، فيكون آخر الوحي في 25 صفر سنة 11، ومنهم من قال ثلاث ساعات، وسنوفي هذا البحث في الآية المذكورة آنفا من سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى.

.مطلب: في الكتابة والشهادة على الدين وتحذير الكاتب والشاهد من الإضرار بأحد المتعاقدين وحجر القاصر ومن هو بحكمه:

قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} بيعا كان أو قرضا أو سلفا وغيره، وهذا الأمر للندب، لأن اللّه تعالى يقول بعد: {الَّذِي اؤْتُمِنَ} وهذا الشرط صرفه عن الوجوب: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِب بِالْعَدْلِ} من غير زيادة ولا نقص ولا تقديم ولا تأخير، وفي هذا حفظ لحق الطرفين، فيأمن المدين من طلب زيادة أو تقديم في الأجل، ويأمن الدائن من جحود الدين وتذرعه بزيادة المبلغ وظن الدائن بنقصه، ومن نسيان شهادة الشهود: {وَلا يَأْبَ كاتِب أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ} وتفضل به عليه في معرفة الكتابة وليكتب كما شرعه اللّه وأمره به من عدم الزيادة والنقص، وهذا الأمر للندب أيضا والصارف له عن الوجوب قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ} إلخ، لأن الوجوب لا يقيد ولا يخصص ولا يعلق على شرط، ومتى وجد في الأمر أحد هذه انصرف من الوجوب إلى الندب، وهذه الآية على حد قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [18: من سورة القصص]، لأن من خصه اللّه تعالى بفضيلة علم أو مال أو جاه ينبغي أن ينفع بها عباده كما نفعه بها.
وبعد أن نهاه اللّه عن الإباء أمره بقوله: {فَلْيَكْتُبْ} هذا الكاتب الذي اختاره الطرفان وائتمنا به ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة، ويراعى حالة الطرفين ولا يخص أحدهما بالاحتياط ويهمل الآخر، بل يحافظ على حقهما معا، وعلى هذا الكاتب أن يجتنب الألفاظ التي لها معان تنصرف لضرر أحدهما والكلمات التي هي من الأضداد لئلا يقع النزاع من أجلها، لأن القصد من الكتابة رفع ما يتوقع من النزاع ودفع ما يتوهم من الخلاف وتأمين حق الطرفين، فكل كلمة يتوقع منها حصول شقاق بسبب تعدد معانيها يجب عليه اجتنابها.
وينبغي لمن يتصدى لهذه الكتابة أن يكون عالما باللغة التي يكتب بها عربية أو غيرها، وبالفقه وأصول المدانيات، والبيوع والسلم وغيرها، ليدمج الشروط المقتضية لكل منها فيما بكتبه: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} أي المدين، لأن الكتاب يلزمه وحده، فهو الذي يعترف فيه ويبين قدره ونوعه وجنسه وصفته وأجله، ورب الدين يسمع ذلك، فإذا اختلفا فعليه أن يتوقف عن تدوينه حتى يتم الوفاق بينهما عليه، وأن لا يكتب شيئا لم يتفقا عليه صراحة لا ضمنا وتلويحا ولا تعريضا ولا سكوتا، وأن يكون عن رضى منهما واختيار وإيجاب وقبول لا غضبا ولا إكراها ولا تلعثما: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} في كل ما يكتبه، وقد جمع جل شأنه بين اسمه ووصفه الجليلين في هذه الجملة مبالغة في الحث على التقوى.
وضمير الفاعل يعود إلى المملي أي يحذّره ربه من أن يزيد أو ينقص شيئا مما أراده الطرفان، وأكد هذا الأمر بقوله: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} أي من ذلك الحق الذي اتفق عليه الطرفان، بأن يكتبه حرفيا وانتهي عن البعض يشمل الكل: {فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} مبذرا لماله أو مجنونا أو معتوها أو جاهلا بالإملاء: {أَوْ ضَعِيفًا} طفلا صغيرا أو شيخا هرما: {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} بنفسه لمرض أو عمى أو كان محبوسا لا يمكنه الحضور أو غائبا يتعذر عليه المجيء أو لا يعرف ماله وما عليه، فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم، ولذلك قال تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} الأمين عليه والمحافظ لماله أو وكيله أو وصيه المختار أو المنصوب من قبل القاضي أو المترجم إذا كان يحسن اللغة أو أخرس إملاء ملابسا: {بِالْعَدْلِ} الواجب إجراؤه، أي الحق بين صاحب الحق والمولى عليه، فلا يزيد ولا ينقص، وعلى المترجم عن الذي لا يعرف اللغة وعن الأخرس أن يوقعا معهما: {وَاسْتَشْهِدُوا} أيها المتعاقدان على عقودكم كلها: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ} أيها المؤمنون لا من غيركم، وقد يجوز أيضا استشهاد الغير في بعض الحالات كما سيأتي في الآية 106 من سورة المائدة الآتية: {فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُل وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ} وتأمنون بهم على حقكم وتطمئنون بهما، والسبب في عدم كفاية المرأة الواحدة نقصان عقلها ودينها وكثرة نسيانها المنبئ عنه قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما} الشهادة وتنساها: {فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى} التي لم تنس بسبب التداول بينهما والمذاكرة فيها حتى يؤدياها معا لا على الانفراد ولا متعاقبتين: {وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا} لتحمل الشهادة أو لأدائها عند الحاكم وهي واجبة على النصاب إذا لم يكن لإثبات الحق نصاب غيره: {وَلا تَسْئَمُوا} أيها المتعاقدون من: {أَنْ تَكْتُبُوهُ} أي الدين قليلا: {صَغِيرًا} كان: {أَوْ كَبِيرًا} كثيرا: {إِلى أَجَلِهِ} أي لا تملّوا أو تضجروا من كتابته مهما كان فإنه يعود عليكم بالنفع، قال زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ** ثمانين حولا لا أبالك يسأم

أي يمل: {ذلِكُمْ} إثبات الدين بالكتابة والشهود: {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ} أعدل واثبت وأعون: {لِلشَّهادَةِ} لأن الشاهد إذا رأى خطه تذكر الحادثة وشهد بالحق عن يقين بلا تردد: {وَأَدْنى} أقرب إلى: {أَلَّا تَرْتابُوا} تشكوا بمقدار الدين والأجل وكيفية الشهادة بهما، وهذا واجب عليكم أو مندوب في كل العقود: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ} ولم يعين لعقدها أجل وهي بين أيديكم جميعا وتحت تصرفكم أيها المتعاقدون: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناح} إثم ولا حرج من أن: {أَلَّا تَكْتُبُوها} بعد التجاحد في مثل هذه الحالة، لأن كلا منهم واضع يده عليها، وظاهر الحال يدل على كونها لهما معا، ولتمكن كل منهما من أخذ حقه منها أي وقت شاء.
وعود الضمير إلى المداينات المذكورة سابقا المعبر عنها بالعقود كما جرينا عليه أولى من عودها إلى التجارة، وعليه يكون الاستثناء متصلا، وكذلك يكون متصلا إذا أعدت الضمير إلى الاستشهاد أي أشهدوا في كل المداينات والعقود إلا في عقد التجارة التي تتعاطونها معا.
وقال بعض المفسرين يعود الضمير إلى التجارة وجعل الاستثناء منقطعا وفيه عود الضمير إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة وهو جائز في فصيح الكلام، ولكن الأول أولى.
واعلم أن من كان عنده شهادة لأحد وقد مات رب الدين والورثة لا تعلم ذلك فيترتب عليه إعلام الورثة بذلك دون دعوة من الحاكم أو من أحد منهم لإظهار الحق، وما جاء في الآية من لزوم دعوة الشهود لأداء الشهادة في غير هذه القضية وما شاكلها من معلومية الشهود عند المدعي، لأن الشاهد ترد شهادته إذا تبرح لأدائها دون تكليف، ولهذا فإن ما في قوله تعالى: {إِذا ما دُعُوا} لا تعالى زائدة لما فيها من ثم النفي لمثل هذه الحالة.
وكذلك من يتسرع بحلف اليمين قبل أن يكلف الحلف فلا عبرة بحلفه لمظنة التهمة في هاتين القضيتين وما شابههما، تدبر قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} أيها الناس لتكون عقودكم صحيحة ظاهرا وباطنا فيما بينكم أنفسكم وفيما بينكم وبين اللّه سواء كان البيع ناجزا أو معلقا أو لأجل خوفا من وقوة التجاحد والاختلاف في البيع والثمن والشرط والأجل أو في الكل: {وَلا يُضَارَّ كاتِب} بأن يقسر على الكتابة وهو لا يضار أيضا بإملائه بأن يزيد أو ينقص ويضع بعض كلمات متضادة أو لها معان قد تضر بأحدهما: {وَلا شَهِيد} يجبر على الشهادة أو يمتنع بعد تحملها عن أدائها أو يزيد أو ينقص فيها، هذا وجد غيرهما إذ الوجوب كفائيا، والأمر على الندب أو الاحتمال كون الكاتب والشاهد مشغولين بما يهمهما، وأن تكليف الكتابة أو الشهادة يضرّ بهما فيصار لغيرهم أما إذا لم يوجد غيرهما فيجب حينئذ عليهما وجوبا عينيا بأن يكتب الكاتب ويشهد الشاهد لما في الامتناع من الضرر بغيرهما، لأن وجوب العين يتأكد ويلزم الرحمن بعينه، والكفائي إذا أقام البعض به سقط عن الآخرين كغسل الميت وتكفينه وو حمله والصلاة عليه.
ثم أكد النهي عن الإضرار الذي هو خروج عن الطاعة اللاحق أثره بهم غالبا بقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا} ما نهيتم عنه أو تمتنعوا عما أمرتم به: {فَإِنَّهُ فُسُوق بِكُمْ} وخروج عن الطاعة التي ينتج عنها وقوع الشحناء بينكم ثم هذا التأكيد بقوله عن قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما نهيتم عنه وأمرتم به وفي محق حقوق بعضكم كحقكم، فإن التقوى بهذا كغيره أزكى لكم وأطهر لقلوب: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} إذا اتقيتموه أشياء كثيرة من أمور دينكم ودنياكم مما هو لكم فيها وعند ربكم: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (282)} لا تخفى عليه أموركم هذه الجملة تهديد ووعيد لمن يجحد شيئا من العقود أو يخالف فيها وللشهود أيضا لا يكتموا شيئا من الشهادة وتشير إلى أن تقوى اللّه تورث العلم بما لا يعلم، أطول آية في القرآن العظيم وأقصر آية فيه آية: {ثُمَّ نَظَرَ} [22: من سورة المدثر].
واعلم أن الأمر بالكتابة عند وجود الكاتب في حالة الحضر ولهذا يقول تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ} بعيدا أو قريبا: {وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا} أو آلة الكتابة أو ما يكتب عليه ويكتب به وأردتم أن تتعاقدوا أو تتداينوا: {فَرِهان مَقْبُوضَة} لنثقوا على أموالكم وليس الغرض جواز الرهن في السفر، وإنما الفرض التوثق من الدين في حالة عدم وجود الكاتب والشهود، وإلا فالرهن جائز سفرا وحضرا، لأن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه منه لأجل، وإنما أشار اللّه إليه مبالغة في تحفظ الناس على أموالها من أن يأخذها من لا يؤديها فتسبّب الأحقاد والأضغان بينهم، لأن المال عديل الروح وكثيرا ما يقتل الرجل عند ماله أو من أجله، وقد أباح الشارع الدفاع عنه فقال قاتل دون مالك.
ولأجل شدة المحافظة على المال التي يتأتى من عدم إيفائه الشحناء ولهذا قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} [5: من سورة النساء] الآتية، وقال صلّى اللّه عليه وسلم احترسوا على أموالكم بسوء الظن أي لا تؤتوها من يغلب على ظنكم عدم الوفاء بل توثقوا من حسن معاملة من تدينونه بالتحقيق عن أحواله من كل الجهات: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} لحسن ظن فيه أو تجربة أو كان قريبا أو صديقا متوغل الصداقة معكم ولم تجدوا كاتبا ولا شهودا وليس عنده رهن وأعطيتموه مالكم ثقة منكم به، فإن اللّه تعالى يأمره بقوله: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ} أي دينه وإنّما سمي أمانة لأنه صاحبه وقد أمن من جحوده فأعطاه إياه بلا سند ولا شهود ولا رهن، فصار كأنه أمانة، والأمانة لا يجب عليها الإشهاد ولا الكتابة ولا الرهن، لأن الأمين مصدق بردّها له في قوله.
وتومئ هذه الآية إلى حث المدين أن يكون عند حسن ظن دائنه فيه، وحمله على أدائه عند حلول أجله دون مطل أو تعلل.
ثم أكد اللّه تعالى على المدين لزومه التأدية بقوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} بعدم الجحود وأن يفيه له بالحسنى مقابلة لفعله معه بقضاء حاجته في حالة يمكنه الامتناع فيها عن أن يدينه بحجة عدم وجود كاتب أو شهود أو رهن.
وبعد أن ندبه وحذره من المطل والتسويف ولزوم أداء الأمانة عند طلبها امتثالا لأمره خاطب الشهود بقوله عز قوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ} إذا دعيتم إليها لأنها أمانة في أعناقكم وفي كتمانها إبطال الحق وضياع المعروف، ولهذا بالغ في الوعيد والتهديد على كتمانها فقال: {وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِم قَلْبُهُ} مخطئ فاجر، وأضاف الإثم إلى القلب لأن كل أمر أول ما يحدث يحدث في القلب ثم ينطق به اللسان أو تنفذه الجوارح إلا من عصم اللّه، لأن القلب رئيس الأعضاء إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله- كما في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير عن البخاري- ولذلك فإن إثمه أعظم الآثام، قال ابن عباس أكبر الكبائر الإشراك باللّه وشهادة الزور وكتمان الشهادة.
وقال لما حرم اللّه الربا أباح السلف وقال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أياما أو شهورا أو سنين قد أحله اللّه تعالى في كتابه وأدن فيه، وهذا سبب نزول هذه الآية، وله شروط معلومة في كتب الفقه يجب التقيد بها لصحة عقده ولئلا يدخله الربا.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المدينة وهم يسلفون من التمر العام والعامين، فقال لهم من أسلف في تمر ففي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيم (283)} لا يعزب عنه شيء من أعمالكم.
وتومئ هذه الآية إلى تحذير من يكتم الشهادة ولم يؤد ما ائتمن عليه، وإن المراد بإثم القلب مسخه والعياذ باللّه، ومن هنا قيل: ما أوعد اللّه على شيء كإبعاده على كتم الشهادة، فانظر رحمك اللّه ما أعجب نظم هذه الآيات في تنظيم الإدارة الإنسانية، لأن عدم المضارة المذكورة من الطرفين والكاتب والشهود جزء من أجزاء الإدارة اللازمة للبشر، ومع هذا فإن اللّه جل جلاله قد بالغ في التأكيد على القيام بها بالعدل والتشديد على من يخرم شيئا منها، وقد كرر لفظ التقوى فيها لأنها تقي الإنسان من الوقوع فيما لا يرضي اللّه، لأنه قد يفرط في أمور يظنها من التقوى وليست منها، وقد يتسامح في أمور يظنها من التقوى وليست منها أيضا، بل قد تؤدي لما يحذر منه كمن يعطي ماله لسفيه أو يدين غيره بلا سند ولا شهود مع القدرة عليها، إذ ليس من الدين تفريط المرء في حفظ ماله إذ يعرضه لضياعه ومن ترك أمرا من أمور الدين أحوجه اللّه إليه، ولهذا أوجب الشارع الحجر على الإنسان في الأحوال المارة الذكر في الآية السابقة، لأن الدين يأمر باتخاذ الوسائل لصيانة المال كما يأمره باتخاذها لصيانة النفس، ولهذا وضع اللّه تعالى أسسا للتعامل لانتظام معاملة الناس فالتوثق بها خير ضمان لمصلحة العامة.
والحكم الشرعي في المداينات ما ذكرناه في تضاعيف تفسير الآيتين المارتين، ويفهم منها أن تصرف السفيه والمجنون وغير كامل التمييز غير مقبول شرعا، وأن إقرار الولي والوصي والقيم يعتبر عمن هو تحت الولاية والوصاية، لأنه محجور شرعا عن التصرف بماله ولا تعتبر عقوده، لأنه بحكم القاصر، ويعلم قوله تعالى: {مِنْ رِجالِكُمْ} اشتراط كون الشاهد في الحقوق مسلما على مثله والكافر على مثله، بخلاف الجنايات فإنها تقبل فيها شهادة غير المسلم على المسلم، وقد رجم صلّى اللّه عليه وسلم يهوديا بشهادة يهود عليه في الزنى، وأن يكون العاقد حرا لأن العبد لا يملك عقود المداينات، وترمي إلى أن لا يكتفى بشاهد واحد، أما ما جاء بالاكتفاء بشاهد ويمين فهو مما لم يذكره اللّه تعالى في كتابه، ولهذا قال: {وَامْرَأَتانِ} أي في حال عدم وجود رجلين، وقال بالائتمان عند عدم وجود الشاهد والكاتب والرهن، وإن قضاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الذي يثبت عند الشافعي رحمه اللّه ومالك وأحمد بشاهد ويمين، فهو من خصوصياته إذا تحقق ثبوته.
قال تعالى: {لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} ملكا وعبيدا في تضاعيف ملكه بجميع الكائنات، وإذا علمتم ذلك فإن قوله جل قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا} أيها الملوان الذين فيهما: {ما فِي أَنْفُسِكُمْ} فتظهروه ليطلع عليه بعضكم فيمدحوكم على الخير أو يذموكم على الشر علنا أو جهرا: {أَوْ تُخْفُوهُ} لئلا يطلع عليه أحد، فهو معلوم ومدون عنده في لوحه قبل خلقكم، ولذلك فإنكم يوم تحشرون إليه: {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أظهر الاسم الكريم مع تقدم ذكره لإدخال الروعة والمهابة في قلوب عباده، أي أنه يحاسبكم عليه خيرا كان أو شرا، وقد عنون عن العمل بقوله: {ما فِي أَنْفُسِكُمْ} لأن العمل مسبوق بالعزم وهو من النفس.