فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

الإحصان في اللغة المنع، وكذلك الحصانة، يقال: مدينة حصينة ودرع حصينة، أي مانعة صاحبها من الجراحة.
قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] معناه لتمنعكم وتحرزكم، والحصن الموضع الحصين لمنعه من يريده بالسوء، والحصان بالكسر الفرس الفحل، لمنعه صاحبه من الهلاك، والحصان بالفتح المرأة العفيفة لمنعها فرجها من الفساد، قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12].
واعلم أن لفظ الإحصان جاء في القرآن على وجوه: أحدها: الحرية كما في قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] يعني الحرائر، ألا ترى أنه لو قذف غير حر لم يجلد ثمانين، وكذلك قوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} يعني الحرائر، وكذلك قوله: {محصنات غَيْرَ مسافحات} [النساء: 25] وقوله: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين} وقوله: {والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] أي أعفته، وثالثها الإسلام: من ذلك قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قيل في تفسيره: إذا أسلمن، ورابعها: كون المرأة ذات زوج يقال: امرأة محصنة إذا كانت ذات زوج، وقوله: {والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} يعني ذوات الأزواج، والدليل على أن المراد ذلك أنه تعالى عطف المحصنات على المحرمات، فلابد وأن يكون الإحصان سببا للحرمة، ومعلوم أن الحرية والعفاف والاسلام لا تأثير له في ذلك، فوجب أن يكون المراد منه المزوجة، لأن كون المرأة ذات زوج له تأثير في كونها محرمة على الغير.
واعلم أن الوجوه الأربعة مشتركة في المعنى الأصلي اللُّغَويّ، وهو المَنْع، وذلك لأنا ذكرنا أن الإحصان عبارة عن المنع، فالحرية سبب لتحصين الإنسان من نفاذ حكم الغير فيه، والعفة أيضا مانعة للإنسان عن الشروع فيما لا ينبغي، وكذلك الإسلام مانع من كثير مما تدعو إليه النفس والشهوة، والزوج أيضا مانع للزوجة من كثير من الأمور، والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «من تزوج فقد حصن ثلثي دينه» فثبت أن المرجع بكل هذه الوجوه إلى ذلك المعنى اللغوي والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
قال الواحديّ: اختلف القُراء في {المحصنات} فقرؤا بكسر الصاد وفتحها في جميع القرآن إلا التي في هذه الآية فإنهم أجمعوا على الفتح فيها، فمن قرأ بالكسر جعل الفعل لهن يعني: أسلمن واخترن العفاف، وتزوجن وأحسن أنفسهن بسبب هذه الأمور.
ومن قرأ بالفتح جعل الفعل لغيرهن، يعني أحصنهن أزواجهن، والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
قال الشافعي- رحمة الله عليه-: الثَّيّب الذمي إذا زنى يُرْجَم، وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه-: لا يرجم.
حجة الشافعي أنه حصل الزنا مع الإحصان وذلك علة لاباحة الدم، فوجب أن يثبت إباحة الدم، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم.
أما قولنا: حصل الزنا مع الإحصان، فهذا يعتمد إثبات قيدين: أحدهما: حصول الزنا ولا شك فيه.
الثاني: حصول الإحصان وهو حاصل، لأن قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النساء} يدل على أن المراد من المحصنة: المزوجة، وهذه المرأة مزوجة فهي محصنة، فثبت أنه حصل الزنا مع الإحصان، وإنما قلنا: إن الزنا مع الإحصان علة لإباحة الدم لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى معان ثلاثة» ومنها قوله: «وزنا بعد إحصان» جعل الزنا بعد الإحصان علة لإباحة الدم في حق المسلم، والمسلم محل لهذا الحكم، أما العلة فهي مجرد الزنا بعد الإحصان، بدليل أن لام التعليل إنما دخل عليه.
أقصى ما في الباب أنه حكم في حق المسلم، أن الزنا بعد الإحصان علة لاباحة الدم، إلا أن كونه مسلما محل الحكم، وخصوص محل الحكم لا يمنع من التعدية إلى غير ذلك المحل، والا لبطل القياس بالكلية.
وأما العلة فهي ما دخل عليه لام التعليل، وهي ماهية الزنا بعد الإحصان، وهذه الماهية لما حصلت في حق الثيب الذمي، وجب أن يحصل في حقه اباحة الدم، فثبت أنه مباح الدم.
ثم هاهنا طريقان: إن شئنا اكتفينا بهذا القدر، فإنا ندعي كونه مباح الدم والخصم لا يقول به، فصار محجوجا، أو نقول: لما ثبت أنه مباح الدم وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم لأنه لا قائل بالفرق.
فإن قيل: ما ذكرتم إن دل على أن الذمي محصن، فههنا ما يدل على أنه غير محصن، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «من أشرك بالله فليس بمحصن».
قلنا: ثبت بالدليل الذي ذكرناه ان الذمي محصن، وثبت بهذا الخبر الذي ذكرتم أنه ليس بمحصن، فنقول: إنه محصن بمعنى أنه لعله ذو زوج، وغير محصن بمعنى أنه لا يحد قاذفه، وقوله: من أشرك بالله فليس بمحصن يجب حمله على أنه لا يحد قاذفه، لا على أنه لا يحد على الزنا، لأنه وصفه بوصف الشرك وذلك جناية، والمذكور عقيب الجناية لابد وأن يكون أمرا يصلح أن يكون عقوبة، وقولنا: إنه لا يحد قاذفه يصلح أن يكون عقوبة، أما قولنا: لا يحد على الزنا، لا يصلح أن يكون عقوبة له، فكان المراد من قوله: من أشرك بالله فليس بمحصن ما ذكرناه والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
في قوله: {والمحصنات مِنَ النساء} قولان:
أحدهما: المراد منها ذوات الأزواج، وعلى هذا التقدير ففي قوله: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} وجهان:
الأول: أن المرأة إذا كانت ذات زوج حرمت على غير زوجها، إلا إذا صارت ملكا لإنسان فإنها تحل للمالك، الثاني: أن المراد بملك اليمين هاهنا ملك النكاح، والمعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع البنيوية بينهن وبين أزواجهن، والمقصود من هذا الكلام الزجر عن الزنا والمنع من وطئهن إلا بنكاح جديد، أو بملك يمين إن كانت المرأة مملوكة، وعبر عن ذلك بملك اليمين لأن ملك اليمين حاصل في النكاح وفي الملك.
القول الثاني: أن المراد هاهنا بالمحصنات الحرائر، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} [النساء: 25] ذكر هاهنا المحصنات ثم قال بعده: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المحصنات} كان المراد بالمحصنات هاهنا ما هو المراد هناك، ثم المراد من المحصنات هناك الحرائر، فكذا ههنا.
وعلى هذا التقدير ففي قوله: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} وجهان: الأول: المراد منه إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع، فصار التقدير: حرمت عليكم الحرائر إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع، الثاني: الحرائر محرمات عليكم إلا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن، وذلك عند حضور الولي والشهود وسائر الشرائط المعتبرة في الشريعة، فهذا الأول في تفسير قوله: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} هو المختار، ويدل عليه قوله تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون * إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المعارج: 29 30] جعل ملك اليمين عبارة عن ثبوت الملك فيها، فوجب أن يكون هاهنا مفسرا بذلك، لأن تفسير كلام الله تعالى بكلام الله أقرب الطرق إلى الصدق والصواب، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

اختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومَكْحُولٌ والزُّهِريّ وأبو سعيدٍ الخُدْرِيّ: المراد بالمحصَنات هنا المسْبِيّات ذواتُ الأزواج خاصة، أي هنّ محرّمات إلاَّ ما ملكت اليَمين بالسبْي من أرض الحرب، فإن تلك حلال للَّذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج.
وهو قول الشافعيّ في أن السِّباء يقطع العِصمة؛ وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، وقال به أَشهب.
يدلّ عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيدٍ الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ حُنينٍ بعث جيشًا إلى أوْطاسٍ فلقوا العدوّ فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سَبَايَا؛ فكان ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تحرّجوا من غِشْيانهنّ من أجل أزواجهنّ من المشركين، فأنزل الله عزّ وجلّ: {في ذلك} {والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ}.
أي فهنّ لكم حلال إذا انقضت عدّتهنّ.
وهذا نصّ صحيح صريحٌ في أن الآية نزلت بسبب تحرّج أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن وطء المَسْبِيّات ذواتِ الأزواج؛ فأنزل الله تعالى في جوابهم {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ}.
وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثَوْر، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
واختلفوا في استبرائها بماذا يكون؛ فقال الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبرؤون المَسْبِيّة بحيضة؛ وقد رُوي ذلك من حديث أبي سعيد الخُدْرِيّ في سبايا أوْطاس: لا توطأ حاملٌ حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثرًا حتى يقال إن المسبِية مملوكةٌ ولكنها كانت زوجة زال نكاحها فتعتد عدّة الإماء، على ما نُقل عن الحسن بن صالح قال: عليها العدّة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب.
وكافة العلماء رأوا استبراءها واستبراء التي لا زوج لها واحدًا في أن الجميع بحيضة واحدة.
والمشهور من مذهب مالك أنه لا فرق بين أن يسبى الزوجان مجتمعَيْن أو متفرّقين.
ورَوى عنه ابن بكير أنهما إن سُبِيا جميعًا واستبقي الرجل أقرّا على نكاحهما؛ فرأى في هذه الرواية أن استبقاءه إبقاء لما يملكه؛ لأنه قد صار له عهدٌ وزوجته من جملة ما يملكه، فلا يحال بينه وبينها؛ وهو قول أبي حنيفة والثَّوْريّ، وبه قال ابن القاسم ورواه عن مالك.
والصحيح الأوّل؛ لما ذكرناه؛ ولأن الله تعالى قال: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} فأحال على مِلْك اليمين وجعله هو المؤثِّر فيتعلّق الحكم به من حيث العموم والتعليل جميعًا إلا ما خصّه الدليل.
وفي الآية قول ثانٍ قاله عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيِّب والحسن بن أبي الحسن وأُبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس في رواية عِكرِمة: أن المراد بالآية ذواتُ الأزواج، أي فهنّ حرام إلاَّ أن يشتري الرجل الأَمةَ ذاتَ الزوج فإن بيعها طلاقُها والصدقة بها طلاقُها وأن تورث طلاقُها وتطليق الزوج طلاقها.
قال ابن مسعود: فإذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحق ببُضْعها وكذلك المَسْبِية؛ كل ذلك موجب للفُرقة بينها وبين زوجها.
قالوا: وإذا كان كذلك فلابد أن يكون بيع الأمة طلاقًا لها؛ لأن الفرج محرّم على اثنين في حال واحدة بإجماع من المسلمين.
قلت؛ وهذا يردّه حديث بَرِيرة؛ لأن عائشة رضي الله عنها اشترت بَرِيرة وأعتقتها ثم خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ذات زوج، وفي إجماعهم على أن بريرة قد خُيِّرت تحت زوجها مُغِيثٍ بعد أن اشترتها عائشة فأعتقتها لدليلٌ على أن بيع الأَمَة ليس طلاقها؛ وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار من أهل الرأي والحديث، وألاّ طلاق لها إلاَّ الطلاق.
وقد احتج بعضهم بعموم قوله: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} وقياسًا على المَسْبِيّات.
وما ذكرناه من حديث بَريرة يخصُّه ويردّه، وأن ذلك إنما هو خاص بالمَسْبِيّات على حديث أبي سعيدٍ، وهو الصواب والحق إن شاء الله تعالى.
وفي الآية قول ثالث روى الثَّوْرِيّ عن مجاهد عن إبراهيم قال ابن مسعود في قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين.
وقال عليّ بن أبي طالب: ذوات الأزواج من المشركين.