فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الشافعيّ: يحدّه المولى في كل حدّ ويقطعه؛ واحتج بالأحاديث التي ذكرنا.
وقال الثّوْرِيّ والأُوْزاعِيّ: يحدّه في الزنى؛ وهو مقتضى الأحاديث، والله أعلم.
وقد مضى القول في تغريب العبيد في هذه السورة.
فإن زَنَت الأَمة ثم عُتقَت قبل أن يحدّها سيّدها لم يكن له سبيل إلى حدّها، والسلطان يجلدها إذا ثبت ذلك عنده؛ فإن زنت ثم تزوّجت لم يكن لسيدها أن يجلدها أيضًا لحق الزوج؛ إذْ قد يضره ذلك.
وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج مِلْكًا للسيد، فلو كان، جاز للسيد ذلك لأن حقَّهما حقُّه.
فإن أقرّ العبد بالزنى وأنكره المولى فإن الحدّ يجب على العبد لإقراره، ولا التفات لما أنكره المولى، وهذا مجمع عليه بين العلماء.
وكذلك المدبَّر وأُمُّ الولد والمكاتَب والمُعْتَق بعضه.
وأجمعوا أيضًا على أن الأَمَة إذا زنت ثم أُعتقت حُدّت حدّ الإماء؛ وإذا زنت وهي لا تعلم بالعتق ثم علمت وقد حُدّت أُقيم عليها تمام حدّ الحرّة؛ ذكره ابن المنذر.
واختلفوا في عفو السيد عن عبده وأمتَه إذا زنيا؛ فكان الحسن البصري يقول: له أن يعفُوَ.
وقال غير الحسن: لا يسعه إلا إقامة الحدّ، كما لا يسع السلطان أن يعفوَ عن حدّ إذا علمه، لم يسع السيّد كذلك أن يعفُوَ عن أمته إذا وجب عليها الحدّ؛ وهذا على مذهب أبي ثور.
قال ابن المنذر: وبه نقول. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

في الآية إشكال قوي، وهو أن المحصنات في قوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} إما أن يكون المراد منه الحرائر المتزوجات، أو المراد منه الحرائر الأبكار.
والسبب في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن.
والأول مشكل، لأن الواجب على الحرائر المتزوجات في الزنا: الرجم، فهذا يقتضي أن يجب في زنا الإماء نصف الرجم، ومعلوم أن ذلك باطل.
والثاني: وهو أن يكون المراد: الحرائر الأبكار، فحينئذ يكون هذا الحكم معلقا بمجرد صدور الزنا عنهن، وظاهر الآية يقتضي كونه معلقا بمجموع الأمرين: الإحصان والزنا، لأن قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة} شرط بعد شرط، فيقتضي كون الحكم مشروطا بهما نصا، فهذا إشكال قوي في الآية.
والجواب: أنا نختار القسم الثاني، وقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ليس المراد منه جعل هذا الإحصان شرطا لأن يجب في زناها خمسون جلدة، بل المعنى أن حد الزنا يغلظ عند التزوج، فهذه إذا زنت وقد تزوجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليه، فبأن يكون قبل التزوج هذا القدر أيضًا أولى، وهذا مما يجري مجرى المفهوم بالنص، لأن عند حصول ما يغلظ الحد، لما وجب تخفيف الحد لمكان الرق، فبأن يجب هذا القدر عند مالا يوجد ذلك المغلظ كان أولى. والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} أي الجلد ويعني بالمحصَنات هاهنا الأبكار الحرائر؛ لأن الثيب عليها الرجم والرجم لا يتبعّض.
وإنما قيل للبكر محصنة وإن لم تكن متزوجة؛ لأن الإحصان يكون بها؛ كما يقال: أضحِية قبل أن يُضَحَّى بها؛ وكما يقال للبقرة؛ مثيرة قبل أن تُثِير.
وقيل: {المحصنات} المتزوّجات؛ لأن عليها الضرب والرّجم في الحديث، والرّجم لا يتبعّض فصار عليهن نصف الضرب.
والفائدة في نقصان حدّهن أنهن أضعف من الحرائر.
ويقال: إنهن لا يصِلْن إلى مرادهن كما تصل الحرائر.
وقيل: لأن العقوبة تجب على قدر النعمة؛ ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم: {يا نساء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشدّ، وكذلك الإماء لما كانت نعمتهن أقل فعقوبتهن أقلّ.
وذكر في الآية حد الإماء خاصة ولم يذكر حد العبيد ولكن حد العبيد والإماء سواء خمسون جلدة في الزنى وفي القذف وشرب الخمر أربعون لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق فدخل الذكور من العبيد في ذلك بعلة المملوكية كما دخل الإماء تحت قوله عليه السلام «من أعتق شركا له في عبد» وهذا الذي يسميه العلماء القياس في معنى الأصل ومنه قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات...} الآية فدخل في ذلك المحصنين قطعا على ما يأتي بيانه في سورة النور إن شاء الله تعالى.
وأجمع العلماء على أن بيع الأمة الزانية ليس بيعها بواجب لازم على ربها وإن اختاروا له ذلك لقوله عليه السلام: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» أخرجه مسلم عن أبي هريرة وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها في الرابعة منهم داؤد وغيره لقوله «فليبعها» وقوله: «ثم بيعوها ولو بضفير» قال إبن شهاب فلا أدري بعد الثالثة أو الرابعة والضفير الحبل فإذا باعها عرف بزناها لأنه عيب فلا يحل أن يكتم فإن قيل إذا كان مقصود الحديث إبعاد الزانية ووجب على بائعها التعريف بزناها فلا ينبغي لأحد أن يشتريها لأنها مما قد أمرنا بإبعادها فالجواب أنها مال ولا تضاع للنهي عن إضاعة المال ولا تسيب لأن ذلك إغراء لها بالزنى وتمكين منه ولا تحبس دائما فإن فيه تعطيل منفعتها على سيدها فلم يبق إلا بيعها ولعل السيد الثاني يعفها بالوطء أو يبالغ في التحرز فيمنعها من ذلك وعلى الجملة فعند تبدل الملاك تختلف عليها الأحوال والله أعلم. اهـ. بتصرف يسير.

.قال ابن كثير:

والأظهر- والله أعلم- أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج؛ لأن سياق الآية يدل عليه، حيث يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ} والله أعلم. والآية الكريمة سياقها كلها في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي: تزوجن، كما فسره ابن عباس ومن تبعه.
وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور؛ وذلك أنهم يقولون: إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة، سواء كانت مسلمة أو كافرة، مزوجة أو بكرا، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك، فأما الجمهور فقالوا: لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم. وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء، فقدمناها على مفهوم الآية، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه، عن علي، رضي الله عنه، أنه خطب فقال: يا أيها الناس، أقيموا على أرقَّائكم الحد من أحْصَنَ منهم ومن لم يُحْصَن، فَإنَّ أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زَنَتْ فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إنْ جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أحْسَنْتَ، اتركها حتى تَماثَل». وعند عبد الله بن أحمد، عن غير أبيه: «فإذا تَعالتْ من نَفْسِها حدَّها خمسين».
وعن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زَنَتِ الثانية فليجلدها الحد ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها، فليبعها ولو بِحَبْل من شَعَر» ولمسلم: «إذا زَنتْ ثلاثا فليبعها في الرابعة».
وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يَسار، عن عبد الله بن عيَّاش بن أبي ربيعة المخزومي قال: أمَرَني عُمَر بن الخطاب في فتية من قريش، فجلدنا من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا.
الجواب الثاني: جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها، وإنما تضرب تأديبا، وهو المحكي عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنه، وإليه ذهب طاوس، وسعيد بن جُبَير، وأبو عُبَيد القاسم بن سلام، وداود بن علي الظاهري في رواية عنه. وعمْدتهُم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط، وهو حجة عند أكثرهم فهو مقدم على العموم عندهم. وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحْصنْ؟ قال: «إن زنت فحدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير» قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة.
أخرجاه في الصحيحين وعند مسلم: قال ابن شهاب: الضفير الحبل.
قالوا: فلم يُؤَقَّت في هذا الحديث عدد كما وقت في المحصنة بنصف ما على المحصنات من العذاب، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم.
وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور، عن سفيان، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على أمة حد حتى تحصن- أو حتى تزوج- فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات».
وقد رواه ابن خزيمة، عن عبد الله بن عمران العابدي عن سفيان به مرفوعا. وقال: رفعه خطأ، إنما هو من قول ابن عباس، وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران، وقال مثل ما قاله ابن خزيمة.
قالوا: وحديث علي وعمر رضي الله عنهما قضايا أعيان، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة:
أحدها: أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث.
الثاني: أن لفظ الحد في قوله: فليجلدها الحد، لفظ مقحم من بعض الرواة، بدليل الجواب الثالث وهو:
أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقدم من رواية واحد، وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم، من حديث عَبَّاد بن تميم، عن عمه- وكان قد شهد بدرًا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إذا زَنتِ فاجْلِدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير».
الرابع: أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد؛ لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب، كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بُعثْكال نخل فيه مائة شمراخ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كالإمام أحمد وغيره من السلف. وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة، ورجم الثيب أو اللائط، والله أعلم.
وقد روى ابن جرير في تفسيره: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة؛ أنه سمع سعيد بن جبير يقول: لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج.
وهذا إسناد صحيح عنه، ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب أصلا لا حدا، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث، وإن كان أراد أنها لا تضرب حدا، ولا ينفي ضربها تأديبا، فهو كقول ابن عباس ومن تبعه في ذلك، والله أعلم.
الجواب الثالث: أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة، فأما قبل الإحصان فعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وكحديث عبادة بن الصامت: «خُذوا عَنِّي، خذوا عني، قد جَعلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البِكر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتَغْرِيبُ عام، والثيب جَلْدُ مائة ورَجْمُهَا بالحجارة» والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث.
وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري، وهو في غاية الضعف؛ لأن الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب وهو خمسون جلدة، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان. وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال، وهذا الشارع عليه السلام يسأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: «اجلدوها» ولم يقل مائة، فلو كان حكمها كما قال داود لوجب بيان ذلك لهم؛ لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء، وإلا فما الفائدة في قولهم: ولم تحصن لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الآية نزلت، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الحال الآخر، فبينه لهم. كما ثبت في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه، فذكرها لهم ثم قال: «والسلام ما قد علمتم» وفي لفظ: لما أنزل الله قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] قالوا: هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ وذكر الحديث، وهكذا هذا السؤال.