فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قرأ عاصم وحمزة والكسائي: {تجارة} بالنصب، والباقون بالرفع.
أما من نصب فعلى كان الناقصة، والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، وأما من رفع فعلى كان التامة، والتقدير: إلا أن توجد وتحصل تجارة.
وقال الواحدي: والاختيار الرفع، لأن من نصب أضمر التجارة فقال: تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة، والإضمار قبل الذكر ليس بقوى وإن كان جائزا. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {إِلا} فيه وجهان:
الأول: أنه استثناء منقطع، لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل، فكان إلا هاهنا بمعنى بل والمعنى: لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض.
الثاني: ان من الناس من قال: الاستثناء متصل وأضمر شيئًا، فقال التقدير: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وإن تراضيتم كالربا وغيره، إلا أن تكون تجارة عن تراض.
واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة، فقد يحل أيضًا المال المستفاد من الهبة والوصية والارث وأخذ الصدقات والمهر وأروش الجنايات، فإن أسباب الملك كثيرة سوى التجارة.
فإن قلنا: إن الاستثناء منقطع فلا إشكال، فإنه تعالى ذكر هاهنا سببًا واحد، من أسباب الملك ولم يذكر سائرها، لا بالنفي ولا باثبات.
وإن قلنا: الاستثناء متصل كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل، وعند هذا لابد إما من النسخ أو التخصيص. اهـ.

.قال البيضاوي:

وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير، لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقًا. وقيل: المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله. وبالتجارة صرفه فيما يرضاه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} أي عن رِضًى، إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين.
واختلف العلماء في التراضي؛ فقالت طائفة: تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر؛ فيقول: قد اخترت، وذلك بعد العقدة أيضًا فينجزم أيضًا وإن لم يتفرّقا؛ قاله جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعيّ والثَّوْريّ والأُوزاعي والليث وابن عُيَيْنة وإسحاق وغيرهم.
قال الأُوزاعيّ: هما بالخيار ما لم يتفرّقا؛ إلاّ بيوعًا ثلاثة: بيع السلطان المغانم، والشركةُ في الميراث، والشركة في التجارة؛ فإذا صافقه في هذه الثلاثة فقد وجب البيع وليسا فيه بالخيار.
وقال: وحّد التفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه؛ وهو قول أهل الشام.
وقال الليث: التفرّق أن يقوم أحدهما.
وكان أحمد بن حنبل يقول: هما بالخيار أبدًا ما لم يتفرقا بأبدانهما، وسواء قالا: اخترنا أو لم يقولاه حتى يفترقا بأبدانهما من مكانهما؛ وقاله الشافعيّ أيضًا.
وهو الصحيح في هذا الباب للأحاديث الواردة في ذلك.
وهو مرويّ عن ابن عمر وأبي بَرْزة وجماعة من العلماء.
وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فينجزم العقد بذلك ويرتفع الخيار.
قال محمد بن الحسن: معنى قوله في الحديث: «البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا» أن البائع إذا قال: قد بعتك، فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت.
وهو قول أبي حنيفة، ونصّ مذهب مالك أيضًا، حكاه ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد.
وقيل: ليس له أن يرجع.
وقد مضى في [البقرة].
واحتج الأوّلون بما ثبت من حديث سَمُرة بن جُنْدب وأبي بَرْزَة وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وحَكيم بن حِزام وغيرهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «البَيِّعان بالخيار مالم يتفرّقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر» رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر؛ فقوله عليه السلام في هذه الرواية: «أو يقول أحدهما لصاحبه اختر» هو معنى الرواية الأُخرى «إلا بيع الخيار» وقوله: «إلا أن يكون بيعهما عن خيار» ونحوه.
أي يقول أحدهما بعد تمام البيع لصاحبه: اختر إنفاذ البيع أو فسخه؛ فإن اختار إمضاء البيع تمّ البيع بينهما وإن لم يتفرّقا.
وكان ابن عمر وهو راوي الحديث إذا بايع أحدًا وأحبّ أن يُنفذ البيع مشى قليلًا ثم رجع.
وفي الأُصول: إن من روى حديثًا فهو أعلم بتأويله، لاسيما الصحابة إذْ هم أعلم بالمقال وأقعد بالحال.
وروى أبو داود والدّارَقُطْنِي عن أبي الوَضِيء قال: كنا في سفر في عسكر فأتى رجل معه فرس فقال له رجل منا: أتبيع هذا الفرس بهذا الغلام؟ قال نعم؛ فباعه ثم بات معنا، فلما أصبح قام إلى فرسه، فقال له صاحبنا: ما لكَ والفرس أليس قد بِعتنيها؟ فقال: ما لي في هذا البيع من حاجة.
فقال: ما لَك ذلك، لقد بعتني.
فقال لهما القوم: هذا أبو برزة صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه؛ فقال لهما: أترضيان بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: نعم.
فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرّقا» وإني لا أراكما افترقتما.
فهذان صحابيان قد علما مخرج الحديث وعملا بمقتضاه، بل هذا كان عمل الصحابة.
قال سالم قال ابن عمر: كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان.
قال: فتبايعت أنا وعثمان فبعته مالي بالوادي بمالٍ له بخَيْبر؛ قال: فلما بعته طفِقْت أنكُص القَهْقَرَى، خشية أن يُرادّني عثمان البيع قبل أن أُفارقه.
أخرجه الدَّارَقُطني ثم قال: إن أهل اللغة فَرقوا بين فَرَقْت مخففًا وفرّقت مثقلًا؛ فجعلوه بالتخفيف في الكلام وبالتثقيل في الأبدان.
قال أحمد بن يحيى ثعلب: أخبرني ابن الأعرابي عن المفضّل قال: يقال فرَقت بين الكلامين مخفّفًا فافترقا وفرّقت بين اثنين مشدّدًا فتفرّقا؛ فجعل الافتراق في القول، والتفرق في الأبدان.
احتجّت المالكية بما تقدّم بيانه في آية الدَّين، وبقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] وهذان قد تعاقدا.
وفي هذا الحديث إبطال الوفاء بالعقود.
قالوا: وقد يكون التفرق بالقول كعقد النكاح ووقوع الطلاق الذي قد سماه الله فراقا؛ قال الله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًا مِّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 105] وقال عليه السلام: «تَفترق أُمّتي» ولم يقل بأبدانها.
وقد روى الدَّارَقُطْنِيّ وغيره عن عمرو بن شعيب قال سمعت شعيبًا يقول سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أيُّما رجل ابتاع من رجل بيعة فإنّ كلّ واحد منهما بالخيار حتى يتفرّقا من مكانهما إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحلّ لأحدهما أن يفارق صاحبه مخافة أن يُقيله» قالوا: فهذا يدل على أنه قد تمّ البيع بينهما قبل الافتراق؛ لأن الإقالة لا تصح إلا فيما قد تمّ من البيوع.
قالوا: ومعنى قوله: «المتبايعان بالخيار» أي المتساومان بالخيار ما لم يعقِدا فإذا عقدا بطل الخيار فيه.
والجواب أمّا ما اعتلوا به من الافتراق بالكلام فإنما المراد بذلك الأديان كما بيناه في [آل عمران]، وإن كان صحيحًا في بعض المواضع فهو في هذا الموضع غير صحيح.
وبيانه أن يقال: خبِّرونا عن الكلام الذي وقع به الإجتماع وتمّ به البيع، أهو الكلام الذي أُريد به الإفتراق أم غيره؟ فإن قالوا: هو غيره فقد أحالوا وجاءوا بما لا يعقل؛ لأنه ليس ثَمّ كلام غير ذلك، وإن قالوا: هو ذلك الكلام بعينه قيل لهم: كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به اجتمعا وتمّ به بيعهما، به افترقا، هذا عين المحال والفاسد من القول.
وأما قوله: «ولا يحل له أن يفارق صاحبه مخافة أن يُقيله» فمعناه إن صح على النّدب؛ بدليل قوله عليه السلام: «من أقال مسلمًا أقاله الله عَثْرته» وبإجماع المسلمين على أن ذلك يحل لفاعله على خلاف ظاهر الحديث، ولإجماعهم أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه ولا يقيله إلا أن يشاء.
وفيما أجمعوا عليه من ذلك رَدٌّ لرواية من روى «لا يحل» فإن لم يكن وجه هذا الخبر الندب، وإلا فهو باطل بالإجماع.
وأما تأويل المتبايعان بالمتساومين فعدول عن ظاهر اللفظ، وإنما معناه المتبايعان بعد عقدهما مخيّران ما داما في مجلسهما، إلا بيعا يقول أحدهما لصاحبه فيه: اخْتَر فيختار؛ فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا؛ فإن فُرِض خيارٌ فالمعنى: إلا بيع الخيارِ فإنه يبقى الخيار بعد التفرق بالأبدان.
وتتميم هذا الباب في كتب الخلاف.
وفي قول عمرو بن شعيب سمعت أبي يقول دليل على صحة حديثه؛ فإن الدّارَقُطْنِيّ قال حدّثنا أبو بكر النيسابُوريّ حدّثنا محمد بن عليّ الورّاق قال قلت لأحمد بن حنبل: شعيبٌ سمع من أبيه شيئًا؟ قال: يقول حدّثني أبي.
قال فقلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم، أراه قد سمع منه.
قال الدّارَقُطْنِيّ سمعت أبا بكر النيسابُوريّ يقول: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب وسماعُ شعيب من جدّه عبد الله بن عمرو. اهـ.

.قال الفخر:

قال أبو حنيفة رحمة الله عليه، خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة، وقال الشافعي رحمة الله عليه: ثابت، احتج أبو حنيفة بالنصوص: أولها: هذه الآية، فإن قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ} ظاهره يقتضي الحل عند حصول التراضي، سواء حصل التفرق أو لم يحصل.
وثانيها: قوله: {أَوْفُواْ بالعقود} فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد عن نفسه.
وثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» وقد حصلت الطيبة هاهنا بعقد البيع، فوجب أن يحصل الحل.
ورابعها: قوله عليه الصلاة والسلام: «من ابتاع طعاما لا يبعه حتى يقبضه» جوز بيعه بعد القبض، وخامسها: ما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصيعان، وأباح بيعه إذا جرى فيه الصيعان، ولم يشترط فيه الافتراق.
وسادسها: قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» واتفقوا على أنه كما اشترى حصل العتق، وذلك يدل على أنه يحصل الملك بمجرد العقد.
واعلم أن الشافعي يسلم عموم هذه النصوص، لكنه يقول: أنتم أثبتم خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري بحديث اتفق المحدثون على ضعفه، فنحن أيضًا نثبت خيار المجلس بحديث اتفق علماء الحديث على قبوله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» وتأويلات أصحاب أبي حنيفة لهذا الخبر وأجوبتها مذكورة في الخلافيات، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

روى الدّارَقُطْنِيّ عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيّين والصدِّيقين والشهداء يوم القيامة» ويكره للتاجر أن يحلف لأجل ترويج السلعة وتزيينها، أو يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم في عرضِ سلعته؛ وهو أن يقول: صلى الله على محمد! ما أجود هذا.
ويستحبّ للتاجر ألا تشغله تجارته عن أداء الفرائض؛ فإذا جاء وقت الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37] وسيأتي.
وفي هذه الآية مع الأحاديث التي ذكرناها ما يردّ قول من ينكر طلب الأقوات بالتجارات والصناعات من المتصوّفة الجهلة؛ لأن الله تعالى حرّم أكلها بالباطل وأحلها بالتجارة، وهذا بيّن. اهـ. بتصرف يسير.