فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قال الشافعي رحمة الله عليه: النهي في المعاملات يدل على البطلان، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يدل عليه، واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه: الأول: أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الإنسان وكيلا في بعض التصرفات، ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالإجماع، فإذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى.
وثانيها: أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود، وإما أن لا تكون فإن كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة.
والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود، وإن كان الثاني وجب القول بصحتها، قياسا على التصرفات الصحيحة، والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد، فثبت أنه لابد من وقوع التصرف على هذين الوجهين.
فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال، وثالثها: أن قوله: لا تبيعوا الدرهم بدرهمين، كقوله: لا تبيعوا الحر بالعبد، فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة فكذا الأول، وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيدًا للحكم، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} فيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه على ظاهره، وأن الله حرم على العبد قتل نفسه، وهذا الظاهر.
والثاني: أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضًا، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة.
والثالث: أن المعنى: لا تكلفوا أنفسكم عملًا ربّما أدى إلى قتلها وإِن كان فرضًا، وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جُنبًا في ليلة باردة، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال يا رسول الله إِني احتلمتُ في ليلة باردة وأشفقت إِن اغتسلت أن أهلِك، فذكرت قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرابع: أن المعنى: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظها، فكأنما قتلها، هذا قول الفضيل بن عياض.
والخامس: لا تقتلوها بارتكاب المعاصي. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}.
اتفقوا على أن هذا نهي عن أن يقتل بعضهم بعضا وإنما قال: {أَنفُسَكُمْ} لقوله عليه السلام: «المؤمنون كنفس واحدة» ولأن العرب يقولون: قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يجري مجرى قتلهم.
واختلفوا في أن هذا الخطاب هل هو نهي لهم عن قتلهم أنفسهم؟ فأنكره بعضهم وقال: إن المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه، لأنه ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه، وذلك لأن الصارف عنه في الدنيا قائم، وهو الألم الشديد والذم العظيم، والصارف عنه أيضا في الآخرة قائم، وهو استحقاق العذاب العظيم، وإذا كان الصارف خالصا امتنع منه أن يفعل ذلك وإذا كان كذلك لم يكن للنهي عنه فائدة، وإنما يمكن أن يذكر هذا النهي فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند، وذلك لا يتأتى من المؤمن، ويمكن أن يجاب عنه بأن المؤمن مع كونه مؤمنًا بالله واليوم الآخر، قد يلحقه من الغم والأذية ما يكون القتل عليه أسهل من ذلك، ولذلك نرى كثيرا من المسلمين قد يقتلون أنفسهم بمثل السبب الذي ذكرناه، وإذا كان كذلك كان في النهي عنه فائدة، وأيضا ففيه احتمال آخر، كأنه قيل: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل: من القتل والردة والزنا بعد الإحصان، ثم بين تعالى أنه رحيم بعباده ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يستوجبون به مشقة أو محنة، وقيل: إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما، حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي لا يقتل بعضكم بعضًا وإنما قال أنفسكم لأنهم أهل دين واحد فهم كنفس واحدة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: «ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقيل إن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم مخلدًا يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ومن تحسى سمًا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ به في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا» قوله يتردى التردي هو الوقوع من موضع عال إلى أسفل قوله يتوجأ يقال وجأته بالسكين إذا ضربته بها وهو يتوجأ أي يضرب بها نفسه.
عن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كان برجل جراح فقتل نفسه فقال الله تبارك وتعالى: بدرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة» وفي رواية قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينًا فحزبها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة» وقيل في معنى قتل الإنسان نفسه أن لا يفعل شيئًا يستحق به القتل مثل أن يقتل فيقتل به فيكون هو الذي تسبب في قتل نفسه، وقيل معناه ولا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل وقيل معناه ولا تهلكوا أنفسكم بأن تعملوا عملًا ربما أدى إلى قتلها. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} فيه مسألة واحدة قرأ الحسن {تُقَتِّلوا} على التكثير.
وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضًا.
ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصدٍ منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال؛ بأن يحمل نفسه على الغرر المُؤدِّي إلى التلف.
ويحتمل أن يقال: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} في حال ضجر أو غضب؛ فهذا كله يتناوله النهي.
وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السّلاسِل خوفًا على نفسه منه؛ فقرّر النبيّ صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم يقل شيئًا.
خرّجه أبو داود وغيره، وسيأتي. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إن الله كان بكم رحيمًا} حيث نهاكم عن إتلاف النفوس، وعن أكل الحرام، وبين لكم جهة الحل التي ينبغي أن يكون قوام الأنفس.
وحياتها بما يكتسب منها، لأنّ طيب الكسب ينبني عليه صلاح العبادات وقبولها.
ألا ترى إلى ما ورد مَن حجّ بمال حرام أنه إذا قال: لبيك قال الله له: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك.
وألا ترى إلى الداعي ربه ومطعمه حرام وملبسه حرام كيف جاء أنّى يستجاب له؟ وكان النهي عن أكل المال بالباطل متقدمًا على النهي عن قتل أنفسهم، لأنه أكثر وقوعًا، وأفشى في الناس من القتل، لاسيما إن كان المراد ظاهر الآية من أنه نهى أن يقتل الإنسان نفسه، فإن هذه الحالة نادرة.
وقيل: رحيمًا حيث لم يكلفكم قتل أنفسكم حين التوبة كما كلف بني إسرائيل قتلهم أنفسهم، وجعل ذلك توبة لهم وتمحيصًا لخطاياهم. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في أن قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} إلى ماذا يعود؟ على وجوه:
الأول: قال عطاء: إنه خاص في قتل النفس المحرمة، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات.
الثاني: قال الزجاج: إنه عائد إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية واحدة.
والثالث: قال ابن عباس: إنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع. اهـ.
قال الفخر:
إنما قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا} لأن في جملة ما تقدم قتل البعض للبعض، وقد يكون ذلك حقا كالقود، وفي جملة ما تقدم أخذ المال، وقد يكون ذلك حقا كما في الدية وغيرها، فلهذا السبب شرطه تعالى في ذلك الوعيد. اهـ.

.قال القرطبي:

{ذلك} إشارة إلى القتل؛ لأنه أقرب مذكور؛ قاله عطاء.
وقيل: هو عائد إلى أكل المال بالباطل وقتل النفس؛ لأن النهي عنهما جاء متّسقًا مسرُودًا، ثم ورد الوعيد حسب النهي.
وقيل: هو عام على كل ما نهى عنه من القضايا، من أوّل السورة إلى قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك}.
وقال الطبري: {ذلك} عائد على ما نهى عنه من آخر وعيدٍ، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا} لأن كل ما نهى عنه من أوّل السورة قرن به وعيد، إلا من قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ} فإنه لا وعيد بعده إلا قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَانًا}.
والعدوان تجاوز الحدّ.
والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدّم.
وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط، وذكر العدوان والظلم مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما، وحسن ذلك في الكلام كما قال.
وألفَى قولها كذِبا ومَيْنا

وحسُن العطف لاختلاف اللفظين؛ يقال: بُعْدًا وسُحْقًا؛ ومنه قول يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} فحسن ذلك لاختلاف اللفظ.
و{نُصْلِيهِ} معناه نُمسّه حرّها.
وقد بيّنا معنى الجمع بين هذه الآي وحديث أبي سعيد الخُدْريّ في العُصاة وأهل الكبائر لمن أنفذ عليه الوعيد؛ فلا معنى لإعادة ذلك. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا} الإشارة بذلك إلى ما وقع النهي عنه في هذه الجملة من أكل المال بالباطل، وقتل الأنفس.
لأن النهي عنهما جاء متسقًا مسرودًا، ثم ورد الوعيد حسب النهي.
وذهب إلى هذا القول جماعة.
وتقييد أكل المال بالباطل بالاعتداء والظلم على هذا القول ليس المعنى أن يقع على جهة لا يكون اعتداء وظلمًا، بل هو من الأوصاف التي لا يقع الفعل إلا عليه.