فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر، فالقائلون بذلك فريقان: منهم من قال: الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها، ومنهم من قال: هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها، بل بحسب حال فاعليها، ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين.
أما القول الأول: فالذاهبون إليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديدًا، ونحن نشير إلى بعضها، فالأول: قال ابن عباس: كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة، نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف.
الثاني: قال ابن مسعود: افتتحوا سورة النساء، فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة، ثم قال: مصداق ذلك: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31].
الثالث: قال قوم: كل عمد فهو كبيرة.
واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة.
أما الأول: فلأن كل ذنب لابد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل، فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه.
وأما الثاني: فهو أيضا ضعيف، لأن الله تعالى ذكر كثيرًا من الكبائر في سائر السور، ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة.
وأما الثالث: فضعيف أيضا، لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه، وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون أنه معصية، وهو مع ذلك كفر كبير، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة.
وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال: فهذا كله قول من قال: الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها.
وأما القول الثاني: وهو قول من يقول: الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها، فهؤلاء الذين يقولون: إن لكل طاعة قدرا من الثواب، ولكل معصية قدرا من العقاب، فإذا أتى الإنسان بطاعة واستحق بها ثوابا، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتعادلا ويتساويا، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد، لأنه تعالى قال: {فَرِيقٌ في الجنة وَفَرِيقٌ في السعير} [الشورى: 7] ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير.
والقسم الثاني: أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب، ويفضل من الثواب شيء، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير.
والقسم الثالث: أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب، ويفضل من العقاب شيء، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة، وهذا الانحباط هو المسمى بالاحباط، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة.
وهذا قول جمهور المعتزلة.
واعلم أن هذا الكلام مبني على أصول كلها باطلة عندنا.
أولها: أن هذا مبني على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا، وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا إذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل، ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب، وكون المعصية موجبة للعقاب، وثانيها: أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة، فإن ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر، فإن أصروا وقالوا: بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم، فإنهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم، فإن دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد، وثالثها: أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد، وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات، فكان أداء الطاعات أداء لما وجب بسبب النعم السابقة، ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئًا آخر، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فإن عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر، وذلك أيضًا باطل.
ورابعها: أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة، فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة إليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق. اهـ.

.قال القرطبي:

لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثامٍ هي كبائر، وعَدَ على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودلّ هذا على أن في الذنوب كبائرَ وصغائرَ.
وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء، وأن اللّمسة والنظرة تُكفَّر باجتناب الكبائر قَطْعًا بوعده الصدق وقوله الحق، لا أنه يجب عليه ذلك.
ونظير الكلام في هذا ما تقدّم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله}، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أُخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض.
روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر» وروى أبو حاتم البُسْتيّ في صحيح مسنده عن أبي هريرة وأبي سعيد الخُدْرِيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال: «والذي نفسي بيده» ثلاث مرات، ثم سكت فأكبّ كل رجل منا يبكي حزينًا ليَمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ما من عبد يؤدّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفّق» ثم تلا {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فقد تعاضد الكتاب وصحيحُ السنة بتكفير الصغائر قطعًا كالنظر وشِبهه.
وبيّنت السنة أن المراد بـ {تَجْتَنِبُواْ} ليس كلّ الاجتناب لجميع الكبائر. والله أعلم.
وأما الأُصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما محمل ذلك على غلبة الظنّ وقوّة الرّجاء والمشيئةُ ثابتةٌ.
ودلّ على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفيرَ صغائره قطعًا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألاّ تِباعة فيه، وذلك نقض لعُرَى الشريعة.
ولا صغيرة عندنا.
قال القُشيريّ عبد الرحيم: والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعًا من بعض، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي.
قلت: وأيضًا فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم: لا تنظرْ إلى صِغر الذنب ولكن انظر من عصيت كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر، وعلى هذا النحو يخرّج كلام القاضي أبي بكر بن الطيّب والأُستاذ أبي إسحاق الأسفرايني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم؛ قالوا: وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقُبْلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى، ولا ذنب عندنا يُغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] واحتجوا بقراءة من قرأ: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبِيرَ مَا تنْهَوْنَ عَنْهُ} على التوحيد؛ وكبير الإثم الشرك.
قالوا: وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر.
والآيةُ التي قيّدت الحكم فتردّ إليها هذه المطلَقات كلها قولُه تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}.
واحتجوا بما رواه مُسلم وغيرهُ عن أبي أُمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة» فقال له رجل: يا رسول الله، وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: «وإن كان قضيبًا من أَرَاك» فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير.
وقال ابن عباس: الكبيرة كلّ ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب.
وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية؛ وتصديقُه قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}.
وقال طاوس: قيل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب.
وقال سعيد بن جُبير: قال رجل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع؛ غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: الكبائر أربع: اليأس من رَوح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والشِّرك بالله؛ دل عليها القرآن.
وروي عن ابن عمر: هي تسع: قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورَمْي المحصَنة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفِرار من الزّحف، والسحر، والإلحاد في البيت الحرام.
ومن الكبائر عند العلماء: القِمار والسرقة وشرب الخمر وسَبّ السَّلَف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه بأن يسُبّ رجلًا فيَسُبّ ذلك الرجلُ أبويه والسعي في الأرض فسادًا؛ إلى غير ذلك مما يكثر تَعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن، وفي أحاديث خرّجها الأئمة، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملةً وافرة.
وقد اختلف الناس في تَعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها، والذي أقول: إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صِحاح وحِسان لم يُقصد بها الحصر، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره، فالشرك أكبر ذلك كله، وهو الذي لا يُغفر لنصّ الله تعالى على ذلك، وبعده اليأس من رحمة الله؛ لأن فيه تكذيب القرآن؛ إذ يقول وقوله الحق: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] وهو يقول: لا يغفر له؛ فقد حَجَر واسعًا.
هذا إذا كان معتقدًا لذلك؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87].
وبعده القنوط؛ قال الله تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون} [الحجر: 56].
وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتّكل على رحمة الله من غير عمل؛ قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99].
وقال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين} [فصلت: 23] وبعده القتل؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدامَ الوجود، واللِّواطُ فيه قطع النَّسل، والزنى فيه اختلاط الأنساب بالمياه، والخَمرُ فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف، وترك الصلاة والأذان فيه تركُ إظهار شعائر الإسلام، وشهادةُ الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال، إلى غير ذلك مما هو بيّن الضرر؛ فكلّ ذنب عظّم الشرْع التوعُّدَ عليه بالعقاب وشدّده، أو عظّم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة.
فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه، والله أعلم. اهـ.