فصل: من فوائد القاسمي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتترتّب عليها مسائل في أصول الدين: منها تكفير مرتكب الكبيرة عند طائفة من الخوارج، التي تَفرّق بين المعاصي الكبائر والصغائر؛ واعتباره منزلة بين الكفر والإسلام عند المعتزلة، خلافًا لجمهور علماء الإسلام.
فمن العجائب أن يقول قائل: إنّ الله لم يميّز الكبائر عن الصغائر ليكون ذلك زاجرًا للناس عن الإقدام على كلّ ذنب، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات، وليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، هكذا حكاه الفخر في التفسير، وقد تبيّن ذهول هذا القائل، وذهول الفخر عن ردّه، لأنّ الأشياء التي نظَّروا بها ترجع إلى فضائل الأعمال التي لا يتعلّق بها تكليف؛ فإخفاؤها يقصد منه الترغيب في توخّي مَظانّها ليكثر الناس من فعل الخير، ولكن إخفاء الأمر المكلّف به إيقاع في الضلالة، فلا يقع ذلك من الشارع.
والمدخل بفتح الميم اسم مَكان الدخول، ويجوز أن يكون مصدرًا ميميًا.
والمعنى: ندخلكم مكانا كريمًا، أو ندخلكم دخولًا كريمًا.
والكريم هو النفيس في نوعه.
فالمراد إمّا الجنة وإمّا الدخول إليها، والمراد به الجَنّة.
والمُدخل بضمّ الميم كذلك مكانُ أو مَصدرُ أدْخل.
وقرأ نافع، وأبو جعفر: مَدْخلا بفتح الميم وقرأ بقية العشرة بضمّ الميم. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِن تَجْتَنِبُواْ} أي: تتركوا.
{كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} أي: كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها، مما ذكر هاهنا ومما لم يذكر.
{نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} أي: صغائر ذنوبكم، ونمحها عنكم، وندخلكم الجنة، كما قال تعالى: {وَنُدْخِلْكُم} في الآخرة.
{مّدْخَلًا كَرِيمًا} أي: حسنًا وفي الجنة، و{مدخلًا} قرئ بضم الميم، اسم مكان أو مصدر ميمي، أي: إدخالًا مع كرامة، وبفتح الميم، وهو أيضًا يحتمل المكان والمصدر، وفي الآية دليل على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، وردّ على من قال: إن المعاصي كلها كبائر، وإنه لا صغيرة.
قال الإمام ابن القيم في [الجواب الكافي]: قد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وقال تعالى: {الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلّا اللّمَمَ} [النجم: من الآية 32].
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».
وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات:
إحداها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها، والقيام بحقوقها، بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية.
الثانية: أن تقاوم الصغائر، ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر.
الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر، فتأمّل هذا، فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.
وفي الصحيح عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أنه قال: «أَلاَ أُنَبّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟».
قُالوَا بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ». وَجَلَسَ وَكَانَ مُتّكِئًا فَقَالَ: «أَلاَ وَقَوْلُ الزّورِ (ثلاثًا)».
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «اجْتَنِبُوا السّبْعَ الْمُوبِقَاتِ».
قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: «الإشّرْكُ بِاللّهِ، وَالسّحْرُ، وَقَتْلُ النّفْسِ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ، وَأَكْلُ الرّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتّوَلّي يَوْمَ الزّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ».
وفي الصحيح عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود- رضى الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم- أي: الذّنْبِ عِنْدَ اللّهِ أَكْبَرُ؟، قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلّهِ نِدّا وَهْوَ خَلَقَكَ».
قُلْتُ ثُمّ أي:؟ قَالَ: «ثُمّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ».
قُلْتُ ثُمّ أَىّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ».
قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، الآية. ثم ساق الخلاف في تعدادها.
وعندي أن الصواب هو الوقوف في تعدادها على ما صحت به الأحاديث، فإن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مبين لكتاب الله عز وجل، أمين على تأويله، والمرجع في بيان كتاب الله تعالى إلى السنة الصحيحة، كما أن المرجع في تعريف الكبيرة إلى العدّ دون ضبطها بحد، كما تكلفه جماعة من الفقهاء، وطالت المناقشة بينهم في تلك الحدود، وإن منها ما ليس جامعًا، ومنها ما ليس مانعًا، فكله مما لا حاجة إليه بعد ورود صحاح الأخبار في بيان ذلك.
وقد ساق الحافظ ابن كثير هاهنا جملة وافرة منها وجوّد النقل عن الصحابة والسلف والتابعين، فانظره فإنه نفيس. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلًا كَرِيمًا}.
هذه الآية هي إحدى ثماني آيات قال عنها ابن عباس- رضي الله عنه-: في هذه السورة- سورة النساء- ثماني آيات خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، وقلنا: إن هذه الآيات تبدأ بقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}، {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، ثم جاءت: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}. والاجتناب ليس معناه عدم مزاولة الحدث أو الفعل، ولكن عدم الاقتراب من مظان الحدث أو الفعل حتى يسدّ المؤمن على نفسه مخايلة شهوة المعصية له وتصوره لها وترائيها له.
هذه الآيات الكريمات كانت خيرًا لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، لأنها تحمي من حمق الاختيار الذي وجد في الإنسان حين لا يلتزم بمنهج الله، ولو أن الإنسان كان مسيَّرًا وَمُكْرَهًا على الفعل لارتاح من هذا الاختيار. وتعب الإنسان جاء من ناحية أن اغترّ بمزيته على سائر خلق الله، والميزة التي ميِّز الله بها الإنسان هي العَقل الذي يختار به بين البديلات. بينما سائر الأجناس كلها رضيت من الله أن تكون مسخرة مقهورة على ما جعلها له بدون اختيار. ونعرف أن الحق قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
فالإنسان قد ظلم نفسه، لأنه أرجح نفسه عند اختيار الشهوة أو اختيار مرادات منهج الله، بينما المقهورون أو المسخرون ليست عندهم هذه المسألة. وكل كائن منهم يقوم بعمله آليًا وارتاح من حمق الاختيار- فهذه الآيات طمأنت الإنسان على أنه إن حمق اختياره في شيء فالله يريد أن يتوب عليه، والله يريد أن يخفف عنه. والله يريد إن اجتنب الكبائر أن يرفع عنه السيئات ويكفرها. كل هذه مطمئنات للنفس البشرية حتى لا تأخذها مسألة اليأس من حمق الاختيار، فيوضح: أنا خالقك وأعرف أنك ضعيف لأنَّ عندك مسلكين: كل مسلك يغريك، تكليف الله بما فيه من الخير لك وما تنتظره من ثواب الله في الآخرة يُغري، وشهوة النفس العاجلة تُغري.
وما دامت المسألة قد تخلخلت بين اختيار واختيار فالضعف ينشأ؛ لذلك يوضح سبحانه: أنا أحترم هذا فيك لأنه وليد الاختيار، وأنا الذي وهبت لك هذا الاختيار.
والحق حين وهب الاختيار لهذا الجنس الذي هو سيد الأجناس كلها، يُحبُّ أن يأتي لربه راغبًا محبًّا: لأن هناك فارقًا بين أن يسخَّر المسخَّر ولا يستطيع أن ينفلَت عما قدر له أن يعمله، وتلك تؤديها صفة القدرة لله، لكن لم تعط الله صفة المحبوبية؛ لأن المحبوبية أن تكون مختارًا أن تطيع ومختارًا أن تعصي ثم تطيع، هذه صفة المحبوبية، والله يريد من الإنسان أن يثبت بطاعته صفة المحبوبية له سبحانه، فالإنسان المحب لمولاه برغم أنه مختار أن يفعل الطاعة أولا يفعلها ينحاز بالإيمان إلى جانب الطاعة.
{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} كأن الله بعد تكليفاته في أمور الأعراض والأموال وتكليفاته في الدماء من قتل النفس وغيرها، أوضح: إياكم أن تستقبلوا الأشياء استقبالًا يجعلكم تيأسون من أنكم قد تعجزون عن التكليف لبعض الأمور، فأنا سأرضى باجتناب الكبائر من المساوي: فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، والجمعة للجمعة كفارة، ومن رمضان لرمضان كفارة، لكن بشرط ألا يكون عندكم إصرار على الصغائر لماذا؟ لأنك إن قدرت ذلك فقدر أنك لا تقدر على استبقاء حياتك إلى أن تستغفر، فلا تقل: سأفعل الذنب ثم أستغفر، هذه لا تضمنها، وأيضا تكون كالمستهزئ بربّه.
{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}- في السيئات يقول: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وقلنا: إن الكفر هو الستر أي يسترها- ومعنى نسترها يعني لا نعاقب عليها، فالتكفير إماطة للعقاب، والإحباط إماطة للثواب. فإن ارتكب إنسان أمرًا يستحق عليه عقابًا وقد اجتنب الكبائر يكفر عنه الله أي يضع ويستر عنه العقاب، أَماّ مَن عمل حسنة ولم يقبلها الله، فهو يحبطها، إذن فالتكفير- كما قلنا- إماطة العقاب، والإحباط إماطة للثواب كما في قوله: {فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217].
أي ليس لهم على تلك الأعمال ثواب؛ لأنهم فعلوها وليس في بالهم الذي يعطي الثواب وهو الله. بل كان في بالهم الخلق، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فعلت ليقال وقد قيل».
أنت فعلت ليقال وقد قيل، وقالوا عنك إنك محسن كبير، قالوا: إنك بنيت المسجد، وقرأوا اللافتة التي وضعتها على المسجد وسط احتفال كبير. ويقول الحق: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23].
أنت فعلت ليقال وقد قيل؛ ولذلك فالذين عملوا مثل هذه ووضعوا لافتات من رخام عليهم أن يفطنوا لهذا الأمر، وإن كان الواحد منهم حريصًا على أنه يأخذ الثواب من يد الله فليرفع هذه اللافتة ويسترها وتنتهي المسألة، فالله سبحانه وتعالى يحب ممن يتصدق أن يكون كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم:
«ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
فأنت حين تتصدق لماذا تفضح من يتقبل الصدقة. والحق يقول: {إِن تَجْتَنِبُواْ}، والاجتناب هو إعطاء الشيء جانبًا، ولذلك يقولون: فلان ازورّ جانبه عني، أي أنه عندما قابلني أعطاني جانبه، والمراد في قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ} هو التباعد، والحق ساعة يطلب منك ألا تصنع الحدث ويطلب منك بأسلوب آخر أن تجتنبه، فهذا يدل على أن الاجتناب أبلغ، لأن الاجتناب معناه ألا تكون مع المنهي عنه في مكان واحدٍ فعندما يقول الحق: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30].
وعندما يقول: {وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30].
فاجتنبوه أي: ابتعدوا عنه. لماذا؟ لأن حمى الله محارمه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه..».