فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

ودّلت هذه الآية على تأديب الرجال نساءَهم، فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسيء الرّجل عِشرتها.
وقَوّام فعّال للمبالغة؛ من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد.
فقيام الرّجال على النساء هو على هذا الحد؛ وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز وأنْ عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية؛ وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة والعقل والقوّة في أمر الجهاد والميراث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد راعى بعضهم في التفضيل الِّلحْيَة وليس بشيء؛ فإن الَّلحْيَة قد تكون وليس معها شيء مما ذكرنا وقد مضى الردّ على هذا في البقرة. اهـ.

.قال صاحب صفوة التفاسير:

ورد النظم الكريم {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ولو قال: بتفضيلهم عليهن لكان أخضر وأوجز ولكنَّ التعبير ورد بتلك الصيغة لحكمة جليلة وهي إِفادة أن المرأة من الرجل بمنزلة عضوٍ من جسم الإِنسان وكذلك العكس، فالرجل بمنزلة الرأس، والمرأة بمنزلة عضوٌ على عضو، فالأذن لا تغني عن العين، واليد لا تغني عن القدم، ولا عار على الشخص أن يكون قلبه أفضل من معدته ورأسه أشرف من يده فالكل يؤدي دوره بانتظام ولا غنى لواحدٍ عن الآخر وهذا هو سر التعبير بقوله: {بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فظهر أن الآية في نهاية الإيجاز والإِعجاز. اهـ.

.قال القرطبي:

فَهِم العلماء من قوله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قوّامًا عليها، وإذا لم يكن قَوّامًا عليها كان لها فسخ العقد؛ لزوال المقصود الذي شُرع لأجله النكاح.
وفيه دلالة واضحةٌ من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة؛ وهو مذهب مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة؛ لا يفسخ؛ لقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وقد تقدّم القول في هذا في هذه السورة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وبما أنفقوا} جيء بصيغة الماضي للإيماء إلى أنّ ذلك أمر قد تقرّر في المجتمعات الإنسانية منذ القدم، فالرجال هم العائلون لنساء العائلة من أزواج وبنات.
وأضيفت الأموال إلى ضمير الرجال لأنّ الاكتساب من شأن الرجال، فقد كان في عصور البداوة بالصيد وبالغارة وبالغنائم والحرث، وذلك من عمل الرجال، وزاد اكتساب الرجال في عصور الحضارة بالغرس والتجارة والإجارَة والأبنية، ونحو ذلك، وهذه حجّة خَطابية لأنّها ترجع إلى مصطلَح غالب البشر، لاسيما العرب.
ويَنْدُر أن تتولّى النساء مساعي من الاكتساب، لكن ذلك نادر بالنسبة إلى عمل الرجل مثل استئجار الظئر نفسَها وتنمية المرأة مالًا ورثتْه من قرابتها.
ومن بديع الإعجاز صوغ قوله: {بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} في قالب صالح للمصدرية وللموصولية، فالمصدرية مشعرة بأنّ القيامية سببها تفضيل من الله وإنفاق، والموصولية مشعرة بأنّ سببها ما يعلمه الناس من فضل الرجال ومن إنفاقهم ليصلح الخطاب للفريقين: عالمهم وجاهلهم، كقول السموأل أو الحارثي:
سَلِي إن جَهِلْتتِ الناس عنّا وعنهم ** فليس سواء عالم وجهول

ولأنّ في الإتيان بـ (بما) مع الفعل على تقدير احتمال المصدرية جَزَالةً لا توجد في قولنا: بتفضيل الله وبالإنفاقِ، لأنّ العرب يرجّحون الأفعال على الأسماء في طرق التعْبير. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {قانتات حفظات لّلْغَيْبِ} فيه وجهان:
الأول: قانتات، أي مطيعات لله، {حفظات لّلْغَيْبِ} أي قائمات بحقوق الزوج، وقدم قضاء حق الله ثم أتبع ذلك بقضاء حق الزوج.
الثاني: أن حال المرأة إما أن يعتبر عند حضور الزوج أو عند غيبته، أما حالها عند حضور الزوج فقد وصفها الله بأنها قانتة، وأصل القنوت دوام الطاعة، فالمعنى أنهن قيمات بحقوق أزواجهن، وظاهر هذا إخبار، إلا أن المراد منه الأمر بالطاعة.
واعلم أن المرأة لا تكون صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها، لأن الله تعالى قال: {فالصالحات قانتات} والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق، فهذا يقتضي أن كل امرأة تكون صالحة، فهي لابد وأن تكون قانتة مطيعة.
قال الواحدي رحمه الله: لفظ القنوت يفيد الطاعة، وهو عام في طاعة الله وطاعة الأزواج، وأما حال المرأة عند غيبة الزوج فقد وصفها الله تعالى بقوله: {حفظات لّلْغَيْبِ} واعلم أن الغيب خلاف الشهادة، والمعنى كونهن حافظات بمواجب الغيب، وذلك من وجوه: أحدها: أنها تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها، ولئلا يلتحق به الولد المتكون من نطفة غيره، وثانيها: حفظ ماله عن الضياع، وثالثها: حفظ منزله عما لا ينبغي، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «خير النساء إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها» وتلا هذه الآية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} هذا كله خبر، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في مالِه وفي نفسها في حال غيبة الزوج.
وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير النساء التي إذا نظرت إليها سَرّتْك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غِبْتَ عنها حفِظتك في نفسها ومالِك» قال: وتلا هذه الآية {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} إلى آخر الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم لعمر: «ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء المرأةُ الصالحة إذا نظر إليها سرّتْه وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته» أخرجه أبو داود.
وفي مصحف ابن مسعود {فالصّوالح قوانِت حوافِظ} وهذا بناء يختص بالمؤنث.
قال ابن جِنَّي: والتكسير أشبه لفظًا بالمعنى؛ إذا هو يعطي الكثرة وهي المقصود ها هنا.
و{مَا} في قوله: {بِمَا حَفِظَ الله} مصدرية، أي بحفظ الله لهنّ.
ويصح أن تكون بمعنى الذي، ويكون العائد في حفظ ضمير نصب وفي قراءة أبي جعفر بما حفط الله بالنصب قال النحاس: الرفع أبين أي حافظات لمغيب أزواجهن بِحفظ الله ومعونته وتسديده.
وقيل: بما حفِظهن الله في مهورهن وعشرتهن.
وقيل: بما استحفظهن الله إياه من أداء الأمانات إلى أزواجهن.
ومعنى قراءة النصب: بحفظهن الله؛ أي بحفظهن أمره أو دينه.
وقيل في التقدير: بما حفظن الله، ثم وُحِّد الفعل؛ كما قيل:
فإن الحوادث أَودَى بها

وقيل: المعنى بحفظٍ الله؛ مثل حفِظتُ الله. اهـ.

.قال الفخر:

ما في قوله: {بِمَا حَفِظَ الله} فيه وجهان:
الأول: بمعنى الذي، والعائد إليه محذوف، والتقدير: بما حفظه الله لهن، والمعنى أن عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن، حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله: {بِمَا حَفِظَ الله} يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي هذا في مقابلة ذاك.
والوجه الثاني: أن تكون ما مصدرية، والتقدير: بحفظ الله، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أنهن حافظات للغيب بما حفظ الله إياهن، أي لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله، فيكون هذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل.
والثاني: أن المعنى: هو أن المرأة إنما تكون حافظة للغيب بسبب حفظهن الله أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره، فإن المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكاليف الله وتجتهد في حفظ أوامره لما أطاعت زوجها، وهذا الوجه يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والفاء في قوله: {فالصالحات} للفصيحة، أي إذا كان الرجال قوّامين على النساء فمن المهمّ تفصيل أحوال الأزواج منهنّ ومعاشرتهنّ أزواجهنّ وهو المقصود، فوصف الله الصالحات منهن وصفا يفيد رضاه تعالى، فهو في معنى التشريع، أي ليَكُنَّ صالحات.
والقانتات: المطيعات لله.
والقنوت: عبادة الله، وقدّمه هنا وإن لم يكن من سياق الكلام للدلالة على تلازم خوفهنّ الله وحفظ حقّ أزواجهنّ، ولذلك قال: {حافظات للغيب}، أي حافظات أزواجهنّ عند غيبتهم.
وعلّق الغيب بالحفظ على سبيل المجاز العقلي لأنّه وقته.
والغيب مصدر غاب ضدّ حضر.
والمقصود غيبة أزواجهنّ، واللام للتعدية لضعف العامل، إذ هو غير فِعل، فالغيب في معنى المفعول، وقد جعل مفعولا للحفظ على التوسّع لأنّه في الحقيقة ظرف للحفظ، فأقيم مقام المفعول ليشمل كلّ ما هو مظنّة تخلّف الحفظ في مدّته: من كلّ ما شأنه أن يحرسه الزوج الحاضر من أحوال امرأته في عرضه وماله، فإنّه إذا حضر يكون من حضوره وازعان: يزعها بنفسه ويَزعها أيضًا اشتغالها بزوجها، أمّا حال الغيبة فهو حال نسيان واستخفاف، فيمكن أن يبدو فيه من المرأة ما لا يرضي زوجها إن كانت غير صالحة أو سفيهة الرأي، فحصل بإنابة الظرف عن المفعول إيجاز بديع، وقد تبعه بشّار إذ قال:
ويصُون غَيْبَكُم وإن نَزَحا

والباء في {بما حفظ الله} للملابسة، أي حفظا ملابسًا لما حفظ الله، و(ما) مصدرية أي بحفظِ اللَّهِ، وحفظُ اللَّه هو أمره بالحفظ، فالمراد الحفظ التكليفي، ومعنى الملابسة أنهنّ يحفظن أزواجهنّ حفظًا مطابقًا لأمر الله تعالى، وأمرُ الله يرجع إلى ما فيه حقّ للأزواج وحدهم أو مع حقّ الله، فشمل ما يكرهه الزوج إذا لم يكن فيه حرج على المرأة، ويخرج عن ذلك ما أذن الله للنساء فيه، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم هندا بنت عتبة: أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدَها بالمعروف.
لذلك قال مالك: إنّ للمرأة أن تُدْخِل الشهود إلى بيت زوجها في غيبته وتشهدهم بما تريد وكما أذن لهن النبي أن يخرجن إلى المساجد ودعوة المسلمين. اهـ.