فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجعلوا الإذن بالموعظة والهجر والضرب مرتّبا على هذا العصيان، واحتجّوا بما ورد في بعض الآثار من الإذن للزوج في ضرب زوجته الناشز، وما ورد من الأخبار عن بعض الصحابة أنّهم فعلوا ذلك في غير ظهور الفاحشة.
وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار مَحْمَل الأباحة فيها أنّها قد روعي فيها عرف بعض الطبقات من الناس، أو بعض القبائل، فإنّ الناس متفاوتون في ذلك، وأهل البدو منهم لا يعُدّون ضرب المرأة اعتداء، ولا تعدّه النساء أيضًا اعتداء، قال عامر بن الحارث النمري الملقّب بجِرَاننِ العَوْد.
عَمِدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ ** ولَلْكَيْسُ أمضى في الأمور وأنجح

خُذا حَذرًا يا خُلَّتيَّ فإنّني ** رأيتُ جران العَوْد قد كاد يصلح

والتحيْت: قشرّت، أي قددت، بمعنى: أنّه أخذ جلدًا من باطن عنق بعير وعمله سوطا ليضرب به امرأتيه، يهدّدهما بأنّ السوط قد جَفّ وصلح لأن يضرب به.
وقد ثبت في الصحيح أنّ عمر بن الخطاب قال: «كنا معشر المهاجرين قوما نغلب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم فأخذ نساؤنا يتأدّبن بأدب نساء الأنصار».
فإذا كان الضرب مأذونا فيه للأزواج دون وُلاة الأمور، وكان سببه مجرّد العصيان والكراهِية دون الفاحشة، فلا جرم أنّه أذن فيه لقوم لا يعُدّون صدوره من الأزواج إضرارًا ولا عارا ولا بدعا من المعاملة في العائلة، ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلاّ بشيء من ذلك.
وقوله: {فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} مقصود منه الترتيب كما يقتضيه ترتيب ذكرها مع ظهور أنّه لا يراد الجمع بين الثلاثة، والترتيب هو الأصل والمتبادر في العطف بالواو، قال سعيد بن جبير: يعظها، فإن قبلت، وإلاّ هجرها، فإن هي قبلت، وإلاّ ضربها، ونُقل مثله عن علي.
واعلم أنّ الواو هنا مراد بها التقسيم باعتبار أقسام النساء في النشوز. اهـ.
قال ابن عاشور:
ومعنى {تخافون نشوزهن} تخافون عواقبه السيّئة.
فالمعنى أنّه قد حصل النشوز مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه لا مطلق المغاضبة أو عدم الامتثال، فإنّ ذلك قلّما يخلو عنه حال الزوجين، لأنّ المغاضبة والتعاصي يعرضان للنساء والرجال، ويزولان، وبذلك يبقى معنى الخوف على حقيقته من توقّع حصول ما يضرّ، ويكون الأمر بالوعظ والهجر والضرب مراتبَ بمقدار الخوف من هذا النشوز والتباسه بالعدوان وسوء النية.
والمخاطب بضمير {تخافون} إمَّا الأزواج، فتكون تعْدية (خاف) إليه على أصل تعدية الفعل إلى مفعوله، نحو {فلا تخافوهم وخافون} [آل عمران: 175] ويكون إسناد {فعظوهن واهجروهن واضربوهن} على حقيقته.
ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من وُلاَة الأمور والأزواج؛ فيتولّى كلّ فريق ما هو من شأنه، وذلك نظير قوله تعالى في سورة البقرة [229]: {ولا يَحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله} إلخ.
فخطاب (لكم) للأزواج، وخطاب {فإن خفتم} [البقرة: 229] لولاة الأمور، كما في الكشّاف.
قال: ومثل ذلك غير عزيز في القرآن وغيره.
يريد أنّه من قبيل قوله تعالى في سورة الصفّ [11- 13]: {تؤمنون بالله ورسوله} إلى قوله: {وبشر المؤمنين} فإنّه جعل (وبشّر) عطفًا على (تؤمنون) أي فهو خطاب للجميع لكنّه لمّا كان لا يتأتّى إلاّ من الرسول خصّ به.
وبهذا التأويل أخذ عطاء إذ قال: لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها.
قال ابن العربي: هذا من فقه عطاء وفهمه الشريعة ووقوفه على مظانّ الاجتهاد علم أنّ الأمر بالضرب هنا أمر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى كقول النبي: «ولن يضرب خياركم».
وأنا أرى لعطاء نظرا أوسع ممّا رآه له ابن العربي: وهو أنّه وضع هاته الأشياء مواضعها بحسب القرائن، ووافقه على ذلك جمع من العلماء، قال ابن الفرس: وأنكروا الأحاديث المرويَّة بالضرب.
وأقول: أو تأوّلوها.
والظاهر أنّ الإذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين فأذن للزوج بضرب امرأته ضرب إصلاح لقصد إقامة المعاشرة بينهما؛ فإن تجاوز ما تقتضيه حالة نشوزها كان معتديا.
ولذلك يكون المعنى {واللاتي تخافون نشوزهن} أي تخافون سوء مغبّة نشوزهنّ، ويقتضي ذلك بالنسبة لولاة الأمور أنّ النشوز رفع إليهم بشكاية الأزواج، وأنّ إسناد {فعظوهن} على حقيقته، وأمّا إسناد {واهجروهن في المضاجع} فعلى معنى إذن الأزواج بهجرانهنّ، وإسناد {واضربوهن} كما علمت.
وضمير المخاطب في قوله: {فإن أطعنكم} يجري على التوزيع، وكذلك ضمير {فلا تبغوا عليهن سبيلًا}.
والحاصل أنّه لا يجوز الهجر والضرب بمجرّد توقّع النشوز قبل حصوله اتّفاقًا، وإذا كان المخاطب الأزواج كان إذنا لهم بمعاملة أزواجهم النواشز بواحدة من هذه الخصال الثلاث، وكان الأزواج مؤتمنين على توخّي مواقع هذه الخصال بحسب قوّة النشوز وقدره في الفساد، فأمّا الوعظ فلا حدّ له، وأمّا الهجر فشرطه أن لا يخرج إلى حدّ الإضرار بما تجده المرأة من الكمد، وقد قدّر بعضهم أقصاه بشهر.
وأمّا الضرب فهو خطير وتحديده عسير، ولكنّه أذن فيه في حالة ظهور الفساد؛ لأنّ المرأة اعتدَتْ حينئذ، ولكن يجب تعيين حدّ في ذلك، يبيّن في الفقه، لأنّه لو أطلق للأزواج أن يتولّوه، وهم حينئذ يشْفُون غضبهم، لكان ذلك مظنّة تجاوز الحدّ، إذ قلّ من يعاقب على قدر الذنب، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة.
بيد أنّ الجمهور قيّدوا ذلك بالسلامة من الإضرار، وبصدوره ممّن لا يعدّ الضرب بينهم إهانة وإضرارًا.
فنقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أنّ الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعَها، ولا الوقوفَ عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أنّ من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لاسيما عند ضعف الوازع. اهـ.

.قال الفخر:

{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي إذا رجعن عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} أي لا تطلبوا عليهن الضرب والهجران طريقًا على سبيل التعنت والإيذاء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا} احتمال ضمير الخطاب فيه يجري على نحو ما تقدّم في ضمائر {تخافون} وما بعده، والمراد الطاعة بعد النشوز، أي إن رجعن عن النشوز إلى الطاعة المعروفة.
ومعنى: {فلا تبغوا عليهن سبيلًا} فلا تطلبوا طريقًا لإجراء تلك الزواجر عليهنّ، والخطاب صالح لكلّ من جعل له سبيل على الزوجات في حالة النشوز على ما تقدّم.
والسبيل حقيقتُه الطريق، وأطلق هنا مجازًا على التوسّل والتسبّب والتذرّع إلى أخذ الحقّ، وسيجيء عند قوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} في سورة براءة (91)، وانظر قوله الآتي {وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلًا}.
و{عليهنّ} متعلّق بـ {سبيلا} لأنّه ضمّن معنى الحكم والسلطان، كقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة: 91]. اهـ.

.قال الفخر:

{إِنَّ الله كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} وعلوه لا بعلو الجهة، وكبره لا بكبر الجثة، بل هو علي كبير لكمال قدرته ونفاذ مشيئته في كل الممكنات.
وذكر هاتين الصفتين في هذا الموضع في غاية الحسن، وبيانه من وجوه: الأول: أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النسوان، والمعنى أنهن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم، فالله سبحانه علي قاهر كبير قادر ينتصف لهن منكم ويستوفي حقهن منكم، فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يدًا منهن، وأكبر درجة منهن.
الثاني: لا تبغوا عليهن إذا أطعنكم لعلو أيديكم.
فإن الله أعلى منكم وأكبر من كل شيء، وهو متعال عن أن يكلف إلا بالحق.
الثالث: أنه تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون، فكذلك لا تكلفوهن محبتكم، فإنهن لا يقدرن على ذلك.
الرابع: أنه مع علوه وكبرئايه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، بل يغفر له، فإذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها وتتركوا معاقبتها.
الخامس: أنه تعالى مع علوه وكبرئايه اكتفى من العبد بالظواهر، ولم يهتك السرائر، فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة، وأن لا تقعوا في التفتيش عما في قلبها وضميرها من الحب والبغض. اهـ.

.قال الخازن:

{إن الله كان عليًا كبيرًا} العلي الكبير في صفة الله تعالى معناه الرفيع الذي يعلو عن وصف الواصفين ومعرفة العارفين بالإطلاق الذي يستحق جميع صفات المدح والتكبير هو المستغني عن غيره وذلك هو الله تعالى الموصوف بالجلال والعظمة والكبرياء وكبر الشأن الذي يصغر كل أحد لكبريائه وعظمته تعالى: والمعنى إن الله متعال من أن يكلف عباده ما لا يطيقونه.
وقيل إن النساء وإن ضعفن عن دفع ظلم الرجال عنهن فإن الله علي كبير قادر على أن ينتصف لهن ممن ظلمهن من الرجال وقيل معناه أن الله مع علوه وكبريائه يقبل توبة العاصي إذا تاب ويغفر له فإذا تابت المرأة من نشوزها، فالأولى بكم أن تقبلوا توبتها وتتركوا معاتبتها واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحب أيديكم فأنتم أحق بالعفو عمن جنى عليكم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولِين الجانب؛ أي إن كنتم تقدِرون عليهن فتذكّروا قدرة الله؛ فيَدهُ بالقدرة فوق كل يد.
فلا يَستعلي أحد على امرأته فالله بالمرصاد؛ فلذلك حسن الاتصاف هنا بالعلوّ والكبر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {إن الله كان عليًا كبيرًا} تذييل للتهديد، أي إنّ الله عليٌّ عليكم، حاكم فيكم، فهو يعدل بينكم، وهو كبير، أي قويّ قادر، فبوصف العلوّ يتعيّن امتثال أمره ونهيه، وبوصف القدرة يُحذر بطشه عند عصيان أمره ونهيه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{إن الله كان عليًا كبيرًا} قال أبو سليمان الدمشقي: لا تبغوا على أزواجكم، فهو ينتصر لهن منكم.
وقال الخطابي: الكبير: الموصوف بالجلال، وكبر الشأن، يصغر دون جلاله كل كبير.
ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين. اهـ.

.قال القرطبي:

اعلم أن الله عزّ وجلّ لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صُراحًا إلا هنا وفي الحدود العظام؛ فسَاوى معصِيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر، وولّى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القُضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانا من الله تعالى للأزواج على النساء.
قال المهلب: إنما جوّز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهنّ في المباضعة.
واختلف في وجوب ضربها في الخدمة، والقياس يوجِب أنه إذا جاز ضربها في المباضعة جاز (ضربها) في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف.