فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس {إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما} قال: هما الحكمان.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد {إن يريدا إصلاحًا} قال: أما أنه ليس بالرجل والمرأة ولكنه الحكمان {يوفق الله بينهما} قال: بين الحكمين.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك {إن يريدا إصلاحًا} قال: هما الحكمان إذا نصحا المرأة والرجل جميعًا.
واخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {إن الله كان عليمًا خبيرًا} قال: بمكانهما.
وأخرج البيهقي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. أن امرأة أتته فقالت: ما حق الزوج على امرأته؟ فقال: «لا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب، ولا تعطي من بيته شيئًا إلا بإذنه، فإن فعلت ذلك كان له الأجر وعليها الوزر. ولا تصوم يومًا تطوعًا إلا بإذنه، فإن فعلت أثمت ولم تؤجر، ولا تخرج من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها الملائكة، ملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى تتوب أو تراجع. قيل: فإن كان ظالمًا؟ قال: وإن كان ظالمًا».
وأخرج الطبراني والحاكم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عباس قال: لما اعتزلت الحرورية فكانوا في واد على حدتهم قلت لعلي: يا أمير المؤمنين أبرد عن الصلاة لعلِّي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم؟ فأتيتهم ولبست أحسن ما يكون من الحلل فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس، فما هذه الحلة؟ قال: ما تعيبون عليّ.
لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الحلل ونزل. {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] قالوا: فما جاء بك؟ قلت: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه، وأوّل من آمن به، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثًا. قلت ما هن؟ قالوا: أولهن أنه حكم الرجال في دين الله وقد قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57] قلت: وماذا؟ قالوا: وقاتل ولم يسب ولم يغنم، لئن كانوا كفارًا لقد حلت له أموالهم، ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم. قلت: وماذا؟ قالوا: ومحا اسمه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا تشكون أترجعون؟ قالوا: نعم. قلت: أما قولكم أنه حكم الرجال في دين الله، فإن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95] إلى قوله: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة: 95] وقال في المرأة وزوجها {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها} أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب فيها ربع درهم؟ قالوا اللهم في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم. قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. وأما قولكم أنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام، إن الله تعالى يقول: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] وأنتم تترددون بين ضلالتين فاختاروا أيتهما شئتم، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. وأما قولكم محا اسمه من أمير المؤمنين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشًا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابًا فقال: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب يا علي محمد بن عبد الله ورسول الله كان أفضل من علي، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. فرجع منهم عشرون ألفًا وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (36):

قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا بنتيجة التقوى: العدل والفضل، والترغيب في نواله، والترهيب من نكاله- إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى، وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخبر، وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها، فكان التقدير حتمًا: فاتقوه؛ عطف عليه، أو على نحو {وسئلوا الله من فضله} [النساء: 32] أو على {اتقوا ربكم} الخُلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة، وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق فقال: {واعبدوا الله} أي أطيعوا- الذي له الكمال كله فلا يشبهه شيء- طاعة محضة من غير شائبة خلاف مع الذل والانكسار، لأن ملاك ذلك كله التعبد بامتثال الأوامر واجتناب الزواجر.
ولما كان سبحانه غنيًا لم يقبل إلا الخالص، فقال مؤكدًا لما أفهمه ما قبله: {ولا تشركوا به شيئًا}.
ولما أمر للواحد الحقيقي بما ينبغي له، وكان لذلك درجتان: أولاهما الإيمان، وأعلاهما الإحسان، فصار المأمور بذلك مخلصًا في عبادته؛ أمره بالإحسان في خلافته، وبدأ بأولى الناس بذلك، وهو من جعله سببًا لإيجاده فقال- مشيرًا إلى أنه لا يرضى له من ذلك إلا درجة الإحسان، وإلى أن من أخلص له أغناه عن كل ما سواه، فلا يزال منعمًا على من عداه-: {وبالوالدين} أي وأحسنوا بهما {إحسانًا} وكفى دلالة على تعظيم أمرهما جعل برهما قرين الأمر بتوحيده سبحانه.
ولما كان مبنى السورة على الصلة لاسيما لذي الرحم، قال مفصلًا لما ذكر أول السورة تأكيدًا له: {وبذي القربى} لتأكد حقهم بمزيد قربهم، ولاقتضاء هذه السورة مزيد الحث على التعاطف أعاد الجار، ثم أتبع ذلك من تجب مراعاته لله، أو لمعنى تفسد بالإخلال به ذات البين، وبدأ بما لله لأنه إذا صح تبعه غيره فقال: {واليتامى والمساكين} أي وإن لم تكن رحمهم معروفة، وخصهم لضعفهم وقدم اليتيم لأنه أضعف، لأنه لصغره يضعف عن دفع حاجته ورفعها إلى غيره {والجار ذي القربى} أي لأن له حقين {والجار الجنب} أي الذي لا قرابة له، للبلوى بعشرته خوفًا من بالغ مضرته «اللهم! إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول» {والصاحب الجنب} أي الملاصق المخالط في أمر من الأمور الموجبة لامتداد العشرة {وابن السبيل} أي المسافر لغربته وقلة ناصره ووحشته {وما ملكت أيمانكم} أي من العبيد والإماء كذلك، فإن الإحسان إليهم طاعة عظيمة، آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلاة وما ملكت أيمانكم».
ولما ذكر الإحسان الذي عماده التواضع والكرم، ختم الآية ترغيبًا فيه وتحذيرًا من منعه معللًا للأمر به بقوله: {إن الله} أي بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى {لا يحب} أي لا يفعل فعل المحب مع {من كان مختالًا} أي متكبرًا معجبًا بنفسه متزينًا بحليته مرائيًا بما آتاه الله تعالى من فضله على وجه العظم واحتقار الغير، يأنف من أن ينسب إليه أقاربه الفقراء، ويقذر جيرانه إذا كانوا ضعفاء، فلا يحسن إليهم لئلا يلمّوا به فيعيَّر بهم.
ولما كان المختال ربما أحسن رياء، قال معلمًا أنه لا يقبل إلا الخالص: {فخورًا} مبالغًا في التمدح بالخصال، يأنف من عشرة الفقراء وفي ذلك أتم ترهيب من الخلق المانع من الإحسان، وهو الاختيال على عباد الله والافتخار عليهم ازدراء بهم، فإنه لا مقتضى لذلك لأن الكل من نفس واحدة، والفضل نعمة منه سبحانه، يجب شكرها بالتواضع لتدوم، ويحذر كفرها بالفخار خوفًا من أن تزول. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما أرشد كل واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر وإلى إزالة الخصومة والخشونة، أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة وذكر منها عشرة أنواع.
النوع الأول: قوله: {واعبدوا الله} قال ابن عباس: المعنى وحدوه، واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك، وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح، فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد، وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]. اهـ.

.قال أبو حيان:

{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمساكين} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر أنّ الرجال قوامون على النساء بتفضيل الله إياهم عليهن، وبإنفاق أموالهم، ودل بمفهوم اللقب أنه لا يكون قوامًا على غيرهن، أوضح أنه مع كونه قوامًا على النساء هو أيضًا مأمور بالإحسان إلى الوالدين، وإلى من عطفه على الوالدين.
فجاءت حثًا على الإحسان، واستطرادًا لمكارم الأخلاق.
وأن المؤمن لا يكتفي من التكاليف الإحسانية بما يتعلق بزوجته فقط، بل عليه غيرها من بر الوالدين وغيرهم.
وافتتح التوصل إلى ذلك بالأمر بإفراد الله تعالى بالعبادة، إذ هي مبدأ الخير الذي تترتب الأعمال الصالحة عليه. اهـ.

.قال القرطبي:

أجمع العلماء على أن هذه الآية من المُحْكَم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ.
وكذلك هي في جميع الكتب.
ولو لم يكن كذلك لعُرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب.
وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار، لمن له الحكم والاختيار؛ فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره؛ قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} [الكهف: 110] حتى لقد قال بعض علمائنا: إنه من تطهّر تبرُّدًا أو صام مُحِمًّا لِمَعِدَته ونَوَى مع ذلك التقرّب لم يُجْزِه؛ لأنه مزج في نية التقرب نيّةً دنياوية وليس لله إلا العمل الخالص؛ كما قال تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} [الزمر: 3].
وقال تعالى: {وَمَا أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5].
وكذلك إذا أحسّ الرجل بداخلٍ في الركوع وهو إمام لم ينتظره؛ لأنه يُخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصًا لله تعالى.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى أنا أغْنَى الشركاء عن الشِّرك مَن عمِل عملًا أشْرَك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكَه» وروى الدَّارَقُطنِيّ عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُجاء يوم القيامة بصُحُف مختمة فتُنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى للملائكة القوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتِك ما رأينا إلا خيرًا فيقول الله عز وجل وهو أعلم إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليومَ من العمل إلا ما كان ابْتُغي به وجهي». وروي أيضًا عن الضحاك بن قيس الفِهْرِي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي يا أيها الناس أخْلِصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرَّحِم فإنها للرَّحِم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء».
مسألة إذا ثبت هذا فاعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا: الشرك على ثلاث مراتب وكله محرم.
وأصله اعتقاد شريك لله في ألوُهيتّه، وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية، وهو المراد بقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}.