فصل: قال الطبري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنشد أهل اللغة:
فلا تَحرِمَنِّي نائلًا عن جَنابةٍ ** فإني امرؤ وسْطَ القِبابِ غرِيبُ

وقال الأعشى:
أتيتُ حُريْثا زائرا عن جَنَابةٍ ** فكان حُرَيثٌ عن عطائي جامِدَا

وقرأ الأعمش والمُفَضَّل {والجارِ الجَنْبِ} بفتح الجيم وسكون النون وهما لغتان؛ يقال: جَنْب وجُنُب وأجْنَب وأجْنَبيّ إذا لم يكن بينهما قرابة، وجمعه أجانِبُ.
وقيل: على تقدير حذف المضاف، أي والجار ذي الجَنب أي ذي الناحية.
وقال نَوْف الشاميّ: {والجار ذِي القربى} المسلم {والجار الجنب} اليهوديّ والنصرانيّ.
قلت: وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلمًا كان أو كافرًا، وهو الصحيح.
والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حُسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه.
روى البخاريّ عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه». وروي عن أبي شُريح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن» قيل: يا رسول الله ومَنْ؟ قال: «الذي لا يأمن جارهُ بوائقَه». وهذا عام في كل جارٍ.
وقد أكّد عليه السلام ترك إذايته بقَسَمه ثلاث مرات، وأنه لا يؤمن الإيمان الكامل من آذى جاره.
فينبغي للمؤمن أن يحذر أذَى جاره، وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه، ويرغب فيما رضياه وحضَّا العباد عليه.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجيران ثلاثة فجارٌ له ثلاثة حقوق وجارٌ له حقان وجارٌ له حق واحد فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حقُّ الجوار وحقُّ القرابة وحقُّ الإسلام والجار الذي له حقّان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحقّ الجوار والجار الذي له حقّ واحد هو الكافر له حقّ الجوار».
روى البخاري عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، إن لي جارَين فإلى أيِّهما أُهْدِي، قال: «إلى أقربهما منكِ بابا» فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا الحديث يفسّر المراد من قوله تعالى: {والجار ذِي القربى} وأنه القريبُ المسكَنِ منك.
{والجار الجنب} هو البعيد المسكن منك.
واحتجّوا بهذا على إيجاب الشفعة للجار، وعَضَدُوه بقوله عليه السلام: «الجار أحقّ بصَقَبه» ولا حجة في ذلك، فإن عائشة رضي الله عنها إنما سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عمّن تبدأ به من جيرانها في الهدية فأخبرها أن مَن قَرُب بابه فإنه أولى بها من غيره.
قال ابن المُنْذِر: فدلّ هذا الحديثُ على أن الجار يقع على غير اللَّصِيق.
وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال: إن الجار اللَّصيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي يليه وليس له جدار إلى الدار ولا طريقٌ لا شفعة فيه له.
وعَوَام العلماء يقولون: إذا أوصى الرجل لجيرانه أعطى اللَّصِيق وغيره؛ إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال: لا يُعطَى إلا اللَّصيق وحده. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الطبري:

وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى، الجنب، في هذا الموضع: الغريبُ البعيد، مسلمًا كان أو مشركًا، يهوديًا كان أو نصرانيًا، لما بينا قبل من أن {الجار ذي القربى}، هو الجار ذو القرابة والرحم. والواجب أن يكون الجار ذو الجنابة، الجار البعيد، ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران قريبهم وبعيدهم.
وبعد، فإن {الجُنب}، في كلام العرب: البعيد، كما قال أعشى بني قيس:
أَتَيْتُ حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جَنَابَةٍ ** فَكانَ حُرَيْثٌ فِي عَطَائِي جَامِدَا

يعني بقوله: عن جنابة، عن بعد وغُربة. ومنه، قيل: اجتنب فلان فلانًا، إذا بعد منه وتجنّبه، وجنَّبه خيره، إذا منعه إياه. ومنه قيل للجنب: جُنُب، لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل.
فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والجار هو النزيل بقرب منزلك، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها، فالمراد بـ {الجار ذي القربى} الجار النسيب من القبيلة، وب {الجار الجنب} الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة، فهو جُنُب، أي بعيد، مشتقّ من الجَانب، وهو وصف على وزن فُعُل، كقولهم: ناقة أجُد، وقيل: هو مصدر، ولذلك لم يُطابق موصوفه، قال بَلْعَاء بن قيس:
لا يجتوينا مُجَاور أبدًا ** ذُو رحم أو مُجَاور جُنُب

ويشهد لهذا المعنى قول علقمة بن عبدة في شعره الذي استشفع به عند الملك الحارث ابن جبلة الغسّاني، ليطلق له أخاه شَاسا، حين وقع في أسر الحارث:
فلا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عن جَنَابَةٍ ** فإنِّي امرؤٌ وَسْط القباب غريب

وفسّر بعضهم الجار ذا القربى بقريب الدار، والجُنُبُ بعيدها، وهذا بعيد، لأنّ القربى لا تعرف في القرب المكاني، والعرب معروفون بحفظ الجوار والإحسان إلى الجار، وأقوالهم في ذلك كثيرة، فأكّد ذلك في الإسلام لأنّه من محامد العرب التي جاء الإسلام لتكميلها من مكارم الأخلاق، ومن ذلك الإحسان إلى الجار.
وأكّدت السنّة الوصاية بالجار في أحاديث كثيرة: ففي [البخاري] عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه».
وفيه عن أبي شريح: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج وهو يقول: «والله لاَ يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن».
قيل: «ومن يا رسول الله» قال: «من لا يأمن جارُه بوائقه» وفيه عن عائشة، قلت: «يا رسول الله إنّ لي جارين فإلى أيّهما أهدي» قال «إلى أقربهما منك بابا» وفي [صحيح مسلم]: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ «إذا طبخت مَرَقة فأكْثِر ماءها وتعاهده جيرانك». اهـ.

.قال القرطبي:

واختلف الناس في حدّ الجِيرة؛ فكان الأُوزاعيّ يقول: أربعون دارًا من كل ناحية؛ وقاله ابن شهاب.
ورُوي «أن رَجلًا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني نزلت مَحَلّة قوم وإن أقربهم إليّ جُوَارًا أشدّهم لي أذًى؛ فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليًّا يصيحون على أبواب المساجد: ألاَ إنّ أربعين دارًا جارٌ ولا يدخل الجنة من لا يأمن جارهُ بوائقه».
وقال عليّ بن أبي طالب: مَن سَمِع النّداء فهو جارٌ.
وقالت فرقة: من سمع إقامة الصلاة فهو جَارُ ذلك المسجد.
وقالت فرقة: من ساكن رجلًا في مَحَلّةٍ أو مدينة فهو جارٌ.
قال الله تعالى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} [الأحزاب: 60] إلى قوله: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلًا} [الأحزاب: 60] فجعل تعالى اجتماعهم في المدينة جِوارًا.
والجِيرَة مراتب بعضها ألصَقُ من بعض، أدناها الزوجة؛ كما قال:
أيا جَارَتَا بِيني فإنكِ طالقهْ

ومن إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذَرّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذَرّ إذا طَبَخت مَرَقةً فأكثِر ماءَها وتعاهد جيرانك». فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق؛ لِمَا يترتّب عليها من المحبّة وحسن العِشرة ودفع الحاجة والمَفْسدة؛ فإن الجار قد يتأذّى بقُتَارِ قدر جاره، وربما تكون له ذُرِّية فتَهيج من ضعفائهم الشّهوة، ويعظُم على القائم عليهم الألَمُ والكُلْفة، لاسيما إن كان القائم ضعيفًا أو أرْمَلَة فتعظُم المشقّة ويشتدّ منهم الألم والحسرة.
وهذه كانت عقوبة يعقوب في فِراق يوسف عليهما السلام فيما قيل.
وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطّبيخ يُدفع إليهم، ولهذا المعنى حضّ عليه السّلام الجار القريب بالهَدِيّة؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحبّ أن يشارِك فيه؛ وأيضًا فإنه أسرعُ إجابة لجاره عندما يَنُوبُه من حاجة في أوقات الغفلة والغِرّة؛ فلذلك بدأ به على مَن بُعد بابه وإن كانت داره أقرب. والله أعلم.
قال العلماء: لمّا قال عليه السلام «فأكْثِرْ ماءَها» نبّه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيهًا لطيفًا، وجعلَ الزّيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء؛ ولذلك لم يقل: إذا طَبخْت مَرَقةً فأكثر لحمها؛ إذ لا يسهلُ ذلك على كل أحد.
ولقد أحسن القائل:
قِدْرِي وقِدْرُ الجار واحدةٌ ** وإليه قَبْلِي تُرفع القِدر

ولا يُهدي النّزر اليسير المحتقَر؛ لقوله عليه السلام: «ثم انظر أهلَ بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف» أي بشيء يُهدَى عُرفًا؛ فإن القليل وإن كان مما يُهدَى فقد لا يقع ذلك الموقع، فلو لم يتيسّر إلا القليل فَلْيُهدِه ولا يحتقره، وعلى المُهْدى إليه قبوله؛ لقوله عليه السلام: «يا نَساءُ الْمُؤْمِنَاتُ لا تحتقِرنّ إحداكنّ لجارتها ولو كُرَاع شاة مُحرقًا» أخرجه مالك في موطّئِه.
وكذا قيدناه {يَا نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتُ} بالرفع على غير الإضافة، والتقدير: يا أيها النّساء المؤمنات؛ كما تقول يا رجالُ الكرامُ؛ فالمنادى محذوف وهو يا أيها، والنّساء في التقدير النعت لأيها، والمؤمنات نعت للنساء.
وقد قيل فيه: يا نساءَ المؤمِناتِ بالإضافة، والأوّل أكثر.
من إكرام الجار ألاّ يُمنع من غَرْز خشبة له إرفاقًا به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَمْنع أحدُكم جارَه أن يَغرِز خَشَبَةً في جداره» ثم يقول أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين، واللَّهِ لأَرْميّن بها بين أكنافكم.
رُوِي خُشُبه وخَشَبه على الجمع والإفراد.
وروى أكتافكم بالتاء وأكنافكم بالنون.
ومعنى لأرميّن بها أي بالكلمة والقصّة.
وهل يُقضى بهذا على الوجوب أو الندب؟ فيه خلاف بين العلماء.
فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن معناه النّدب إلى بِرّ الجار والتجاوز له والإحسان إليه، وليس ذلك على الوجوب؛ بدليل قوله عليه السلام: «لا يحلّ مال امرئ مسلمٍ إلا عن طِيبِ نفسٍ منه» قالوا: ومعنى قوله: «لا يمنعْ أحدكم جارَه» هو مثلُ معنى قوله عليه السلام: «إذا استأذنت أحدَكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعْها» وهذا معناه عند الجميع النّدب، على ما يراه الرجل من الصّلاح والخير في ذلك.
وقال الشافعيّ وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود بن عليّ وجماعة أهل الحديث: إلى أن ذلك على الوجوب.
قالوا: ولولا أن أبا هريرة فهِم فيما سمِع من النبيّ صلى الله عليه وسلم معنى الوجوب ما كان ليُوجِب عليهم غير واجب.
وهو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فإنه قَضَى على محمد بن مسلمة للضحّاك بن خليفة في الخليج أن يمُرّ به في أرض محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: لا والله.
فقال عمر: والله ليمرّن به ولو على بطنك.
فأمره عمر أن يمرّ به ففعل الضحاك؛ رواه مالك في الموطّأ.
وزعم الشافعيّ في كتاب [الرّد] أن مالكًا لم يَروِ عن أحدٍ من الصحابة خلافَ عمر في هذا الباب؛ وأنكر على مالك أنه رواه وأدخله في كتابه ولم يأخذ به وردّه برأيه.
قال أبو عمر: ليس كما زعم الشافعي؛ لأن محمد بن مسلمة كان رأيه في ذلك خلاف رأي عمر، ورأي الأنصار أيضًا كان خلافًا لرأي عمر، وعبد الرحمن بن عوف في قصة الرّبيع وتحويله والرّبِيع السّاقية وإذا اختلفت الصّحابة وجب الرجوع إلى النّظر، والنّظر، يدلّ على أن دماء المسلمين وأموالَهم وأعراضَهم بعضهم على بعض حرام إلا ما تَطِيب به النفس خاصة؛ فهذا هو الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.