فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
قِيلَ فِي مَعْنَى الْبُخْلِ فِي اللُّغَةِ: إنَّهُ مَشَقَّةُ الْإِعْطَاءِ، وَقِيلَ: الْبُخْلُ مَنْعُ مَا لَا يَنْفَعُ مَنْعُهُ وَلَا يَضُرُّ بَذْلُهُ.
وَقِيلَ: الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَنَظِيرُهُ الشُّحُّ، وَنَقِيضُهُ الْجُودُ.
وَقَدْ عُقِلَ مِنْ مَعْنَاهُ فِي أَسْمَاءِ الدِّينِ أَنَّهُ مَنْعُ الْوَاجِبِ.
وَيُقَالُ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ فِي الدِّينِ إلَّا عَلَى جِهَةِ أَنَّ فَاعِلَهُ قَدْ أَتَى كَبِيرَةً بِالْمَنْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَأَطْلَقَ الْوَعِيدَ عَلَى مَنْ بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ فِي مَالِهِ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ إذْ بَخِلُوا بِمَا أُعْطُوا مِنْ الرِّزْقِ.
وَكَتَمُوا مَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ بِصِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: هُوَ فِيمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَفِيمَنْ كَتَمَ نِعَمَ اللَّهِ وَأَنْكَرَهَا، وَذَلِكَ كُفْرٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الِاعْتِرَافُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ وَجَاحِدُهَا كَافِرٌ، وَأَصْلُ الْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَغْطِيَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِتْمَانِهَا وَجُحُودِهَا.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ، لَا عَلَى جِهَةِ الْفَخْرِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ وَالشُّكْرِ لِلْمُنْعِمِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخَرَ، وَأَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَلَا فَخْرَ» فَأَخْبَرَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ وَأَبَانَ أَنَّهُ لَيْسَ إخْبَارُهُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَى» وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى}.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَمْدَحُ رَجُلًا فَقَالَ: لَوْ سَمِعَكَ لَقَطَعْت ظَهْرَهُ».
وَرَأَى الْمِقْدَادُ رَجُلًا يَمْدَحُ عُثْمَانَ فِي وَجْهِهِ فَحَثَا فِي وَجْهِهِ التُّرَابَ وَقَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ».
وَقَدْ رُوِيَ: «إيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ».
فَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْفَخْرِ فَقَدْ كُرِهَ، وَأَمَّا أَنْ يَتَحَدَّثَ بِنِعَمِ اللَّهِ عِنْدَهُ أَوْ يَذْكُرَهَا غَيْرُهُ بِحَضْرَتِهِ فَهَذَا نَرْجُو أَنْ لَا يَضُرَّ؛ إلَّا أَنَّ أَصْلَحَ الْأَشْيَاءِ لِقَلْبِ الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَغْتَرَّ بِمَدْحِ النَّاسِ لَهُ وَلَا يَعْتَدَّ بِهِ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
في: {الذين يَبْخَلُونَ} سَبْعَة أوجه:
أحدها: أن يكُون مَنْصُوبًا بدلًا مِنْ مَنْ، وجُمِعَ حَمْلًا على المَعْنَى.
الثاني: أنه نَصْب على البَدَل من {مُخْتَالًا} وجُمِعَ أيضًا لما تقَدَّم.
الثالث: أنه نُصِبَ على الذَّمِّ.
قال القرطبِي: ويجوز أن يكُون مَنْصوبًا بإضْمَار أعْنِي، وقالَ: ولا يجوز أن يكون صِفَة؛ لأن مَنْ وما لا يوصفان ولا يُوصَفُ بهما.
الرابع: أنه مُبْتَدأ وفي خَبَره قولان:
أحدُهُما: محذوف فَقَدَّرهُ بعضُهم: مبغضون لدلالة {إن الله لا يحب} وبعضهم: معذبون؛ لقوله: {وأعتدنا للكافرين عذابًا}.
وقدَّره الزمخشري أحقَّاء بكل مَلاَمَة، وقدره أبو البَقَاء: أُولَئِكَ أوْلِيَاؤُهُم الشَّيْطَان.
والثاني: أن قوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] ويكون قوله: {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ الناس} [النساء: 38] عطفًا على المُبْتدأ والعَائِد مَحْذُوفٌ، والتقدير: الذين يَبْخَلُون، والَّذين يُنْفِقُون أموالهم، رئاء النَّاسِ {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، أو مثقال ذرة لَهُم، وإليه ذَهَب الزَّجَّاج وهذا متكَلَّف جدًّا؛ لكثرة الفَواصِل ولقَلَقِ المَعْنَى أيضًا.
الخامس: أنه خبر مُبْتَدَ مُضْمَر، أي: هم الذين.
السادس: أنه بَدَلٌ من الضَّميرِ المستكن في {فَخُورًا} ذكره أبو البَقَاء، وهو قلق.
السابع: أنه صِفَة لمَنْ؛ كأنه قيل: لا يُحِبُّ المختالَ الفَخْور البَخِيل.
وفي البخل أرْبَع لُغاتٍ:
فتح الخَاءِ والبَاء مثل الكَرَم، وبها قرأ حَمْزَةُ والكسائي، وبِضمِّهَا ذكره المُبرِّد، وبها قرأ الحَسَنُ وعِيسَى بن عُمَر، وبفتح البَاءِ وسُكُون الخَاء، وبها قرأ قتادةُ وابن الزبير، وبضم الباء وسكون الخاء، وبها قرأ الجمهور. والبُخْلُ والبَخَلُ؛ كالحُزْنِ والحَزَن، والعُرْبِ والعَرَبِ.
قوله: {بالبخل} فيه وجْهَان:
أحدهما: أنه متَعلِّق بيَأمُرُونَ، فالبَاء للتَّعْدِية على حَدّ أمرتك بِكَذَا.
والثَّاني: أنها باء الحاليّة والمأمور مَحْذُوف، والتَّقْدير: ويأمرون النَّاسَ بشكرهم مع التباسِهِم بالبُخل، فيكون في المعنَى؛ لقولا الشَّاعر: [البسيط]
أجْمَعْتَ أمْرَيْنِ ضَاعَ الحَزْمُ بَيْنَهُمَا ** تِيهَ المُلُوكِ وأفْعَالَ المَمَالِيكِ

وقوله: {مِن فَضْلِهِ}، يجوز أن يتعلَّق بـ {آتَاهُمُ} أو بمَحْذُوف على أنه حالٌ من مَا، أو من العَائِد عَلَيْها. اهـ. بتصرف يسير.

.تفسير الآية رقم (38):

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذم المقترين، أتبعه ذم المسرفين المبذرين فقال- عطفًا على {الكافرين} أو {الذين يبخلون} معرفًا أن الذين لا يحسنون على الوجه المأمور به فيمن تقدم الأمر بالإحسان إليهم فرقتان: فرقة يمنعون النفقة أصلًا، وفرقة يمنعون وصفها ويفعلونها رياء، فيعدمون بذلك روحها-: {والذين ينفقون} وأشار إلى عظيم رغبتهم في نفقتهم بقوله: {أموالهم} ودل على خسة مقاصدهم وسفول هممهم بقوله: {رئاء الناس} أي لقصور نظرهم وتقيده بالمحسوسات كالبهائم التي لا تدرك إلا الجزيئات المشاهدات.
ولما ذكر إخراج المال على وجه لا يرضاه ذو عقل، ذكر الحامل عليه مشيرًا إلى أنهم حقروا أنفسهم بما عظموها به، وذلك أنهم تعبدوا للعبيد، وتكبروا على خالقهم العزيز المجيد فقال: {ولا يؤمنون بالله} وهو الملك الأعظم.
ولما كان المأمور بالإحسان إليهم هنا من الوالدين ومن ذكر معهم أخص ممن أشير إليهم في البقرة، أكد بزيادة النافي فقال: {ولا باليوم الآخر} الحامل على كل خير، والنازع عن كل شر.
ولما كان التقدير: فكان الشيطان قرينهم، لكفره بإعجابه وكبره؛ عطف عليه قوله: {ومن يكن الشيطان} أي وهو عدوه البعيد من كل خير، المحترق بكل ضير {له قرينًا} فإنه يحمله على كل شر، ويبعده عن كل خير؛ وإلى ذلك أشار بقوله: {فساء قرينًا}. اهـ.
فائدة:
قال الفخر:
إن شئت عطفت {الذين} في هذه الآية على {الذين} في الآية التي قبلها، وإن شئت جعلته في موضع خفض عطفا على قوله: {للكافرين عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 37]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قال الواحدي: نزلت في المنافقين، وهو الوجه لذكر الرئاء، وهو ضرب من النفاق.
وقيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والأولى أن يقال: إنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى أرباب الحاجات، بين أن من لا يفعل ذلك قسمان: فالأول: هو البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال ألبتة، وهم المذمومون في قوله: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} [النساء: 37] والثاني: الذين ينفقون أموالهم، لكن لا لغرض الطاعة، بل لغرض الرياء والسمعة، فهذه الفرقة أيضا مذمومة، ومتى بطل القول بهذين القسمين لم يبق إلا القسم الأول.
وهو إنفاق الأموال لغرض الإحسان. اهـ.

.قال القرطبي:

قال الجمهور نزلت في المنافقين؛ لقوله تعالى: {رِئَاءَ الناس} والرئاء من النفاق.
مجاهد: في اليهود.
وضعّفه الطبري؛ لأنه تعالى نفى عن هذه الصِّنْفة الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود ليس كذلك.
قال ابن عطية: وقول مجاهد متّجِه على المبالغة والإلزام؛ إذ إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان من حيث لا ينفعهم.
وقيل: نزلت في مُطْعِمِي يوم بَدْر، وهم رُؤساء مكة؛ أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر.
قال ابن العربي: ونفقة الرئاء تدخل في الأحكام من حيث إنها لا تجزىء.
قلت: ويدل على ذلك من الكتاب قوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} [التوبة: 53] وسيأتي. اهـ.

.قال في روح البيان:

قال بعض الحكماء مثل من يعمل الطاعات للرياء والسمعة كمثل رجل خرج إلى السوق وملأ كيسه حصى فيقول الناس ما أملأ كيس هذا الرجل ولا منفعة له سوى مقالة الناس ولو أراد أن يشترى به شيئا لا يعطى له شيء كذلك الذي عمل للرياء والسمعة.
قال حامد اللفاف إذا أراد الله هلاك امرئ عاقبه بثلاثة أشياء.
أولها: يرزقه العلم ويمنعه عن عمل العلماء.
والثانى: يرزقه صحبة الصالحين ويمنعه عن معرفة حقوقهم.
والثالث: يفتح عليه باب الطاعة ويمنعه الإخلاص.
وإنما يكون ذلك المذكور لخبث نيته وسوء سريرته لأن النية لو كانت صحيحة لرزقه الله منفعة العلم ومعرفة حقوقهم وإخلاص العمل.
قال صاحب الكشاف ولقد رأينا ممن بلى بلاء البخل من إذا طرق سمعه إن أحدا جاد على أحد شخص بصره وحل حبوته واضطرب وزاغت عيناه في رأسه كأنما نهب رحله وكسرت خزائنه ضجرا من ذلك وحسرة على وجوده انتهى وهذا في كل زمان لا يعطون ويمنعون من يعطى إن قدروا.
والحاصل أنهم يجتهدون في منع من قصد خيرا كبناء القناطر والجسور وحفر الآبار وسائر الخيرات وذلك لكمال دناءتهم وقصور نظرهم وعدم شكرهم واللئيم لا يفعل إلا ما يناسب طبعه.
قال بشير بن الحارث النظر إلى البخيل يقسى القلب فلابد من مجانبة مجالسته وصحبته. اهـ. بتصرف يسير.