فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال السمين: وكأنهم ضمنوا {يظلم} معنى يغصب أو ينقص فعدوه لاثنين.
وذكر الراغب أن الظلم عند أهل اللغة وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة أو بعدول عن وقته أو مكانه، وعليه ففي الكلام إشارة إلى أن نقص الثواب وزيادة العقاب لا يقعان منه تعالى أصلًا، وفي ذلك حث على الإيمان والإنفاق بل إرشاد إلى أن كل ما أمر به مما ينبغي أن يفعل وكل ما نهى عنه مما ينبغي أن يجتنب.
واستدل المعتزلة بالآية على أن الظلم ممكن في حدّ ذاته إلا أنه تعالى لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة لأنه سبحانه مدح نفسه بتركه ولا مدح بترك القبيح ما لم يكن عن قدرة، ألا ترى أن العنين لا يمدح بترك الزنا، واعترض على ذلك بقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] فإنه ذكر في معرض المدح مع أن النوم غير ممكن عليه سبحانه، قال في [الكشف] وهو غير وارد لأنه مدح بانتفاء النقص عن ذاته المقدسة وهو كما نقول: الباري عز وعلا ليس بجسم ولا عرض، وأما ما نحن فيه فمدح بترك الفعل والترك الممدوح إنما يكون إذا كان بالاختيار، نعم للمانع أن لا يسلم أنه تعالى مدح بالترك بل من حيث الدلالة على النقص لأن وجوب الوجود ينافي جواز الاتصاف بالظلم، وتحقيقه على مذهبهم أن وضع الشيء في غير موضعه الحقيق به ممكن في نفسه وقدرة الحق جل شأنه تسع جميع الممكنات، لكن الحكمة وهي الإتيان بالممكن على وجه الإحكام وعلى ما ينبغي مانعة، وعن هذا قالوا: الحكيم لا يفعل إلا الحسن من بين الممكنات إلا إذا دعته حاجة؛ والمنزه عن الحاجات جمع يتعالى عن فعل القبيح، ونحن نقول: إنه عز اسمه لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أيضًا بناءًا على وعده المحتوم، فإن الخلف فيه ممتنع لكونه نقصًا منافيًا للألوهية وكمال الغنى، وبهذا الاعتبار يصح أن يسمى ظلمًا، وإن كان لا يتصور حقيقة الظلم منه تعالى لكونه المالك على الإطلاق، فالزيادة والنقص ممكنان لذاتهما، والخلف ممتنع لذاته، ولا يلزم من كون الخلف ممتنعًا لذاته بالنسبة إلى الواجب تعالى وتقدس أن يكون متعلقه كذلك، وهذا على نحو ما تقرر في مسألة التكليف بالممتنع أن إخبار الله تعالى عن عدم إيمان المصر ووجوب الصدق اللازم له لا يخرج الفعل عن كونه مقدور المكلف بل يحقق قدرته عليه فليحفظ فإنه مهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.
استئناف بعد أن وصف حالهم، وأقام الحجّة عليهم، وأراهم تفريطهم مع سهولة أخذهم بالحيطة لأنفسهم لو شاءوا، بيّن أنّ الله منزّه عن الظلم القليل، بله الظلم الشديد، فالكلام تعريض بوعيد محذوف هو من جنس العقاب، وأنّه في حقّهم عدل، لأنّهم استحقّوه بكفرهم، وقد دلّت على ذلك المقدّر أيضًا مقابلته بقوله: {وإن تك حسنة} ولمّا كان المنفي الظلم، على أنّ {مثقال ذرّة} تقدير لأقلّ ظلم، فدلّ على أنّ المراد أنّ الله لا يؤاخذ المسيء بأكثر من جزاء سيّئته.
وانتصب {مثقال ذرة} بالنيابة عن المفعول المطلق، أي لا يظلم ظُلما مقدّرًا بمثقال ذرّة، والمثقال ما يظهر به الثِّقَل، فلذلك صيغَ على وزن اسم الآلة، والمراد به المقدار.
والذَّرة تطلق على بيضة النمْلة، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ، وهذا أحقر ما يقدُر به، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرّة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها.
والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلًا ولا كثيرًا؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا} [يونس: 44] والذرّة: النملة الحمراء؛ عن ابن عباس وغيره، وهي أصغر النمل.
وعنه أيضًا رأس النملة.
وقال يزيد بن هارون: زعموا أن الذرة ليس لها وزن.
ويحكى أن رجلًا وضع خبزًا حتى علاه الذرّ مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئًا.
قلت: والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنًا؛ كما أن للدينار ونصفه وزنًا.
والله أعلم.
وقيل: الذرة الخَرْدَلَة؛ كما قال تعالى: {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء: 47].
وقيل غير هذا، وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمِل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها». اهـ.

.قال الفخر:

قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أنه تعالى ليس خالقا لأعمال العباد، لأن من جملة تلك الأعمال ظلم بعضهم بعضا، فلو كان موجد ذلك الظلم هو الله تعالى لكان الظالم هو الله، وأيضًا لو خلق الظلم في الظالم، ولا قدرة لذلك الظالم على تحصيل ذلك الظلم عند عدمه، ولا على دفعه بعد وجوده، ثم إنه تعالى يقول لمن هذا شأنه وصفته: لم ظلمت ثم يعاقبه عليه، كان هذا محض الظلم، والآية دالة على كونه تعالى منزها عن الظلم.
والجواب: المعارضة بالعلم والداعي على ما سبق مرارًا لا حد لها، وقد ذكرنا أن استدلالات هؤلاء المعتزلة وإن كثرت وعظمت، إلا أنها ترجع إلى حرف واحد، وهو التمسك بالمدح والذم والثواب والعقاب، والسؤال على هذا الحرف معين، وهو المعارضة بالعلم والداعي، فكلما أعادوا ذلك الاستدلال أعدنا عليهم هذا السؤال. اهـ.

.قال البغوي:

والذرّة: هي النملة الحمراء الصغيرة، وقيل: الذرّ أجزاء الهباء في الكُوّة وكل جزء منها ذرّة ولا يكون لها وزن، وهذا مثلٌ، يريد: إن الله لا يظلم شيئًا، كما قال في آية أخرى: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} [يونس: 44].
عن أنس- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يظلمَ المؤمن حسنةً، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجزَى بها في الآخرة»، قال: «وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُعطى بها خيرًا».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خَلَصَ المؤمنون من النار وأمِنُوا، فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشدَّ مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أُدخلو النار، قال: يقولون ربَّنا إخواننا كانوا يُصلون معنا ويَصُومون معنا ويَحُجون معنا فأدخلتَهُمُ النار، قال: فيقول ذهبوا فأَخرجُوا من عَرَفْتُم منهم فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكلُ النار صورَهم فمنهم من أخذَتْهُ النارُ إلى أنصافِ ساقيه ومنهم من أخذتْه إلى كعبيه فيُخرجونهم، فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، قال: ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه وزْنُ دينار مَنْ الإيمان، ثم مَنْ كان في قلبه وزنُ نصفِ دينار، حتى يقول: من كان في قلبه مثقال ذرةٍ»، قال أبو سعيد رضي الله عنه: فمن لم يصدق هذا فليقرأ هذه الآية: {إن الله لا يظلم مثقالَ ذرةٍ وإن تَكُ حسنَةً يُضاعِفْهَا ويُؤْتِ من لدنه أجرًا عظيمًا} قال: فيقولون ربَّنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في النار أحدٌ فيه خير، ثم يقول الله عز وجل: شفعتِ الملائكةُ، وشفعتِ الأنبياءُ، وشَفع المؤمنون، وبقي أرحمُ الراحمين، قال: فيقبض قبضةً من النار، أو قال: قبضتين لم يعملوا لله خيرًا قط قد احترقُوا حتى صاروا حُممًا فيُؤْتَى بهم إلى ماء يقال له: ماء الحياة فيصب عليهم فينبتُون كما تنبت الحِبَّةَ في حَميلِ السيل، قال: فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم: عتقاء الله فيقال لهم: ادخلوُا الجَنَّةَ فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم، قال فيقولون: ربّنا أعطيتنا ما لم تُعطِ أحدًا من العالمين، قال: فيقول فإن لكم أفضل منه، فيقولون: ربنا وما أفضل من ذلك؟ فيقول: «رضاي عنكم فلا أسخط عليكم أبدًا».
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رُؤوس الخلائق يوم القيامة فينشرُ عليه تسعةً وتسعين سجلا كل سجل مثل مدَّ البصر، ثم يقول الله: أتُنْكر من هذا شيئًا؟ أَظَلَمَكَ كتبتي الحافظُون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفَلَكَ عذرٌ أو حسنةُ؟ فبُهِتَ الرجل، قال: لا يا رب، فيقول: بلى إنّ لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتُخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، فيقول: احضرْ وَزْنَكَ، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقول: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثَقُلتْ البطاقةُ، قال: فلا يثقل مع اسم الله شيء». وقال قوم: هذا في الخصوم.
ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين ثم نادى منادٍ ألا من كان يطلب مظلمة فليجيء إلى حقه فليأخذه، فيفرح المرء أن يذوب له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذ منه وإن كان صغيرًا، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} ويُؤْتَى بالعبدِ فينادي منادِ على رُؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان فمن كان له عليه حق فليأتِ إلى حقِّه فيأخذه، ويقال آتِ هؤلاء حقوقَهم فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا، فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإنْ بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة: يا ربنا بقي له مثقال ذرة من حسنة، فيقول: ضعّفُوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة. ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} وإن كان عبدًا شقيًا قالت الملائكة: إلهنا فنيت حسناتُه وبقي طالبون؟ فيقول الله عز وجل: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكُّوا له صكًّا إلى النار.
فمعنى الآية هذا التأويل: أن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم بل أخذ له منه ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضَعِّفها له، فذاك. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

قالت المعتزلة: الآية تدل على أنه قادر على الظلم لأنه تمدح بتركه، ومن تمدح بترك فعل قبيح لم يصح منه ذلك التمدح، إلا إذا كان هو قادرا عليه، ألا ترى أن الزمن لا يصح منه أن يتمدح بأنه لا يذهب في الليالي إلى السرقة.
والجواب أنه تعالى تمدح بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، ولم يلزم أن يصح ذلك عليه، وتمدح بأنه لا تدركه الأبصار، ولم يدل ذلك عند المعتزلة على أنه يصح أن تدركه الأبصار. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إِن الله لا يظلم مثقال ذرة} قد شرحنا الظلم فيما سَلف، وهو مستحيل على الله عز وجل، لأن قومًا قالوا: الظلم: تصرّف فيما لا يملك، والكل ملكه، وقال آخرون: هو وضع الشيء في غير موضعه، وحكمته لا تقتضي فعلًا لا فائدة تحته. اهـ.

.قال الفخر:

قالت المعتزلة: الآية دالة على أن العبد يستحق الثواب على طاعته وأنه تعالى لو لم يثبه لكان ظالما، لأنه تعالى بين في هذه الآية أنه لو لم يثبهم على أعمالهم لكان قد ظلمهم، وهذا لا يصح إلا إذا كانوا مستحقين للثواب على أعمالهم.
والجواب: أنه تعالى وعدهم بالثواب على تلك الأفعال، فلو لم يثبهم عليها لكان ذلك في صورة ظلم، فلهذا أطلق عليه اسم الظلم، والذي يدل على أن الظلم محال من الله، أن الظلم مستلزم للجهل والحاجة عندكم، وهما محالان على الله، ومستلزم المحال محال، والمحال غير مقدور.
وأيضًا الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير، والحق سبحانه لا يتصرف إلا في ملك نفسه، فيمتنع كونه ظالما.
وأيضًا: الظالم لا يكون إلها والشيء لا يصح إلا إذا كانت لوازمه صحيحة، فلو صح منه الظلم لكان زوال إلهيته صحيحًا، ولو كان كذلك لكانت إلهيته جائزة الزوال، وحينئذ يحتاج في حصول صفة الإلهية له إلى مخصص وفاعل، وذلك على الله محال. اهـ.