فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفخر:
قال الواحدي رحمه الله: السكارى جمع سكران، وكل نعت على فعلان فإنه يجمع على: فعالى وفعالى، مثل كسالى وكسالى، وأصل السكر في اللغة سد الطريق، ومن ذلك سكر البثق وهو سده، وسكرت عينه سكرا إذا تحيرت، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا} [الحجر: 15] أي غشيت فليس ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقيقتها، ومن ذلك سكر الماء وهو رده على سننه في الجري.
والسكر من الشراب وهو أن ينقطع عما عليه من النفاذ حال الصحو، فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في حال صحوه.
إذا عرفت هذا فنقول: في لفظ السكارى في هذه الآية قولان:
الأول: المراد منه السكر من الخمر وهو نقيض الصحو، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين.
والقول الثاني: وهو قول الضحاك: وهو أنه ليس المراد منه سكر الخمر، إنما المراد منه سكر النوم، قال: ولفظ السكر يستعمل في النوم فكان هذا اللفظ محتملا له، والدليل دل عليه فوجب المصير إليه، أما بيان أن اللفظ محتمل له فمن وجهين: الأول: ما ذكرنا: أن لفظ السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق، ولا شك أن عند النوم تمتلئ مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها، ولا ينفذ الروح الباصر والسامع إلى ظاهر البدن.
الثاني: قول الفرزدق:
من السير والادلاج يحسب انما ** سقاه الكرى في كل منزلة خمرا

وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له فنقول: الدليل دل عليه، وبيانه من وجوه: الأول: أن قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} ظاهره أنه تعالى نهاهم عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون، وتوجيه التكليف على مثل هذا الإنسان ممتنع بالعقل والنقل، أما العقل فلأن تكليف مثل هذا الإنسان يقتضي تكليف ما لا يطاق، وأما النقل فهو قوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ» ولا شك أن هذا السكران يكون مثل المجنون، فوجب ارتفاع التكليف عنه.
والحجة الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه» هذا تقرير قول الضحاك.
واعلم أن الصحيح هو القول الأول، ويدل عليه وجهان: الأول: أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر، والأصل في الكلام الحقيقة، فأما حمله على السكر من العشق، أو من الغضب أو من الخوف، أو من النوم، فكل ذلك مجاز، وإنما يستعمل مقيدا.
قال تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} [ق: 19] وقال: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى} [الحج: 2] الثاني: أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين، امتنع أن لا يكون ذلك السبب مرادًا بتلك الآية، فأما قول الضحاك كيف يتناوله النهي حال كونه سكران؟ فنقول: وهذا أيضا لازم عليكم، لأنه يقال: كيف يتناوله النهي وهو نائم لا يفهم شيئا؟ ثم الجواب عنه: إن المراد من الآية النهي عن الشرب المؤدي إلى السكر المخل بالفهم حال وجوب الصلاة عليهم، فخرج اللفظ عن النهي عن الصلاة في حال السكر مع أن المراد منه النهي عن الشرب الموجب للسكر في وقت الصلاة.
وأما الحديث الذي تمسك به فذاك لا يدل على أن السكر المذكور في الآية هو النوم. اهـ.

.قال القرطبي:

والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر؛ إلا الضحاك فإنه قال: المراد سكر النوم؛ لقوله عليه السلام: «إذا نعس أحدكم في الصلاة فلْيرقُدْ حتى يذهب عنه النوم، فإنه لا يدري لعلّه يستغفر فيَسبّ نفسه».
وقال عَبيدة السّلمانِيّ: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} يعني إذا كنت حاقنًا؛ لقوله عليه السلام: «لا يصلِّيَنَّ أحدكم وهو حاقن» في رواية «وهو ضام بين فخذيه».
قلت وقول الضحاك وعَبيدة صحيح المعنى؛ فإن المطلوب من المصلِّي الإقبالُ على الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره، والخلُّو عن كل ما يشوِّش عليه من نوم وحُقنة وجوع، وكل ما يشغَل البال ويغيّر الحال.
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حضر العَشاء وأُقيمت الصلاة فابدئوا بالعَشاء» فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كلِّ مشوّش يتعلّق به الخاطر، حتى يُقبل على عبادة ربّه بفراغ قلبه وخالص لُبِّه، فيخشع في صلاته.
ويدخل في هذه الآية: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] على ما يأتي بيانه.
وقال ابن عباس: إن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} منسوخٌ بآية المائدة: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6] الآية.
فأُمِروا على هذا القول بألاّ يصلّوا سكارى؛ ثم أُمروا بأن يصلوا على كل حال؛ وهذا قبل التحريم.
وقال مُجاهد: نسخت بتحريم الخمر.
وكذلك قال عِكرمة وقَتادة، وهو الصحيح في الباب لحديث عليّ المذكور.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أُقيمت الصلاة فنادى منادِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران؛ ذكره النحاس.
وعلى قول الضحاك وعَبيدة الآية مُحْكَمَةٌ لا نسخ فيها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}.
هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلّقان بالصلاة، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنّه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ، وإلى قَرنه بحكم مقرّر يتعلّق بالصلاة أيضًا.
ويظهر أنّ سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها، فوقعت في موقععِ وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات.
تضمّنت حكمًا أوَّلَ يتعلّق بالصلاة ابتداء، وهو مقصود في ذاته أيضًا بحسب الغاية، وهو قوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}، ذلك أنّ الخمر كانت حَلالا لم يحرّمها الله تعالى، فبقيت على الإباحة الأصلية، وفي المسلمين من يشربها.
ونزل قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة: 219] في أول مدّة الهجرة فقال فريق من المسلمين: نحن نشربها لمنافعها لا لإثْمها، وقد علموا أنّ المراد من الإثم الحرج والمضرّة والمفسدة، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأنّ الخمر يوشك أن تكون حرامًا لأنّ ما يشتمل على الإثم مُتّصف بوصف مناسب للتحريم، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا فدعانا وسقانا خمرًا وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأتُ: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبّس بالفعل، لأنّ (قَرُب) حقيقة في الدنوّ من المكان أو الذات يقال: قرب منه بضم الراء وقرِبه بكسر الراء وهما بمعنى، ومن الناس من زعم أنّ مكسور الراء للقرب المجازي خاصّة، ولا يصحّ.
وإنّما اختير هذا الفعل دون لا تُصَلُّوا ونحوه للإشارة إلى أنّ تلك حالة منافية للصلاة، وصاحبُها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام، ومن هنا كانت مؤذنة بتغيّر شأن الخمر، والتنفير منها، لأنّ المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيمانًا وأعلقهم بالصلاة، فلا يرمُقون شيئًا يمنعهم من الصلاة إلاّ بعَين الاحتقار.
ومن المفسّرين مَن تأوّل الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحالّ على المحلّ كما في قوله تعالى: {وصلوات ومساجد} [الحج: 40]، ونقل عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن قالوا: كان جماعة من الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار.
وقوله: {حتى تعلموا ما تقولون} غاية للنهي وإيماء إلى علّته، واكتفى بقوله (تقولون) عن {تفعلون} لظهور أنّ ذلك الحدّ من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول.
وفي الآية إيذان بأنّ السكر الخفيف لا يمنع الصلاة يومئذ؛ أو أريد من الغاية أنّها حالة انتهاء السكر فتبقى بعدها النشوة.
وسكارى جمع سكران، والسكران من أخَذ عقله في الانغلاق، مشتقّ من السَّكْر، وهو الغلق، ومنه سكْر الحوض وسكْر الباب {وسكرت أبصارنا} [الحجر: 15].
ولمّا نزلت هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلوات فكانوا لا يشربون إلاّ بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح، لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما، ثم أكمل مع تحريم قربان الصلاة في حالة السكر تحريم قربانها بدون طهارة. اهـ.

.قال الفخر:

قال بعضهم: هذه الآية منسوخة بآية المائدة، وأقول: الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أنه يقال: نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلالوت هذه الآية.
هذا ما خطر ببالي في تقرير هذا النسخ.
والجواب عنه: أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إلا على سبيل الظن الضعيف، ومثل هذا لا يكون نسخا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ} إذا قيل: لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تَلْبَس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تَدْنُ منه.
والخطاب لجماعة الأُمة الصاحِين.
وأما السّكران إذا عدم المَيْز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله؛ وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه، وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرّر تكليفه إياها قبل السكر. اهـ.
قال القرطبي:
وفي هذه الآية دليل بل نصّ على أن الشرب كان مباحًا في أوّل الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر.
وقال قوم: السّكر محرّم في العقل وما أُبيح في شيء من الأديان؛ وحملَوا السُّكر في هذه الآية على النوم.
وقال القَفَّال: يحتمل أنه كان أُبيح لهم من الشراب ما يحرّك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحَمِيّة.
قلت: وهذا المعنى موجود في أشعارهم؛ وقد قال حسان:
ونشربها فتتركنا ملوكا

وقد أشبعنا هذا المعنى في البقرة.
قال القَفّال: فأمّا ما يزيل العقل حتى يصيّر صاحبه في حدّ الجنون والإغماء فما أُبيح قَصْدُه، بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعًا عن صاحبه.
قلت: هذا صحيح، وسيأتي بيانه في المائدة إن شاء الله تعالى في قصة حمزة.
وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات، فإذا صلّوا العشاء شرِبوها؛ فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في المائدة في قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]. اهـ.