فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَإِنْ كُنتُم مرضى} تفصيل لما أجمل في الاستثناء وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار، والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص للإشعار بأنه العذر الغالب المبني على الضرورة الذي يدور عليها أمر الرخصة، ولهذا قيل: المراد بغير عابري سبيل غير معذورين بعذر شرعي إما بطريق الكناية أو بإيماء النص ودلالته.
وبهذا يندفع الإيراد السابق على الحصر وإنما لم يقل: إلا عابري سبيل أو مرضى فاقدي الماء حسًا أو حكمًا لما أن ما في النظم الكريم أبلغ وأوكد منه لما فيه من الإجمال والتفصيل، ومعرفة تفاضل العقول والأفهام، والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقًا سواء كان بتعذر الوصول إليه أو بتعذر استعماله، وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال: المريض الذي قد أرخص له في التيمم الكسير والجريح فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها، وأخرج البيهقي في [المعرفة] عن ابن عباس يرفعه «إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله تعالى أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فليتيمم» والذي تقرر في الفروع: أن المريض الذي يخاف إذا استعمل الماء أن يشتد مرضه يتيمم، ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك كالمبطون أو بالاستعمال كمن به حصبة أو جدري ولم يشترط أصحابنا خوف التلف لظاهر النص وهو بإطلاقه يبيح التيمم لكل مريض إلا أن في بعض الآيات ما أخرج من لا يشتد مرضه، وتفصيل ذلك في كتب الفقه.
{أَوْ على سَفَرٍ} عطف على (مرضى) أي أو كنتم على سفر مّا طال أو قصر، ولعل اختيار هذا على نحو مسافرين لأنه أوضح في المقصود منه، وفي [الهداية]: ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر (نمو) ميل أو أكثر يتيمم، والظاهر أن حكم من هو خارج المصر غير مسافر كما يقتضيه العطف معلوم بالقياس لا بالنص وإيراد المسافر صريحًا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته.
فإن الاستثناء كما أشار إليه شيخ الإسلام بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلًا عن الدلالة على كيفيته، وقيل: ذكر السفر هنا لإلحاق المرض به والتسوية بينه وبينه بإلحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال، وهذه الشرطية ظاهرة على رأي من حمل الصلاة على مواضعها، وفسر العبور بالاجتياز بها إذ ليس فيها حينئذ ما يتوهم منه شائبة التكرار بل هي عنده بيان حكم آخر لم يذكر قبل، وأيد بأن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله سبحانه: {حتى تَغْتَسِلُواْ} ويبتدءون بقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ} إلخ بل التعبير بالقرب يومئ إلى حمل الصلاة على ذلك لأن حقيقة القرب والبعد في المكان وكذا التعبير بـ {عَابِرِى سَبِيلٍ} هناك وب {على سَفَرٍ} هنا فيه إيماء إلى الفرق بين ما هنا وما هناك إلا أن الكثير على خلافه، وإنما قدم المرض على السفر للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره، وقيل: لأنه سبب النزول، فقد أخرج ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال: «نال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {وَإِنْ كُنتُم مرضى} الآية كلها» وهذا خلاف ما عليه الجمهور حيث رووا «أن نزولها في غزوة المريسيع حين عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فسقطت عن عائشة رضي الله تعالى عنها قلادة لأسماء فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث رجلين في طلبها فنزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر على عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على غير ماء فنزلت فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر وفي رواية يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجًا» وهذا يدل على أن سبب النزول كان فقد الماء في السفر وهو ظاهر {أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط} هو المكان المنخفض، وجاء الغيط بفتح الغين وسكون الياء، وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وهو في رأي مصدر يغوط، وكان القياس غوطًا فقلبت الواو ياءًا وسكنت وانفتح ما قبلها لخفتها، ولعل الأولى ما قيل: إنه تخفيف غيط كهين وهين، والغيط الغائط، والمجيء منه كناية عن الحدث لأن العادة أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.
وفي ذكر {أَحَدٌ} فيه دون غيره إيماء إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه، وقيل: إنما ذكر وأسند المجيء إليه دون المخاطبين تفاديًا عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحي منه أو يستهجن التصريح به والفعل عطف على {كُنتُمْ}، والجار الأول: متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله، والثاني: متعلق بالفعل أي وإن جاء أحد كائن منكم من الغائط. اهـ.
سؤال: فإن قلت: كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين، وبين المحدثين والمجنبين، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة، والحدث سبب لوجوب الوضوء والجنابة سبب لوجوب الغسل؟
قلت: أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون الماء في التيمم بالتراب، فخص أوّل من بينهم مرضاهم وسفرهم، لأنهم المتقدّمون في استحقاق بيان الرخصة لهم بكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استسقاء أو إرهاق في مكان لا ماء فيه وغير ذلك بما لا يكثر كثرة المرض والسفر. اهـ.

.قال الفخر:

اختلف المفسرون في اللمس المذكور هاهنا على قولين: أحدهما: أن المراد به الجماع، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه، لأن اللمس باليد لا ينقض الطهارة.
والثاني: أن المراد باللمس هاهنا التقاء البشرتين، سواء كان بجماع أو غيره وهو قول ابن مسعود وابن عمرو الشعبي والنخعي وقول الشافعي رضي الله عنه.
واعلم أن هذا القول أرجح من الأول، وذلك لأن إحدى القراءتين هي قوله تعالى: {أو لمستم النساء} واللمس حقيقته المس باليد، فأما تخصيصه بالجماع فذاك مجاز، والأصل حمل الكلام على حقيقته.
وأما القراءة الثانية وهي قوله: {أو لامستم} فهو مفاعلة من اللمس، وذلك ليس حقيقة في الجماع أيضًا، بل يجب حمله على حقيقته أيضًا، لئلا يقع التناقض بين المفهوم من القراءتين المتواترتين واحتج من قال: المراد باللمس الجماع، بأن لفظ اللمس والمس وردًا في القرآن بعنى الجماع، قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237] وقال في آية الظهار: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة: 3] وعن ابن عباس أنه قال: إن الله حيي كريم يعف ويكني، فعبر عن المباشرة بالملامسة.
وأيضًا الحدث نوعان: الأصغر، وهو المراد بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} فلو حملنا قوله: {أو لامستم النساء} على الحدث الأصغر لما بقي للحدث الأكبر ذكر في الآية، فوجب حمله على الحدث الأكبر.
واعلم أن كل ما ذكروه عدول عن ظاهر اللفظ بغير دليل، فوجب أن لا يجوز.
وأيضًا فحكم الجنابة تقدم في قوله: {ولا جنبًا} فلو حملنا هذه الآية على الجنابة لزم التكرار. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى؛ {أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء} قرأ نافع وابن كَثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر {لاَمَسْتُمُ}.
وقرأ حمزة والكسائي: {لمستم} وفي معناه ثلاثة أقوال؛ الأوّل أن يكون لمستم جامعتم.
الثاني لمستم باشرتم.
الثالث يجمع الأمرين جميعًا.
و{لامستم} بمعناه عند أكثر الناس، إلا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال؛ الأولى في اللغة أن يكون {لامستم} بمعنى قبلتم أو نظيره، لأن لكل واحد منهما فعلًا.
قال؛ و{لمستم} بمعنى غشيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعل.
واختلف العلماء في حكم الآية على مذاهب خمسة؛ فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد، والجُنُب لا ذكر له إلا مع الماء؛ فلم يدخل في المعنى المراد بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى} الآية، فَلا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجُنُب أو يَدَع الصلاة حتى يجِد الماء؛ ورُوي هذا القولُ عن عمر وابن مسعود.
قال أبو عمر: ولم يقل بقول عمر وعبد الله في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحَمَلة الآثار؛ وذلك والله أعلم لحديث عَمار وعِمران بن حُصين وحديث أبي ذَرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: في تيمّم الجُنُب.
وقال أبو حنيفة عكس هذا القول، فقال: الملامسة هنا مختصة باللمس الذي هو الجماع.
فالجنب يتيمم واللامس بيده لم يجرِ له ذِكر؛ فليس بحدَثٍ ولا هو ناقض لوضوئه.
فإذا قبَّل الرجل امرأته للذّة لم ينتقض وضوءه؛ وعَضدوا هذا بما رواه الَدارَقُطْني عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ» قال عروة؛ فقلت لها من هي إلا أنْتِ؟ فضحكت وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمّم إذا التذ فإذا لمَسها بغير شهوة فلا وضوء؛ وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مقتضي الآية.
وقال علي بن زياد؛ وإن كان عليها ثوب كثيف فلا شيء عليه، وإن كان خفيفًا فعليه الوضوء.
وقال عبد الملك بن الماجِشُون: من تعمّد مس امرأته بيده لملاعبة فليتوضأ التذ أو لم يلتذ.
قال القاضي أبو الوليد الباجي في المْنتَقَى: والذي تحقّق من مذهب مالك.
وأصحابه أن الوضوء إنما يجب لقصده اللذّة دون وجودها؛ فمن قصد اللذّة بلمسه فقد وجب عليه الوضوء، التذّ بذلك أو لم يلتذّ؛ وهذا معنى ما في العُتْبِية من رواية عيسى عن ابن القاسم.
وأما الإنعاظ بمجرّده فقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يوجب وضوءا ولا غسل ذَكَر حتى يكون معه لَمْسٌ أو مَذْيٌ.
وقال الشيخ أبو إسحاق: من أنعظ إنعاظًا انتقض وضوءه، وهذا قول مالك في المدونة.
وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلّق نقض الطهر به؛ وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزُّهري وربيعة.
وقال الأوزاعي: إذا كان اللّمس باليد نقض الطُّهر وإن كان بغير اليد لم ينقضه؛ لقوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] فهذه خمسة مذاهب أسدّها مذهب مالك؛ وهو مروي عن عمر وابنه عبد الله، وهو قول عبد الله بن مسعود أن الملامسة ما دون الجماع، وأن الوضوء يجب بذلك؛ وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء.
قال ابن العربي: وهو الظاهر من معنى الآية؛ فإن قوله في أوّلها: {وَلاَ جُنُبًا} أفاد الجماع، وأن قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغائط} أفاد الحدث، وأن قوله: {أَوْ لاَمَسْتُمُ} أفاد اللّمس والقبل.
فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام، وهذه غاية في العلم والإعلام.
ولو كان المراد باللّمس الجماع كان تكرارًا في الكلام.
قلت: وأما ما استدل به أبو حنيفة من حديث عائشة فحديث مُرْسل؛ رواه وَكِيع عن الأَعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عُروة عن عائشة.
قال يحيى بن سعيد وذَكَر حديثَ الأعمش عن حبيب عن عروة فقال: أمّا إنّ سفيان الثَّوْري كان أعلمَ الناس بهذا، زعم أن حبيبًا لم يسمع من عروة شيئًا؛ قاله الدَّارَقُطْني.
فإن قيل: فأنتم تقولون بالمرسل فيلزمكم قبوله والعمل به.
قلنا: تركناه لظاهر الآية وعمل الصحابة فإن قيل إن الملامسة هي الجماع وقد رُوي ذلك عن ابن عباس.