فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلنا: قد خالفه الفاروق وابنه وتابعهما عبد الله بن مسعود وهو كوفي، فما لكم خالفتموه؟ فإن قيل: الملامسة من باب المفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين، واللمس باليد إنما يكون من واحد؛ فثبت أن الملامسة هي الجماع.
قلنا: الملامسة مقتضاها التقاء البشرتين؛ سواء كان ذلك من واحد أو من اثنين؛ لأن كل واحد منهما يوصف لامسٌ وملموس.
جواب آخر وهو أن الملامسة قد تكون من واحد؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، والثوب ملموس وليس بلامس؛ وقد قال ابن عمر مُخْبرًا عن نفسه «وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام». وتقول العرب: عاقبت اللص وطارقت النعل، وهو كثير.
فإن قيل: لما ذكر الله سبحانه سبب الحَدث، وهو المجيء من الغائط ذَكر سبب الجنابة وهو الملامسة؛ فبيّن حكم الحَدَث والجنابة عند عدم الماء، كما أفاد بيان حكمهما عند وجود الماء.
قلنا: لا نمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس، ويفيد الحكمين كما بيّنا.
وقد قرئ {لمَسْتم} كما ذكرنا.
وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضًا؛ وكذلك إن لمَسَته هي وجب عليه الوضوء، إلا الشّعر؛ فإنه لا وضوء لمن مسّ شعر امرأته لشهوة كان أو لغير شهوة، وكذلك السنّ والظفر؛ فإن ذلك مخالف للبشرة.
ولو احتاط فتوضأ إذا مس شعرها كان حسنًا.
ولو مسّها بيده أو مسّته بيدها من فوق الثوب فالتذّ بذلك أو لم يلتذ لم يكن عليهما شيء حتى يُفضِي إلى البشرة، وسواء في ذلك كان متعمدًا أو ساهيًا، كانت المرأة حية أو ميتة إذا كانت أجنبية.
واختلف قوله إذا لَمَس صبيّة صغيرة أو عجوزًا كبيرة بيده أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحّل له نكاحها، فمرّة قال: ينتقض الوضوء؛ لقوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء} فلم يفرق.
والثاني لا يُنقض؛ لأنه لا مدخل للشهوة فيهنّ.
قال المَرْوَزي: قول الشافعي أشبه بظاهر الكتاب؛ لأن الله عزّ وجلّ قال: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء} ولم يقل بشهوة ولا من غير شهوة؛ وكذلك الذين أوْجبوا الوضوء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترطوا الشهوة.
قال: وكذلك عامة التابعين.
قال المَرْوَزي: فأمّا ما ذهب إليه مالك من مراعاة الشهوة واللذة من فوق الثوب يوجب الوضوء فقد وافقه على ذلك الّليث بن سعد، ولا نعلم أحدًا قال ذلك غيرهما.
قال: ولا يصحّ ذلك في النظر؛ لأن من فعل ذلك فهو غير لامسٍ لامرأته، وغير مُمَاسَ لها في الحقيقة، إنما هو لامس لثوبها.
وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى أن يلمِس لم يجب عليه وضوء؛ فكذلك من لمس فوق الثوب لأنه غير مماس للمرأة.
قلت: أمّا ما ذُكر من أنه لم يوافق مالكا على قوله إلا الّليث بن سعد، فقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبدالبر أن ذلك قول إسحاق وأحمد، ورُوي ذلك عن الشَّعْبي والنَّخعي كلهم قالوا: إذا لمس فآلتذّ وجب الوضوء، وإن لم يلتذّ فلا وضوء.
وأما قوله: ولا يصح ذلك في النظر فليس بصحيح؛ وقد جاء في صحيح الخبر عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قِبْلته، فإذا سَجَد غَمَزَني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما ثانيًا، قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
فهذا نصّ في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الملامس، وأنه غَمَزَ رجلْي عائشة؛ كما في رواية القاسم عن عائشة «فإذا أراد أن يسجد غمز رجليّ فقبضتهما» أخرجه البخاري.
فهذا يخصّ عموم قوله؛ {أو لامستم} فكان واجبًا لظاهر الآية انتقاض وضوء كل ملامس كيف لامس.
ودلّت السّنة التي هي البيان لكتاب الله تعالى أن الوضوء على بعض الملامسين دون بعض، وهو من لم يلتذ ولم يقصِد.
ولا يقال: فلعلّه كان على قدمي عائشة ثوب، أو كان يضرِب رجليها بُكّمه، فإنا نقول: حقيقة الغَمْز إنما هو باليد ومنه غَمْزُك الكبش أي تَجُسه لتنظر أهو سمين أم لا فأما أن يكون الغَمز الضَّرْب بالْكُمّ فلا.
والرِّجل من النائم الغالبُ عليها ظهورها من النائم؛ لاسيما مع امتداده وضيق حاله.
فهذه كانت الحال في ذلك الوقت؛ ألا ترى إلى قولها: «وإذا قام بسطتهما» وقولها: «والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح».
وقد جاء صريحا عنها قالت: «كنت أمدّ رجليَّ في قِبْلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزِني فرفعتهما، فإذا قام مددتهما» أخرجه البخاري.
فظهر أن الغمز كان على حقيقته مع المباشرة.
ودليل آخر وهو ما روته عائشة أيضًا رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان؛ الحديثَ.
فلمّا وضعت يدها على قدمه وهو ساجد وتمادَى في سجوده كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض إلا على بعض الملامسين دون بعض.
فإن قيل: كان على قدمه حائل كما قاله المُزَنّى.
قيل له: القَدَم قَدمٌ بلا حائل حتى يثبت الحائل، والأصل الوقوف مع الظاهر؛ بل بمجموع ما ذكرنا يجتمع منه كالنّص.
فإن قيل: فقد أجمعت الأمّة على أن رجلا لو استكره امرأة فمّس خِتانه خِتانها وهي لا تلتذّ لذلك؛ أو كانت نائمة فلم تلتذ ولم تشته أن الغسْل واجب عليها؛ فكذلك حكم من قّبل أو لامس بشهوة أو لغير شهوة انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء؛ لأن المعنى في الجّسة والّلمس والقُبلة الفعُل لا الّلذة.
قلنا: قد ذكرنا أن الأعمش وغيره قد خالف فيما ادّعيتموه من الإجماع.
سلمناه لكن هذا استدلال بالإجماع في محل النزاع فلا يلزم؛ وقد استدللنا على صحة مذهبنا بأحاديث صحيحة.
وقد قال الشافعي فيما زعمتم إنه لم يُسبق إليه، وقد سبقه إليه شيخه مالك؛ كما هو مشهور عندنا «إذا صحّ الحديث فخذوا به ودعوا قولي» وقد ثبت الحديث بذلك فَلِم لا تقولون به؟ ويلزم على مذهبكم أن من ضرب امرأته فلطمها بيده تأديبًا لها وإغلاظًا عليها أن ينتقض وضوءه؛ إذ المقصود وجود الفعل، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم، والله أعلم.
وروى الأئمة مالك وغيرهُ «أنه صلى الله عليه وسلم: كان يُصلي وأُمَامَة بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا رَكع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها» وهذا يردّ ما قاله الشافعي في أحد قوليه: لو لمس صغيرة لانتقض طهره تمسّكا بلفظ النساء، وهذا ضعيف؛ فإنّ لمس الصغيرة كلمس الحائط.
واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذّة، ونحن اعتبرنا اللذّة فحيث وُجِدَت وُجِد الحكم، وهو وجوب الوضوء.
وأما قول الأوزاعي في اعتباره اليد خاصّة؛ فلأن الّلمس أكثر ما يستعمل باليد، فقَصَره عليه دون غيره من الأعضاء؛ حتى أنه لو أدخل الرجل رجليه في ثياب امرأته فمسّ فرجها أو بطنها لا ينتقض بذلك وضوء.
وقال في الرجل يقبّل امرأته: إن جاء يسألني قلت يتوضأ، وإن لم يتوضأ لم أعبه.
وقال أبو ثَوْر: لا وضوء على من قبّل آمرأته أو باشرها أو لمسها.
وهذا يُخرّج على مذهب أبي حنيفة، والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَوْ لامستم النساء} يريد سبحانه أو جامعتم النساء إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحي منه، وإلى ذلك ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فيكون إشارة إلى الحدث الأكبر كما أن الأول إشارة إلى الحدث الأصغر.
وعن ابن مسعود والنخعي والشعبي أن المراد بالملامسة ما دون الجماع أي ماسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن اللمس ينقض الوضوء، وبه قال الزهري والأوزاعي وقال مالك والليث بن سعد وأحمد في إحدى الروايات عنه: إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا، وذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة، قيل: ما لم يحدث الانتشار، واختلف قول الشافعي رضي الله تعالى عنه في لمس المحارم كالأم والبنت والأخت، وفي لمس الأجنبية الصغيرة وأصح القولين: أنه لا ينقض كلمس نحو السن والظفر والشعر وينتقض عنده وضوء الملموسة كاللامس في الأظهر لاشتراكهما في مظنة اللذة كالمشتركين في الجماع، وإنما لم ينتقض وضوء الملموس فرجه على مذهبه لأنه لم يوجد منه مس لمظنة لذة أصلًا بخلافه هنا، ودليل القول بعدم نقض وضوء الملموس حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها وضعت يدها على قدميه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ووجه استدلاله بما في الآية على ما استدل عليه أن الحمل على الحقيقة هو الراجح لاسيما في قراءة حمزة والكسائي أو لمستم إذ لم يشتهر اللمس في الجماع كالملامسة، ورجح بعضهم الحمل على الجماع في القراءتين ترجيحًا للمجاز المشهور وعملًا بهما إذ لا منافاة وهو الأفق بمذهبنا، وقال بعض المحققين: إن المتجه أن الملامسة حقيقة في تماس البدنين بشيء من أجزائهما من غير تقييد باليد، وعلى هذا فالجماع من أفراد مسمى الحقيقة فيتناوله اللفظ حقيقة، وإنما يكون مجازًا لو اقتصر على إرادته باللفظ، وادعى الجلال المحلي أن الملامسة حقيقة في الجس باليد مجاز في الوطء، وأن الشافعي رحمه الله تعالى حملها على المعنيين جمعًا بين الحقيقة والمجاز؛ وظاهر عبارة [الأم] أن الشافعي لم يحمل الملامسة على الوطء بل على ما عداه من أنواع التقاء البشرتين، وأنه إنما ذكر الجس باليد تمثيلًا للملامسة بنوع من أنواعها لا تفسيرًا لها بذكر كمال معناها الحقيقي كما بينه الكمال ابن أبي شريف فليفهم.
ثم إن نظم هذين الأمرين في سلك سببي سقوط الطهارة والمصير إلى التيمم مع كونهما سببي وجوبهما ليس باعتبار أنفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله سبحانه: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} بل هو السبب في الحقيقة وإنما ذكرا تمهيدًا له وتنبيهًا على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة بقسميها كأنه قيل: أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعماله من الحدث الأصغر أو الأكبر.
قيل: وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر أيضًا في صورة المرض والسفر لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره لأن الجنابة معتبرة فيهما قطعًا فيعلم من حكمها حكم الحدث الأصغر بدلالة النص لأن تقدير النظم لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا حال كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك، أو كنتم مرضى إلخ، وقيل: إن هذا القيد راجع للكل، وقيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجيء من الغائط والملامسة معتبر فيه أيضًا، واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده، وفي [الكشف] عن بعضهم أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا جنبًا ولا جائيًا أحد منكم من الغائط، أو لامسًا يعني ولا محدثين، ثم قيل: وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا، وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف والمعطوف عليه من غير نكتة، ثم قال بعد أن نقل ما اعترضه: ولعل الأوجه في تقرير الآية والله تعالى أعلم أن يجعل عدم الوجدان عبارة عن عدم القدرة على استعمال الماء لفقد الماء، أو المانع ليصح أن يكون قيدًا للكل، أو يحمل على ظاهره ويجعل قيدًا للأخيرين لأن عموم الإعواز في حق المسافر غالبًا، والمنع من القدرة على استعمال الماء القائم مقامه في حق المريض مغن عن التقييد لفظًا، وأن يبقى قوله سبحانه: {مرضى أَوْ على سَفَرٍ} على إطلاقه من غير تقييد بكونهم محدثين أو مجنبين لأن المقصود بيان سبب العدول عن الطهارة بالماء إلى التيمم، أما المشترك بين الطهارتين فلا يحتاج إلى ذكره قصدًا وأن يجعل ذكر المحدثين من غير القبيلين بيانًا لسبب العدول وهو فقد القدرة من غير سفر ولا مرض لا لأن الحدث سبب وإن أفاد ذلك ضمنًا ولم يقل أو لم تجدوا دون ذكر السببين تنبيهًا على أن عدم الوجدان مرخص بعد انعقاد سبب الطهارة، وأفيد ضمنًا أنهما معتبران أيضًا في المريض والمسافر إذ لا فرق بين المرض والسفر وبين سائر الأعذار في ذلك انتهى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر أظهر وما ذكره على تقدير الحمل عليه ليس بالبعيد عما قدمناه، نعم الآية من معضلات القرآن، ولعلها تحتاج بعد إلى نظر دقيق. اهـ.