فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {أو لامستم النساء} قرئ {لامستم} بصيغة المفاعلة، وقرئ {لمستم} بصيغة الفعل كما سيأتي، وهما بمعنى واحد على التحقيق.
ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل.
وأصل اللّمس المباشرة باليد أو بشيء من الجسد، وقد أطلق مجازًا وكناية على الافتقاد، قال تعالى: {وأنا لمسنا السماء} [الجن: 8] وعلى النزول، قال النابغة:
ليَلْتَمِسَنْ بالجيش دارَ المحارب

وعلى قربان النساء، لأنّه مرادف المسّ، ومنه قولهم: «فلانة لا تردّ يد لامس»، ونظيره {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237].
والملامسة هنا يحتمل أن يكون المراد منها ظاهرها، وهو الملامسة بمباشرة اليد أو بعضِ الجسد جسدَ المرأة، فيكون ذكر سببا ثانيًا من أسباب الوضوء التي توجب التيمّم عند فقد الماء، وبذلك فسّره الشافعي، فجعل لمس الرجل بيده جسد امرأته موجبًا للوضوء، وهو محمل بعيد، إذ لا يكون لمس الجسد موجبًا للوضوء وإنَّما الوضوء ممّا يخرج خروجًا معتادًا.
فالمحمل الصحيح أنّ الملامسة كناية عن الجماع.
وتعديد هذه الأسباب لجمع ما يغلب من موجبات الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى، وإنّما لم يستغن عن {لمستم النساء} بقوله آنفًا {ولا جنبًا} لأنّ ذلك ذكر في معرض الأمر بالاغتسال، وهذا ذكر في معرض الإذن بالتيمّم الرخصة.
والمقام مقام تشريع يناسبه عدم الاكتفاء بدلالة الالتزام، وبذلك يكون وجه لذكره وجيه.
وأمّا على تأويل الشافعي ومن تابعه فلا يكون لذكر سبب ثان من أسباب الوضوء كبير أهمية.
وإلى هذا مال الجمهور فلذلك لم يجب عند مالك وأبي حنيفة الوضوء من لمس الرجل امرأته ما لم يخرج منه شيء، إلاّ أنّ مالكًا قال: إذا التذ اللامس أو قَصَد اللذّة انتقض وضوءه، وحمل الملامسة في هذه الآية على معنييها الكنائي والصريح، لكن هذا بشرط الالتذاذ، وبه قال جمع من السلف، وأرى مالكًا اعتمد في هذا على الآثار المروية عن أيّمة السلف، ولا أراه جعله المراد من الآية. اهـ.

.قال الفخر:

قال أهل الظاهر: إنما ينتقض وضوء اللامس لظاهر قوله: {أو لامستم النساء} أما الملموس فلا.
وقال الشافعي رضي الله عنه: بل ينتقض وضوءهما معًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} الأسباب التي لا يجد المسافرُ معها الماءَ هي إما عدمه جملة أو عدم بعضه، وإما أن يخاف فوات الرفيق، أو على الرحل بسبب طلبه، أو يخاف لصوصا أو سباعا، أو فوات الوقت، أو عطشا على نفسه أو على غيره؛ وكذلك لطبيخ يَطْبِخُه لمصلحة بدنه؛ فإذا كان أحد هذه الأشياء تيّمم وصلّى.
ويترتب عدمه للمريض بألا يجد من يناوله، أو يخاف من ضرره.
ويترتب أيضًا عدمه للصّحيح الحاضر بالغَلاء الذي يَعُم جميع الأصناف، أو بأن يُسجَن أو يربط.
قال الحسن: يشتري الرجل الماء بماله كلّه ويبقى عديمًا، وهذا ضعيف، لأن دين الله يُسْر.
وقالت طائفة: يشتريه ما لم يَزِد على القيمة الثلث فصاعدًا.
وقالت طائفة: يشتري قيمة الدّرهم بالدّرهمين والثلاث ونحو هذا؛ وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله.
وقيل لأشهب: أتُشتَرى القِربة بعشرة دراهم؟ فقال: ما أرى ذلك على الناس.
وقال الشافعي بعدم الزيادة. اهـ.

.قال الفخر:

قال الشافعي رضي الله عنه: إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده وتيمم وصلى، ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب.
حجة الشافعي قوله: {فلم تجدوا ماء} وعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب، فلابد في كل مرة من سبق الطلب.
فإن قيل: قولنا: وجد، لا يشعر بسبق الطلب، بدليل قوله تعالى: {ووجدك ضالًا فهدى ووجدك عائلًا فأغنى} [الضحى: 7، 8] وقوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف: 102] وقوله: {ولم نجد له عزما} فإن الطلب على الله محال.
قلنا: الطلب وإن كان في حقه تعالى محالا، إلا أنه لما أخرج محمدًا صلى الله عليه وسلم من بين قومه بما لم يكن لائقًا لقومه صار ذلك كأنه طلبه، ولما أمر الملكفين بالطاعات ثم إنهم قصروا فيها صار كأنه طلب شيئًا ثم لم يجده، فخرجت هذه اللفظة في هذه الآيات على سبيل التأويل من الوجه الذي ذكرناه. اهـ.
قال الفخر:
أجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم جاز له التيمم، أما إذا وجد من الماء مالا يكفيه للوضوء، فهل يجب عليه أن يجمع بين استعمال ذلك القدر من الماء وبين التيمم؟ قد أوجبه الشافي رضي الله عنه، متمسكًا بظاهر لفظ الآية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ} التّيمّم مما خُصّت به هذه الأمّة توسعة عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدًا وجعلت تربتها لنا طهورًا» فذكر الحديث.
وقد تقدم ذكر نزوله، وذلك بسبب القِلادة حسبما بيّناه.
وقد تقدّم ذكر الأسباب التي تبيحه، والكلام هاهنا في معناه لغة وشرعا، وفي صفته وكيفيته وما يتيمّم به وله، ومن يجوز له التّيمّم، وشروط التّيمّم إلى غير ذلك من أحكامه.
فالتّيمّم لغة هو القصد.
تيمّمت الشيء قصدته، وتيّممت الصعيد تعمدته، وتيمّمْتُه برُمحي وسهمي أي قصدته دون مَن سواه.
وأنشد الخليل:
يمّمته الرّمح شَزْرا ثم قلت له ** هذي البَسَالة لا لِعْب الزَّحاليق

قال الخليل: من قال في هذا البيت أممته فقد أخطأ؛ لأنه قال؛ شَزْرا ولا يكون الشزر إلا من ناحية ولم يقصد به أمامه.
وقال امرؤ القيس:
تيممتها من أذرِعاتٍ وأهلُها ** بَيثْرِب أدْنَى دارِها نظرٌ عالٍ

وقال أيضًا:
تيمّمتِ العينَ التي عند ضارِجٍ ** يَفىءُ عليها الظلُّ عَرْمَضُها طامي

آخر:
إنِّي كذاك إذا ما ساءني بلدٌ ** يمّمت بعيري غيره بلدا

وقال أعشى باهلة:
تيممت قيسًا وكم دونه ** من الأرض من مَهْمَهٍ ذي شزن

وقال حُميد بن ثَوْر:
سِلِ الرَّبْعَ أنَّي يَمّمت أمَّ طارقٍ ** وهل عادةٌ للرّبِع أن يتكلّما

وللشافعي رضي الله عنه:
عِلمي معي حيثما يمّمتُ أحمِله ** بطني وِعاءٌ له لا بطن صنْدوق

قال ابن السِّكّيت: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} أي اقصِدوا؛ ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسحَ الوجه واليدين بالتراب.
وقال ابن الأنباري في قولهم: قد تيمم الرجل معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه.
قلت: وهذا هو التيمم الشرعيّ، إذا كان المقصود به القُربة.
ويممت المريض فتيمَّمَ للصلاة.
ورجل مُيَمَّم يظفر بكلّ ما يطلب؛ عن الشيباني.
وأنشد:
إنا وجدنا أعْصُرَ بن سعد ** مُيَمَّم البيت رفيعَ المجدِ

وقال آخر:
أزْهَر لم يولَد بِنجم الشُّحِّ ** مُيَمَّم البيت كريم السَّنْح

. اهـ.
ثم قال رحمه الله:
لفظ التيمم ذكره الّله تعالى في كتابه في [البقرة] وفي هذه السورة و[المائدة] والتي في هذه السورة هي آية التيمم. والله أعلم.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: هذه مُعْضِلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد؛ هما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في [النساء] والأخرى في [المائدة].
فلا نعلم أيْة آية عَنَت عائشة بقولها: فأنزل الله آية التيمم.
ثم قال: وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم.
قلت: أما قوله: فلا نعلم أيّة آية عَنَت عائشة فهي هذه الآية على ما ذكرنا. والله أعلم.
وقوله: وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم فصحيح ولا خلاف فيه بين أهل السِّيرَ؛ لأنه معلوم أن غسل الجنابة لم يُفترض قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يُصَلّ إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم.
فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدّم متلُوًا في التنزيل.
وفي قوله: «فنزلت آية التيمم» ولم يقل آية الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء؛ وهذا بيّن لا إشكال فيه. اهـ.

.قال الفخر:

قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لو فرضنا صخرًا لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافيًا.
قال الشافعي رضي الله عنه: بل لابد من تراب يلتصق بيده.
احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال: التيمم هو القصد، والصعيد هو ما تصاعد من الأرض، فقوله: {فتيمموا صعيدًا طيبا} أي اقصدوا أرضًا، فوجب أن يكون هذا القدر كافيًا.
وأما الشافعي فإنه احتج بوجهين الأول: أن هذه الآية هاهنا مطلقة، ولكنها في سورة المائدة مقيدة، وهي قوله سبحانه: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6] وكلمة من للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه.
فإن قيل: إن كلمة من لابتداء الغاية، قال صاحب الكشاف: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب: إلا معنى التبعيض، ثم قال: والاذعان للحق أحق من المراء.
الثاني: ما ذكره الواحدي رحمه الله، وهو أنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبًا، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} [الأعراف: 58] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة، فكان قوله: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} أمرا بالتيمم بالتراب فقط، وظاهر الأمر للوجوب.
أن قوله: {صعيدًا طيبًا} أمر بإيقاع التيمم بالصعيد الطيب، والصعيد الطيب هو الأرض التي لا سبخة فيها، ولا شك أن التيمم بهذا التراب جائز بالإجماع، فوجب حمل الصعيد الطيب عليه رعاية لقاعدة الاحتياط، لاسيما وقد خصص النبي عليه الصلاة والسلام التراب بهذه الصفة، فقال: «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» وقال: «التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء». اهـ.