فصل: فصل في اشتقاق الاستعاذة وإعرابها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في اشتقاق الاستعاذة وإعرابها:

العوذ له معنيان: أحدهما: الالتجاء والاستجارة.
والثاني: الالتصاق؛ ويقال: (أطيب اللحم عوذه) هو: ما التصق بالعظم.
فعلى الأول: أعوذ بالله، أي: ألتجئ إلى رحمه الله، ومنه العوذة: وهي ما يعاذ به من الشر.
وقيل للرقية، والتميمة- وهي ما يعلق على الصبي: عوذة، وعوذة (بفتح العين وضمها)، وكل أنثى وضعت فهي عائذ إلى سبعة أيام.
ويقال: عاذ يعوذا عوذا، وعياذا، ومعاذا، فهو عائذ ومعوذ ومنه قول الشاعر:
(البسيط)
1- ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني

قيل: عائذ- هنا- أصله اسم فاعل؛ ولكنه وقع موقع المصدر؛ كأنه قال: (وعياذا بك) وسيأتي تحقيق هذا القول إن شاء الله تعالى.
و(أعوذ) فعل مضارع، وأصله: (أعوذ) بضم الواو؛ مثل: (أقتل، وأخرج أنا) وإنما نقلوا حركة الواو إلى الساكن قبلها؛ لأن الضمة ثقيلة، وهكذا كل مضارع من(فعل) عينه واو؛ نحو: (أقوم، ويقوم، وأجول، ويجول) وفاعله ضمير المتكلم.
وهذا الفاعل لا يجوز بروزه؛ بل هو من المواضع السبعة التي يجب فيها استتار الضمير على خلاف في السابع ولابد من ذكرها؛ لعموم فائدتها، وكثرة دورها:
الأول: المضارع المسند للمتكلم وحده؛ نحو: (أفعل).
الثاني: المضارع المسند للمتكلم مع غيره، أو المعظم نفسه؛ نحو: (نفعل نحن).
الثالث: المضارع المسند للمخاطب؛ نحو: (تفعل أنت)، ويوحد المخاطب بقيد الإفراد، والتذكير؛ لأنه متى كان مثنى، أو مجموعا، أو مؤنثا- وجب بروزه؛ نحو:
(تقومان- يقومون- تقومين).
الرابع: فعل الأمر المسند للمخاطب؛ نحو: (افعل أنت) ويوحد المخاطب أيضا- بقيد الإفراد، والتذكير؛ لأنه متى كان مثنى، أو مجموعا، أو مؤنثا- وجب بروزه؛ نحو:
(افعلا- افعلوا- افعلي).
الخامس: اسم فعل الأمر مطلقا، سواء كان المأمور مفردا، أو مثنى، أو مجموعا، أو مؤنثا؛ نحو: (صه يا زيد- يا زيدان- يا زيدون- يا هند- يا هندان- يا هندات).
بخلاف فعل الأمر؛ فإنه يبرز فيه ضمير غير المفرد المذكر، كما تقدم.
السادس: اسم الفعل المضارع؛ نحو: (أوه) أي: أتوجع، و(أف) أي: أتضجر، و(وي) أي: أعجب.
وهذه الستة لا يبرز فيها الضمير؛ بلا خلاف.
وتحرزت بقول: (اسم فعل الأمر، واسم الفعل المضارع) عن اسم الفعل الماضي؛
فإنه لا يجب فيه الاستتار كما سيأتي.
السابع: المصدر الواقع موقع الفعل بدلا من لفظه؛ نحو: (ضربا زيدا)؛ وقول الشاعر: (الطويل)
2- يمرون بالدهنا خفافا عيابهم ويرجعن من دارين بجر الحقائب

3- على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلا زريق المال ندل الثعالب

وقوله تعالى: {فضرب الرقاب} [محمد: 4].
هذا إذا جعلنا في (ضربا) ضميرا مستترا؛ وأما من يقول من النحويين: إنه لا يتحمل ضميرا ألبتة؛ فلا يكون من المسألة في شيء.
والضابط فيما يجب استتاره، وإن عرف من تعداد الصور المتقدمة- أن كل ضمير لا يحل محله ظاهر، ولا ضمير متصل، فهو واجب الاستتار كالمواضع المتقدمة، وما جاز أن يحل محله ظاهر، فهو جائز الاستتار؛ نحو: (زيد قام) في (قام) ضمير جائز الاستتار، ويحل محله الظاهر؛ نحو: (زيد قام أبوه) أو الضمير المنفصل، نحو: (زيد ما قام إلا هو) فإن وجد من لسانهم في أحد المواضع المتقدمة، الواجب فيها الاستتار ضمير منفصل، فليعتقد كونه توكيدا للضمير المستتر؛ كقوله تعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة: 35] ف(أنت) مؤكد لفاعل(اسكن).
و(بالله) جار ومجرور، وكذلك: (من الشيطان) وهما متعلقان ب(أعوذ).
ومعنى الباء: الاستعانة، و(من): للتعليل، أي: أعوذ مستعينا بالله من أجل الشيطان، ويجوز أن تكون(من) لابتداء الغاية، ولها معان أخر ستأتي إن شاء الله تعالى.
وأما الكلام على الجلالة، فيأتي في البسملة إن شاء الله تعالى.
والشيطان: المتمرد من الجن، وقيل: الشياطين أقوى من الجن، والمردة أقوى من الشياطين، والعفريت أقوى من المردة، والعفاريت أقواها.
وقال أبو عبيدة- رحمه الله-: الشيطان: اسم لكل عارم من الجن، والإنس، والحيوانات؛ لبعده من الرشاد قال تبارك وتعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112]، فجعل من الإنس شياطين.
وركب عمر- رضي الله تعالى عنه- برذونا، فطفق يتبختر؛ فجعل يضربه، فلا يزداد إلا تخبترا؛ فنزل عنه، وقال: (ما حملتموني إلا على شيطان).
وقد يطلق على كل قوة ذميمة في الإنسان؛ قال عليه الصلاة والسلام: «الحسد شيطان، والغضب شيطان»؛ وذلك لأنهما ينشآن عنه.
واختلف أهل اللغة في اشتقاقه:
فقال جمهورهم: هو مشتق من: (شطن- يشطن) أي: بعد؛ لأنه بعيد من رحمة الله تعالى؛ وأنشد: (الوافر)
4- نأت بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها رهين

وقال آخر: (الخفيف)
5- إيما شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأكبال

وحكى سيبويه- رحمه الله-: (تشيطن) أي: فعل فِعل الشياطين؛ فهذا كله يدل على أنه من(شطن)؛ لثبوت النون، وسقوط الألف في تصاريف الكلمة، ووزنه على هذا: (فيعال).
وقيل: هو مشتق من(شاط- يشيط) أي: هاج، واحترق، ولا شك أن هذا المعنى موجود فيه، فأخذوا بذلك أنه مشتق من هذه المادة، لكن لم يسمع في تصاريفه إلا ثابت النون، محذوف الألف؛ كما تقدم، ووزنه على هذا(فعلان) ويترتب على القولين: صرفه وعدم صرفه، إذا سمي به، وأما إذا لم يسم به، فإنه متصرف ألبتة؛ لأن من شرط امتناع (فعلان) الصفة ألا يؤنث بالتاء، وهذا يؤنث بها؛ قالوا: (شيطانة).
قال ابن الخطيب: و(الشيطان) مبالغة في الشيطنة؛ كما أن (الرحمن) مبالغة في الرحمة. و(الرجيم) في حق الشيطان (فعيل) بمعنى (فاعل).
إذا عرفت هذا، فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم.
قوله: (الرجيم) نعت له على الذم، وفائدة النعت: إما إزالة اشتراك عارض في معرفة؛ نحو: (رأيت زيدا العاقل).
وإما تخصيص نكرة؛ نحو: (رأيت رجلا تاجرا) وإما لمجرد مدح، أو ذم، أو ترحم؛ نحو: (مررت بزيد المسكين) وقد يأتي لمجرد التوكيد؛ نحو قوله: {نفخة واحدة} [الحاقة: 31] ولابد من ذكر قاعدة في النعت، تعم فائدتها:
اعلم أن النعت إن كان مشتقا بقياس، وكان معناه لمتبوعه، لزم أن يوافقه في أربعة من عشرة؛ أعني في واحد من ألقاب الإعراب: الرفع، والنصب، والجر، وفي واحد من: الإفراد، والتثنية، والجمع، وفي واحد من: التذكير، والتأنيث، وفي واحد من: التعريف، والتنكير.
وإن كان معناه لغير متبوعه، وافقه في اثنين من خمسة: في واحد من ألقاب الإعراب، وفي واحد من التعريف والتنكير؛ نحو: (مررت برجلين عاقلة أمهما)، فلم يتبعه في تثنية ولا تذكير. وإذا اختصرت ذلك كله، فقل: النعت يلزم أن يتبع منعوته في اثنين من خمسة مطلقا: في واحد من ألقاب الإعراب، وفي واحد من التعريف والتنكير، وفي الباقي كالفعل؛ يعني: أنك تضع موضع النعت فعلا، فمهما ظهر في الفعل، ظهر في النعت؛ مثاله ما تقدم في: (مررت برجلين عاقلة أمهما)؛ لأنك تقول: (مررت برجلين عقلت أمهما).
(والرجيم) قد تبع موصوفه في أربعة من عشرة؛ لما عرفت، وهو مشتق من (الرجم)، والرجم أصله: الرمي بالرجام، وهي الحجارة، ويستعار الرجم للرمي بالظن والتوهم.
قال زهير: (الطويل)
6- وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم

ويعبر به- أيضا- عن الشتم؛ قال تعالى: {لئن لم تنته لأرجمنك} [مريم: 46]
قيل: أقول فيك قولا سيئا.
والمراجمة: المسابة الشديدة استعارة كالمقاذفة، فالرجيم معناه: المرجوم، فهو (فعيل) بمعنى(مفعول)؛ كقولهم: كف خضيب أي: مخضوب: ورجل لعين أي: ملعون.
قال الراغب: والترجمان تفعلان من ذلك كأنه يعني أنه يرمي بكلام من يترجم عنه إلى غيره؛ والرجمة: أحجار القبر، ثم عبر بها عنه؛ وفي الحديث: «لا ترجموا قبري»، أي: لا تضعوا عليه الرجمة.
ويجوز أن يكون بمعنى (فاعل)؛ لأنه يرجم غيره بالشر، ولكنه بمعنى (مفعول) أكثر، وإن كان غير مقيس.
ثم في كونه مرجوما وجهان:
الأول: أن معنى كونه مرجوما كونه ملعونا من قبل الله تعالى؛ قال الله تعالى: {فاخرج منها فإنك رجيم} [الحجر: 34] واللعن يسمى رجما.
وحكى الله تعالى- عن والد إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: {لئن لم تنته لأرجمنك} قيل: عنى بقوله الرجم بالقول. وحكى الله تعالى عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا: {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين} [الشعراء: 116] وفي سورة يس: {لئن لم تنتهوا لنرجمنكم} [يس: 18].
والوجه: أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوما؛ لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب؛ طردا لهم من السموات، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد. وأما قوله في بعض وجوه الاستعاذة: إن الله هو السميع العليم، ففيه وجهان:
الأول: أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة، ومعلوم أن الوسوسة كأنها كلام خفي في قلب الإنسان، ولا يطلع عليها أحد، فكأن العبد يقول: يا من هو يسمع كل مسموع، ويعلم كل سر خفي أنت تعلم وسوسة الشيطان، وتعلم غرضه منها، وأنت القادر على دفعها عني، فادفعها عني بفضلك؛ فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار.
الثاني: أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع؛ اقتداء بلفظ القرآن؛ وهو قوله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه سميع عليم} [الأعراف: 200].