فصل: تفسير الآيات (44- 45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (44- 45):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)}

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

.قال البقاعي:

ولما أفهم ختام هذه الآية أن التشديد في الأحكام يكون سببًا للإجرام، فيكون سببًا في الانتقام؛ قرر ذلك بحال اليهود الذين أوجبت لهم الآصار عذاب النار فقال- ليكون ذلك مرغبًا في تقبل ما مر من التكاليف ليسره ولرجاء الثواب، مرهبًا من تركها خوفًا من العقاب، وليصير الكلام حلوًا رائقًا بهجًا بتفصيل نظمه تارة بأحكام، وتارة بأقاصيص عظام، فينشط الخاطر وتقوى القريحة-: {ألم تر} أو يقال: إنه لما حذر سبحانه وتعالى فيما مضى من أهل الكتاب بقوله سبحانه وتعالى: {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلًا عظيمًا} [النساء: 27] ومر إلى أن أنزل هذه فيمن حرف في الصلاة لسانه فقط لا عن عمد الكلم عن واضعه؛ أتبعها التصريح بالتعجيب من حال المحرفين بالقلب واللسان عمدًا وعدوانًا اجتراء على الله سبحانه وتعالى، الملوح إليهم بالآية السابقة أنهم يريدون لنا الضلال عما هدينا إليه من سننهم فقال: {ألم تر}.
ولما كانوا بمحل البعد- بما لهم من اللعن- عن حضرته الشريفة، عبر بأداة الانتهاء، بصرية كانت الرؤية أو قلبية، فقال: {إلى الذين أوتوا} وحقر أمرهم بالبناء للمفعول وبقوله: {نصيبًا من الكتاب} أي كشاس بن قيس الذي أراد الخلف بين الأنصار، وفي ذلك أن أقل شيء من الكتاب يكفي في ذم الضلال، لأنه كاف في الهداية {يشترون} أي يتكلفون ويلحون- بما هم فيه من رئاسة الدنيا من المال والجاه- أن يأخذوا {الضلالة} معرضين عن الهدى غير ذاكريه بوجه، وسبب كثير من ذلك ما في دينهم من الآصال والأثقال، كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} [مريم: 59] أي بسبب ما شدد عليهم فيها بأنها لا تفعل إلا في الموضع المبني لها، وبغير ذلك من أنواع الشدة، وكذا غيرها المشار إليه بقوله سبحانه وتعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم} [النساء: 155] وغير ذلك، ومن أعظمه ما يخفون من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ليتقربوا بذلك إلى أهل دينهم، ويأخذوا منهم الرشى على ذلك، ويجعلوهم عليهم رؤساء.
ولما ذكر ضلالهم المتضمن لإضلالهم، أتبعه ما يدل على إعراقهم فيه، فقال مخاطبًا لمن يمكن توجيه هممهم بإضلال إليه: {ويريدون أن تضلوا} أي يا أيها الذين آمنوا {السبيل} حتى تساووهم، فلذلك يذكرونكم بالأحقاد والأضغان والأنكاد- كما فعل شاس- لا محبة فيكم، ويلقون إليكم الشبهة، فالله سبحانه وتعالى أعلم بهم حيث حذركم منه بقوله: {لا يألونكم خبالًا} [آل عمران: 118] وما بعده إلى هنا {والله} أي المحيط علمه وقدرته {أعلم} أي من كل أحد {بأعدائكم} أي كلهم هؤلاء وغيرهم، بما يعلم من البواطن، فمن حذركم منه كائنًا من كان فاحذره.
ولما كان كل من قبيلتي الأنصار قد والوا ناسًا من اليهود ليعتزوا بهم وليستنصروهم، قال تعالى فاطمًا لهم عن موالاتهم: {وكفى} أي والحال أنه كفى به هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الاسم الأعظم لتستحضر عظمته، فيستهان أمر الأعداء فقال: {بالله وليًا} أي قريبًا بعمل جميع ما يفعله القريب الشفيق.
ولما كان الولي قد تكون فيه قوة النصرة، والنصير قد لا يكون له شفقة الولي، وكانت النصرة أعظم ما يحتاج إلى الولي فيه؛ أفردها بالذكر إعلامًا باجتماع الوصفين مكررًا الفعل والاسم الأعظم اهتمامًا بأمرها فقال: {وكفى بالله} أي الذي له العظمة كلها {نصيرًا} أي لمن والاه فلا يضره عداوة أحد، فثقوا بولايته ونصرته دونهم، ولا تبالوا بأحد منهم ولا من غيرهم، فهو يكفيكم الجميع. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية، قطع هاهنا ببيان الأحكام الشرعية، وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين، لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر، فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر، فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله: {أَلَمْ تَرَ} معناه: ألم ينته علمك إلى هؤلاء، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَاجَّ إبراهيم} [البقرة: 258] وحاصل الكلام أن العلم اليقيني يشبه الرؤية، فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنهم قد صاروا لجحودهم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كمشتري الضلالة بالهدى.
والثاني: أنهم كانوا يعطون أحبارهم أموالهم على ما كانواْ يصنعونه من التكذيب بالرسول صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أنهم كانوا يأخذون الرشا، وقد روى ثابت البناني عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي، والمرتشي، والرائش، وهو المتوسط بينهما. اهـ.

.قال الفخر:

الذين أوتوا نصيبا من الكتاب: هم اليهود، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن قوله بعد هذه الآية: {مّنَ الذين هَادُواْ} [النساء: 46] متعلق بهذه الآية.
الثاني: روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود، كانا يأتيان رأس المنافقان عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الإسلام.
الثالث: أن عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن، فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى. اهـ.
قال الفخر:
لم يقل تعالى: إنهم أوتوا علم الكتاب، بل قال: {أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى عليه السلام، ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأما الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وعرفوا الأمرين، فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب، فقال: {قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين: الضلال والإضلال، أما الضلال فهو قوله: {يَشْتَرُونَ الضلالة} وفيه وجوه:
الأول: قال الزجاج: يؤثرون تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة، وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء لأن من اشترى شيئا آثره.
الثاني: أن في الآية إضمارا، وتأويله: يشترون الضلالة بالهدى كقوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] أي يستبدلون الضلالة بالهدى، ولا إضمار على قول الزجاج.
الثالث: المراد بهذه الآية عوام اليهود، فإنهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها، فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة، ولا إضمار على هذا التأويل أيضا، ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والاشتراء مجاز في الاختيار والسعي لتحصيل الشيء، لأنّ المشتري هو آخذ الشيء المرغوب فيه من المتبائعيْن، والبائع هو باذل الشيء المرغوب فيه لحاجته إلى ثمنه، هكذا اعتبرَ أهل العرف الذي بنيت عليه اللغة وإلاّ فإنّ كلا المتبايعين مشتر وشَار، فلا جرم أن أطلق الاشتراء مجازًا على الاختيار، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} في سورة البقرة (16).
وهذا يدلّ على أنّهم اقتحموا الضلالة عن عمد لضعف إيمانهم بكتابهم وقلّة جدوى عِلمهم عليهم. اهـ.

.قال الفخر:

{وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم؛ لكي يخرجوا عن الإسلام.
واعلم أنك لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني الضلال والإضلال. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ويريدون أن تضلوا السبيل} أي يريدون للمؤمنين الضلالة لئلا يفضلوهم بالاهتداء، كقوله: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق} [البقرة: 109].
فالإرادة هنا بمعنى المحبّة كقوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الدين من قبلكم}.
ولك أن تجعل الإرادة على الغالب في معناها وهو الباعث النفساني على العمل، أي يسعون لأن تضلّوا، وذلك بإلقاء الشبه والسعي في صرف المسلمين عن الإيمان، وقد تقدّم آنفًا قوله تعالى: {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيمًا} [النساء: 27]. اهـ.

.قال الطبري:

يعني جل ثناؤه بقوله: {يشترون الضلالة}، اليهود الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، يختارون الضلالة وذلك: الأخذ على غير طريق الحقّ، وركوبُ غير سبيل الرشد والصواب، مع العلم منهم بقصد السبيل ومنهج الحق.
وإنما عنى الله بوصفهم باشترائهم الضلالة: مقامهم على التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم الإيمان به، وهم عالمون أنّ السبيل الحقَّ الإيمانُ به، وتصديقه بما قد وجدوا من صفته في كتبهم التي عندهم.
وأما قوله: {ويريدون أن تضلوا السبيل}، يعني بذلك تعالى ذكره: ويريد هؤلاء اليهود الذين وصَفهم جل ثناؤه بأنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب {أن تضلوا} أنتم، يا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، المصدقين به {أن تضلوا السبيل}، يقول: أن تزولوا عن قصد الطريق ومَحَجَّة الحق، فتكذبوا بمحمد، وتكونوا ضلالا مثلهم.
وهذا من الله تعالى ذكره تحذيرٌ منه عبادَه المؤمنين، أن يستنصحوا أحدًا من أعداء الإسلام في شيء من أمر دينهم، أو أن يسمعوا شيئًا من طعنهم في الحق. اهـ.

.قال الفخر:

{والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء. اهـ.