فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم، وإقامة الحجّة عليهم، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وَزْع، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تَعِنُّ من فُرَص الموعظة والهدى إلاّ انتهزها، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل، وتبصّرها في الحق، فينجدوها حينئذٍ بقوارع الموعظة والإرشاد، كما أشار إليه الحريري في المقامة (11) إذ قال: فلَمَّا ألْحَدُوا المَيْت، وفَاتَ قولُ لَيْت، أشْرَفَ شَيْخ من رِبَاوَة، متَأبِّطًا لِهِرَاوة، فقال: {لِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون} إلخ، لذلك جيء بقوله: {يا أيّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نّزلنا مصدّقًا لما معكم} الآية عقب ما تقدّم.
وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب} [آل عمران: 23] لأنّ ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنّهم شُرّفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتّسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنّهم أوتوا الكتاب كلّه حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم، وأوتوا نصيبًا منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم، فالذي لم يعملوا به منه كأنّهم لم يُؤتَوْه.
وجيء بالصلتين في قوله: {بما نزلنا} وقوله: بما معكم دون الاسمين العلمين، وهما: القرآن والتوراة: لما في قوله: {بما نزلنا} من التذكير بعظم شأن القرآن أنّه منزل بإنزال الله، ولما في قوله: {لما معكم} من التعريض بهم في أنّ التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حقّ علمه ولا يعملون بما فيه، على حدّ قوله: {كمثَل الحمار يحمل أسفارًا} [الجمعة: 5]. اهـ.

.قال القرطبي:

قال ابن إسحاق: كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساءَ من أحبار يهود منهم عبد الله بن صُورِيا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم: «يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق» قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد.
وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر؛ فأنزل الله عز وجل فيهم: {يَا أَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا} إلى آخر الآية. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَا أَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} نزلت كما قال السدي في زيد بن التابوت ومالك بن الصيف.
وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله تعالى فيهم الآية»، ولا يخفى أن العبرة لعموم اللفظ وهو شامل لمن حكيت أحوالهم وأقوالهم ولغيرهم، وجعل الخطاب للأولين خاصة بطريق الالتفات، وأن وصفهم بإيتاء الكتاب تارة وبإيتاء نصيب منه أخرى لتوفية كل من المقامين حظه بعيد جدًا، ولما كان تفصيل هاتيك الأحوال والأقوال من مظان إقلاع من توجه الخطاب إليهم عما هم عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهدى مشفوعًا بالتحذير والتخويف والوعيد الشديد على المخالفة فقال سبحانه: {ءامَنُواْ} إيمانًا شرعيًا {بِمَا نَزَّلْنَا} أي بالذي أنزلناه من عندنا على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن {مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ} من التوراة الغير المبدلة، وقد تقدم كيفية تصديق القرآن لذلك وعبر عن التوراة بما ذكر للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقًا لها. اهـ.

.قال الفيروزابادي:

قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} وفى غيرها {يا أهل الكتاب} لأَنَّه سبحانه استخفَّ بهم في هذه الآية، وبالغ، ثمّ ختم بالطمس، وردِّ الوجوه على الأَدبار، واللَّعن، وأَنَّها كلَّها واقعة بهم. اهـ.

.قال الفخر:

الطمس: المحو، تقول العرب في وصف المفازة، إنها طامسة الأعلام وطمس الطريق وطمس إذا درس، وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله، وطمست الريح الأثر إذا محته، وطمست الكتاب محوته، وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين:
أحدهما: حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه:
والثاني: حمل اللفظ على مجازه.
أما القول الأول: فهو أن المراد من طمس الوجوه محو تخطيط صورها، فإن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس، فإذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا، ومعنى قوله: {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} رد الوجوه إلى ناحية القفا، وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة، لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة، فإن هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه، ومما يقرره قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10] فإنه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب من وراء ظهورهم، لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان.
فاما القول الثاني: فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه، ثم ذكروا فيه وجوها:
الأول: قال الحسن: المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها، أي على ضلالتها، والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات، ونظيره قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس، ثم عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، فقدامه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه كما قال تعالى في صفتهم: {ناكسو رؤسهم} [السجدة: 12].
الثاني: يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير، وبالوجوه: رؤساؤهم ووجهاؤهم، والمعنى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الاقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والادبار والمذلة.
الثالث: قال عبد الرحمن بن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وإريحاء من أرض الشام، كما جاؤا منها بدءًا، وطمس الوجوه على هذا التأويل يحتمل معنيين: أحدهما: تقبيح صورتهم يقال: طمس الله صورته كقوله: قبح الله وجهه، والثاني: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها.
فإن قيل: إنه تعالى هددهم بطمس الوجوه على القول الثاني فلا إشكال ألبتة، وإن فسرناه على القول الأول وهو حمله على ظاهره فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه، بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فإنه قال: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} وظاهره ليس هو المسخ.
الثاني: قوله تعالى: {ءامَنُواْ} تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم، فلزم أن يكون قوله: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا} واقعا في الآخرة، فصار التقدير: آمنوا من قبل أن يجئ وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت.
الثالث: أنا قد بينا أن قوله: {يَا أَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} خطاب مع جميع علمائهم، فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالإيمان، وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن عبد الله بن سلام وجمع كثير من أصحابه، ففات المشروط بفوات الشرط، ويقال: لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي.
الرابع: أنه تعالى لم يقل: من قبل أن نطمس وجوهكم، بل قال: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا} وعندنا أنه لابد من طمس في اليهود أو مسخ قبل قيام الساعة، ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيابهم، بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} فذكرهم على سبيل المغايبة، ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب، وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه. اهـ.

.قال القرطبي:

واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين.
أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسَلْبِهِم التوفيق؟ قولان.
رُوي عن أُبيّ بن كعب أنه قال: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ} من قبل أن نضلكم إضلالًا لا تهتدون بعده.
يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبةً.
وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء.
أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب؛ هذا معناه عند أهل اللغة.
ورُوي عن ابن عباس وعطية العَوْفيّ: أن الطّمس أن تُزال العينان خاصّةً وتردّ في القفا، فيكون ذلك رَدًّا على الدبر ويمشي القَهْقَرَى.
وقال مالك رحمه الله: كان أوّل إسلام كعب الأحبار أنه مَر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ} فوضع كفّيه على وجهه ورجع القَهْقَرَى إلى بيته فأسلم مكانه وقال: والله لقد خِفت ألا أبلغ بيتي حتى يُطمَس وجهي.
وكذلك فعل عبد الله بن سَلاَم، لمّا نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أدري أن أصل إليك حتى يحوّل وجهي في قفاي. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى: {من قبل أن نطمس} أي آمنِوا في زمن يبتدئ من قبل الطمس، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلّط الله عليهم ما يفسد به محيَّاهم فإنّ قدرة الله صالحة لذلك، ويحتمل أن يكون الطمس مجازًا على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإنّ الوجوه مجامع الحواسّ.
والتهديد لا يقتضي وقوع المهدّد به، وفي الحديث: «أمَا يخشَى الذي يرفع رأسه قبلَ الإمام أن يَجعل الله وجهه وجه حمار».
وأصْل الطمس إزالة الآثار الماثلة.
قال كعب:
عُرْضَتُها طَامِسُ الأعلام مَجْهُولُ

وقد يطلق الطمس مجازًا على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه.
ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها. اهـ.

.قال الطبري:

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معنى قوله: {من قبل أن نطمس وجوها}، من قبل أن نطمس أبصارَها ونمحو آثارها فنسوّيها كالأقفاء {فنردها على أدبارها}، فنجعل أبصارها في أدبارها، يعني بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه، فيكون معناه: فنحوّل الوجوه أقْفاءً والأقفَاء وجوهًا، فيمشون القهقرى، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب: لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهودَ الذين وصف صفتهم بقوله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة}، ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب أمنوا بما نزلنا مصدِّقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها} الآية، بأسَه وسطوته وتعجيل عَقابه لهم، إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به. ولا شك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارًا.
وإذْ كان ذلك كذلك، فبيّنٌ فساد قول من قال: تأويل ذلك: أن نعمِيها عن الحق فنردها في الضلالة. فما وجْه ردِّ من هو في الضلالة فيها؟! وإنما يرد في الشيء من كان خارجًا منه. فأما من هو فيه، فلا وجه لأن يقال: نرده فيه.
وإذْ كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا أنّ الله قد تهدَّد للذين ذكرهم في هذه الآية بردّه وجوهَهم على أدبارهم كان بيّنًا فساد تأويل من قال: معنى ذلك: يهددهم بردِّهم في ضلالتهم.
وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من قبل أن نجعل الوجوه منابتَ الشعر كهيئة وجوه القردة، فقولٌ لقول أهل التأويل مخالف. وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الخالفين، على خطئه شاهدًا.
وأما قول من قال: معناه: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها، فنردّهم إلى الشأم من مساكنهم بالحجاز ونجدٍ، فإنه وإن كان قولا له وجه مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد. وذلك أن المعروف من الوجوه في كلام العرب، التي هي خلاف الأقفاء، وكتاب الله يُوَجَّه تأويله إلى الأغلب في كلام مَن نزل بلسانه، حتى يدلّ على أنه معنيٌّ به غير ذلك من الوجوه، الذي يجب التسليم له. اهـ.