فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي مسند الإمام أحمد «أن رجلا أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أذنب ذنبا، فلما وقف بين يديه قال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، فقال: قد عرف الحق لأهله».
وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئا غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته. والإخلاص: أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونيته. وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، من أحد غيرها وهي حقيقة الإسلام كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهي ملة إبراهيم عليه السلام التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.
فصل:
إذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك الجواب عن السؤال المذكور، فنقول، ومن الله وحده نستمد الصواب.
حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به، هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فعكس من نكس الله قلبه، وأعمى عين بصيرته، وأركسه بكسبه، الأمر وجعل التوحيد تشبيها، والتشبيه تعظيما وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا- فضلا من غيره- تشبيها لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، بل إذ فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد.
فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات.
ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده، ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة.
ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه. وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم فازدادوا بذلك نورا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}، إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.
ومنها: التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها: التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به.
ومنها: الحلف باسمه تعظيما وإجلاله، فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه.
وأما في جانب التشبه به: فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفا ورجاء والتجاء واستعانة فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيقة بأن ويذله غاية الهوان، ويذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته» وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة لتشبه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والالهية؟ كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، يقال لهم أحيوا ما خلقتم».
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة» فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر.
والمقصود: أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته؟ وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلاّ لله وحده، كملك الأملاك، وحاكم الحكام، ونحوه.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أن أخضع الأسماء عند الله رجل يسمى: بشاهان شاه- ملك الملوك- لا ملك إلاّ الله» وفي لفظ «أغيظ الله رجل يسمى بملك الأملاك».
فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلاّ له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده وهو حاكم الحكام وحده، فهو الذي يحكم الحكام كلهم، ويقضي عليهم كلهم، لا غيره.
إذا تبين هذا فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماؤه وصفاته، ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. وقال تعالى عن خليله إبراهيم إنه قال لقومه: {مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فما ظنكم أي يجازيكم به إذا لقيتموة وقد عبدتم غيره وماذا ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟ وماظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد بتدبير خلقه لا يشرك فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، فلا يخفي عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فأنهم يحتاج إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، إلى من قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم وإلى من يستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم، فأما القادر على كل شيء الغني عن كل شىء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده وظن به ظن سوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر وقبحه مستقر في السليمة فوق كل قبيح.
يوضع هذا: أن العابد معظم لمعبوده، متأله له، خاضع ذليل له، ورب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والجلال والتأله والتذلل والخضوع، وهذا خالص حقه، فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره، أو يشرك بينه وبينه فيه، ولاسيما الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه، كما قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الآية أي إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريك له في رزقه، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا به متفرد به وهو الإلهية، التي لا تنبغي لغيري، ولا تصح لسواي؟
فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري، ولا عظمني حق عظمتي، ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي فما قدر الله بحق قدره من عبد معه غيري. اهـ. بتصرف يسير.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام قال: وما دينه؟ قال: يصلي ويوحد الله. قال: استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه. فطلب الرجل ذلك منه فأبى عليه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: وجدته شحيحًا على دينه. فنزلت {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من طرق عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فامسكنا عن الشهادة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في كتاب الله حتى نزلت علينا هذه الآية {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلما سمعنا هذا كففنا عن الشهادة وأرجأنا الأمور إلى الله.
وأخرج ابن الضريس وأبو يعلى وابن المنذر وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال: إني ادخرت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعد ورَجَوْنا.
وأخرج ابن المنذر من طريق المعتمر بن سليمان عن سليمان بن عتبة البارقي قال: حدثنا إسماعيل بن ثوبان قال: شهدت في المسجد قبل الداء الأعظم، فسمعتهم يقولون {من قتل مؤمنًا} [المائدة: 32] إلى آخر الآية فقال المهاجرون والأنصار: قد أوجب له النار. فلما نزلت {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} قالوا: ما شاء الله يصنع الله ما يشاء.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: «لما نزلت {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...} [الزمر: 53] الآية. فقام رجل فقال: والشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية».
وأخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال: لما نزلت هذه الآية {يا عبادي الذين أسرفوا...} [الزمر: 53] الآية. قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل قال: والشرك بالله؟ فسكت مرتين أو ثلاثًا، فنزلت هذه الآية {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فاثبتت هذه في الزمر وأثبتت هذه في النساء.
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في هذه الآية: إن الله حرَّم المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن بكر بن عبد الله المزني {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} قال: ثنيا من ربنا على جميع القرآن.
وأخرج الفريابي والترمذي وحسنه عن علي قال: أحب آية إلي في القرآن {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
وأخرج ابن جرير عن أبي الجوزاء قال: اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة، فما من شيء من القرآن إلا سألته عنه، ورسولي يختلف إلى عائشة، فما سمعته ولا سمعت أحدًا من العلماء يقول: إن الله يقول لذنب لا أغفره.
وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يموت لا يشرك بالله شيئًا إلا حلت له المغفرة، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، إن الله استثنى فقال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}».